الأثر العميق للحضارة الإسلامية في شبه القارة الهندية
سبتمبر 10, 2024قلاعٌ حصينة للدين (المدرسة في شبه القارة الهندية)
سبتمبر 11, 2024بقلم د. أحمد شتيوي (أخصائي طب الأسنان)
بسم الله، والصلاة والسلام على نبي الإسلام وإمام المرسلين وإمام أئمة المسلمين ﷺ، مَن جعله الله ومَن تبعه رحمةً للعالمين، فكان ببذله وجهاده وجنوده وأتباعه غيثاً وفضلاً من الله للبشر، وكانوا عباداً يأخذون من أنفسهم لرسالته السامية، الرسالة المفقودة في أيامنا والتي تحنّ البشرية لها وتئنّ مِن فقدها. أما بعد:
فهذا استكمال للمقال الأول، الذي أردت منه أن نستحضر معنى يُتمنا وسط البشر، وما له من أثر علينا وعلى البشر، وقد استعرضنا ثلاثة معانٍ، كانت:
- خطورة معنى الإمامة وضروته بعد رسول الله ﷺ.
- ومعنى أن المسلمين لا يكون لهم إلا ولي أمر واحد لأنهم شيء واحد.
- والمعنى الثالث: هو قدسية جماعة المسلمين وخصوصيتها، وأنها رابطة أقوى من الدم، ولها يُبذل الدم.
وتعمقنا في تلك المعاني نوعاً من التعمق لأهميتها ولضرورة عودتها لضميرنا ووعينا مرة أخرى ولذاكرتنا المستمرة لا الموسمية، ليس فقط لضرورة الواقع المؤلم الذي نحياه ولا للمستقبل الذي ينتظرنا نحن وأبناؤنا إن استمر الحال على ما هو عليه؛ بل لموقفنا أمام الله.. مصيرنا الذي نقترب منه كل يوم.
قال الله ﷻ: ﴿مَثَلُ ٱلَّذِینَ حُمِّلُوا۟ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ یَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ یَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [الجُمُعَةِ: ٥] فقد قال القرطبي: “وفي هذا تنبيهٌ من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه، ويعلم ما فيه لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء”. وقال: “ثم لم يحملوها: أي لم يعملوا بها”.
ولعلي لو استشهدت بهذه الآية على حالنا وخوّفت بها من مصيرنا، لنقدني الكثير لأننا لا نقترف كل ما في الآية! ولأن هناك صحوة تتكون وتتزايد وهناك من يعمل للدين ويبذل، وهذا صحيح، ولكن الآية في قرآننا وليست في التوراة!
دعك من استشهادي فأنا بالطبع لا أسقطه علينا كاملاً، ولنصعد إلى مستوى البشرية كلها وكمؤمنين بشهود المسلمين على الناس، هل هذا الحمل الذي حمله المسلمون تستفيد من نوره البشرية الآن أم لا؟ هل قاموا بحق هذا الحمل؟ هل هم الآن يتمتعون بما فيه من صلاح ويسعَدون به في أنفسهم قبل أن يُسعِدوا به الآخرين الذي كُلفوا بإيصاله لهم؟ هل خلق الله البعض مسلمين ومنّ عليهم بهذه النعمة المصيرية، نعمة الدنيا والآخرة، ولم يطلب منهم شيئاً؟ ولم يحمّلهم بحمل؟ هل اصطفاهم ليكونوا أفضل من الناس بلا بذل ولا تضحية؟ إنما يصطفى الله أكثر الناس جهداً وبذلاً وبلاء.. والأنبياء أول مثال.
عندما يخلق الله ﷻ البشر ثم يأذن لبعضهم أن يولد على الرسالة التي يرضاها وعنوانها رحمة العالمين فمن الطبيعي أن يكون هؤلاء أصحاب رسالة! ومن الطبيعي أن يحاسَبوا عليها من بين البشر، وهذه بديهيات، فمنحة معرفة طريق النجاة أعظم منحة وأعظم تحميل للمسئولية، والتقصير فيها أعظم محنة ونسأل الله السلامة من السؤال!
أحياناً أتأمل في نفسي وفي الناس، في دورة الحياة نعيش ونعمل لنطعم أنفسنا وعيالنا ونشتبك مع الحياة فتأخذ منا، وأعز ما تأخذه هو العمر، ولولا أن هناك مَن علمنا أن الحياة بضحكها وبكائها يصلح أن تكون كلها لله لكانت الحسرة قاصمة، ومع معرفتنا بما يجب علينا تجاه ديننا إلا أننا -كمدعين العمل لدين الله – لا نكفي كما يبدو لإقامة ما يجب إقامته!
الآن، دعك منا ونحن المقصرين ولننظر إلى جملة المسلمين.. هل كلهم يحيى بهذه المعاني الذي ألفتُها وتألفها قارئي الكريم وربما ترعرعتَ عليها؟ هل يشير واقع المسلمين أنهم يحيون عليها أو على الأقل يحيى عليها الحد العددي الأدنى الذي يضمن للجميع السلامة؟ تأمل فيمن طحنته الحياة طحناً وأصبح لا يقدر أن يرى الحياة إلا كداً وتعباً في سبيل لقمة العيش وبعد التعب يفرج عن نفسه بشيء من ملهيات الحياة ثم يصحوا غداً ليستكمل الكد، ثم يمرّ العمر وينتهي، وتأمّل فيمن سحرته الحياة، ينام ويصحو في غفلة الملذات بلا هدف ولا معنى! هل هذا شيء يليق بالمسلم أو يليق بالإنسان؟ هذه الصنعة العالية التي خُلقت في أحسن تقويم؟ هذا الكائن الخالد! أليس هذا هو حال معظم المسلمين وكل البشرية في أيامنا؟
ما أريد قوله هنا وتكراره هو ضرورة الانتباه للمصير، وخطورته وضرورة تعميم هذا الإنذار بين المسلمين، فكيف يفر القوم من الخطر وهم لم يعرفوه؟
ثم المعنى الذي لابد من تكراره أيضاً ذكَره عمر بن الخطاب حين قال: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”. وقد رأينا بأعيننا كيف يشرب المسلمون المر كل يوم، لبعدهم عن السبيل وكيف يزيد، بعد أن كان بلاء المسلمين فكرياً بسبب ضلالات الغرب الفكرية أصبح البلاء مادياً ومباشراً. وبعيداً عن تصور أوضاعنا الآن أنها علاج بالكي، وربما هي كذلك، إلا أنه إن لم نستفِق بسبب هذه الصدمات، وهذا وارد ألا نستفيق -فلا ضمانة على ذلك!- لصار الوضع أسوأ ولتجاوز الأمر الكي، هذا على مستوى الجميع، أما على مستوى الفرد فإن دورة الحياة قصيرة والحساب المصيري محتّم إلا لمن قدّم له فأعتق نفسه!
لنكن نحن -من يحاول أن ينجو وينجي أمته ومن ورائها البشرية- هذه الكتلة المهتمة بأمور الإسلام والمسلمين، لنكن واقعيين، لا نريد أن نكون فئة تغرد بعيداً عن الواقع، وتتجاذب هموماً فكرية تجترها كل حين تفرغ فيها كبتها فتكون بلا أثر، ولكي تكون الفكرة ذات أثر لا بد من جعلها حالة تشغل عقول الناس وقلوبهم، لابد أن ينام الناس ويصحوا عليها، لابد أن تكون حاضرة في مجالسهم وفي أسمارهم، ولابد أن تكون لها تذكير دائم عندهم، وتبرز لهم كل وقت وكل حين فيتحركوا لها، ويجب أن يكون الأمر على محورين:
- أولهما: أن وحدة المسلمين أصل لا بد منه للحفاظ على الدين.. وهذا منطقي وشواهده كثيرة في عصرنا من أثر العبث في شعوبنا المسلمة.
- ثانياً: أنه بغير الإسلام لا هناء حياتي في المجمل، وقد أثبت التاريخ هذا بعد أن استشرفه الفاروق عمر، فعبثاً يفعل مَن يحاول أن ينفصل عن هذا المسار ليصلح حاله بتكلفة أقل، أو أن يستبدل بشرع الله شرعاً آخر. وإن تأملت تجد أن هذا المعنى قريب لمعنى ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ﴾ [الحِجۡرِ: ٩]. فمن تمام الحفظ هو حفظ استعلاء الفكرة وأنها لا بديل لها، كما أن من حمل التوراة ثم لم يحملها بحقها ولم يطبقها وُصف بما وُصف.
إن تأثير ضياع الدولة على معاش الناس وحياتهم ظاهر منذ سقوط الخلافة؛ فأي محلل للتاريخ يرى البؤس الحقيقي الذي يحياه المسلمون منذ ضعفوا وتشتتوا، ولا تحصل لبعضهم انفراجات إلا اذا جاء قوم هنا أو هناك ممن يرفع راية الدين وفعّلوا جزءاً ما من الدين لوهلة من الوقت قبل أن ينقض عليهم المنقضون أو يحيدوا هم عن الصواب، وإن تأثير ضياع الدولة المسلمة على مصير المسلمين واضح وجلي في سلوكهم وفي تغلغل الأفكار والتصورات الضالة في مجتمعهم، وإن التذكير بهذه المعاني لابد أن يُظهَر للمسلمين في كل وقت وحين.
ربما كررت في هذا المقال بديهيات معروفة.. فلم أكررها؟
أكررها لأنبه لنقطتين مهمتين:
- أولهما: ألا تخدعنا الدائرة التي نحيا فيها كمهتمين بأمور المسلمين
فإن بعضنا قد أصبح الأمر عنده عقدة منحصرة فيه وفي مجتمعة الفكري يتناقلها مع من حوله من أمثاله، ويفرغ بعضنا ما في جعبته على ما في جعبة الآخر، ونكتفي بهذا ولا ننشر الهم للمسلمين ولا نجعلها قضية رأي عام.
- ثانياً: ألا نستكين للفكرة السائدة أن هناك صحوة
فنركن وننتظر هذه الصحوة أن تكبر! ولا أنكر أن هناك صحوة ولكن هذه الصحوة ليست إلا نوراً لم يعمّ بعد! نوراً لا يكفي لهداية المجموع والكل، ولا حتى يكفي للبعض ففرج عنه الفرج الظاهر، فلا زلنا في مرحلة الخطر وفي أرض المعركة، فأمة مهزومة تحتاج لطاقة أكبر لتنتصر عن أمة منتصرة أتقنت النصر وتجني منه المزيد واعتادت على صناعته! وأن من يشاهد ما يُبذل من تضحيات وبطولات في المعركة الحالية ربما استشعر قرب الخلاص! وقد أثبتت التجربة الحالية في معركة غزة أن الأمر ليس كذلك بعد أن قاربت الحرب العام، ولم يتوقف الفجور والطغيان فيها لحظة ولم يستطع المسلمون كلهم أن يؤثروا في مسار المعركة أي تأثير لصالح إخوانهم! ولم تستطع دولة مسلمة واحدة أن توقف هذه المذبحة الكبرى، بل تواطأ عدد منهم عليها، وانظر كذلك إلى الجرح الغائر في السودان الذي أدمى القلوب وكاد يسحقها. وبناء على التجربة فالأمر كبير! على مقياس كبير! وإن حجم الجهد المطلوب للتعافي كما يبدو لم يُبذل بعد! وإن مسيرة الجاهدين نحو التعافي قليلة العدة والعتاد!
- خطوات عملية
نحن نعلم أن السلطة والسلطان لهم أثر مهول في وعي وفكر الناس وسلوكهم، وبما أن المصلحين بعيدون عن هذه السلطة وقوة تأثيرها الكبيرة ليوجهوا بها الأمة لما ينفعها، وبينهم وبين هذه السلطة ما صنع الحداد! إلا أن عندنا في زماننا هذا فرص وفرص!
تأمل معي أنك تمسك هاتفك وتتصفح موقع تواصل اجتماعي فيقفز اليك إعلان عن تلك السلعة من كل نافذة إعلانية وفي كل وقت ولا يتركك إلا بعد حين! ألا نستطيع أن نروج لسلعتنا هذه ونجعلها حاضرة بين الناس بما أوتينا من قوة، أليس الفضاء مفتوحاً لهذا؟
وقد رأينا أنه ممكن بعد الطوفان بشيء من الجهد والحيلة، ألا يستطيع كاتب أن يبدع رواية تتحدث عن هذه المعاني، وأن يرفع لنا من المعاني أننا يتامى لا إمام لنا ويشعرنا بآلام التشرد والضعف ومآلاته وفظائعه، ويقذف في قلوبنا الأمل أن لنا دولة كبرى لها حدود هذه هي ويرسمها، ويدخلنا في تفاصيلها وتحدياتها؟!
وكمثال: فقد امتلأ (اليوتيوب) بـ(فيديوهات كارتونية) وثلاثية الأبعاد عن الصحابة والأخلاق وعلماء المسلمين وقادتهم، وهذا ضروري إلا أنه لا يشحن لتوجه معين ولا يحرك حركة فاعلة لحل مشاكل الأمة، ولا يهيئ الذهن والبال للحلم المنشود؛ فأين المبدعون لهذا؟ الذين هذا هو زمانهم! وهذه الثغرة المفتوحة هي لهم لا عليهم!
ألا يستطيع كاتب أن ينسج (السيناريو) لمصمم مبدع يأخذها محرك مبدع ومخرج مبدع فينتجون لنا أعمالاً عديدة تطرح هذه الفكرة للأمة لتهتم بها ولها؟ أو ممثلين يجدون في هذا قربة لهم أمام الله، فيعيش الناس الأمل ويصحون وينامون على الحلم بعد كل حلقة من المسلسل، بعد أن صحوا وناموا عقوداً على سفه وتفاهات وضلال؟
هذا معنى يجب أن يناقشه الرجال في مجالسهم والنساء في تجمعاتهم، على الطعام وفي جولات التنزه وفي الأعياد وفي قاعات الانتظار في المصالح الحكومية، وعند الأطباء وفي البنوك والأسواق، ويجب أن تزرع روضات الأطفال هذه المعاني وكل مدرس في دروسه الخصوصية، ومن يستطيع أن يشغّل الشاشة على محاضرة عن هذه المعاني في أي قاعة فليفعل، وكل خطيب مسجد يستطيع أن ينطلق في هذا المعنى فليفعل، وليجعله سلسلة لا يمل منها ولا من تفصيلها، ولنعرف أن بداية وحدة المسلمين تبدأ من الشعوب لا من الحكام، ولهذا تفصيل بحول الله في المقالات القادمة. إلا أن هذه هي الساحة، المسلمون ووعيهم وانشغالهم بالقضية المصيرية.
ضجَّتْ عليكِ مآذنٌ، ومنابر ** وبكت عليك ممالكٌ، ونواح
الهندُ والهةٌ، ومصرُ حزينةٌ ** تبكي عليك بمدمعٍ سَحّاحِ
والشامُ تسأَلُ، والعراق، وفارسٌ ** أَمَحَا من الأَرض الخلافةَ ماح؟
وأَتت لك الجُمَعُ الجلائلُ مأْتماً ** فقعدن فيه مَقاعدَ الأَنواح
يا لَلرّجال لحُرة مَوؤدة ** قُتلت بغير جريرة وجُناح
إن كان هذا النواح من مائة عام قبل كل ما حدث! فماذا يجب أن يكون الآن؟
لنبدأ بالممكن والمستطاع ولتبدأ الأعمال قوية كانت أو ضعيفة.. المهم أن تبدأ.
ولنستكمل في أعدادنا القادمة، بحول الله تعالى وقوته.