هكذا أصبحنا جميعاً يتامى! (2/2)
سبتمبر 11, 2024مهارةُ جذبِ الانتباه في سيرة النبي ﷺ (1/2)
سبتمبر 11, 2024بقلم الشيخ نور عالم خليل أميني (رحمه الله)
لقد بدأت المدارس والجامعات الإسلامية في شبه القارة الهندية عامها الدراسي في شهر شوال ١٤٠٦هـ – ١٤٠٧هـ ككل الأعوام الدراسية، وتم قبول الطلاب الجدد، كما تم نقل الطلاب القدامى إلى السنوات الأعلى، وانتهت عملية الترتيبات اللازمة لبداية التعليم، وبدأ التعليم فعلاً.
وإن الشيء الجدير بالملاحظة في هذه المناسبة أن عدد الطلاب يتزايد كل عام، كما تتزايد المدارس، رغم أن المتخرجين في هذه الجامعات والمدارس الإسلامية الأهلية والحائزين على شهاداتها، لا يجدون أمامهم فرصة المناصب الرسمية والوظائف الحكومية ذات الرواتب المرغوب فيها، ولا تقبلهم الجامعات والكليات الحكومية -إلا استثناء- أساتذة ومدرسين عندها.
ورغم ذلك فإن نسبة الطلاب ترتفع في كل من هذه المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية، التي تسير بتبرعات المسلمين وحدهم، ولا تقبل أي معونة من الحكومة، ويزداد إقبال أفلاذ أكباد المسلمين عليها، مما يدل على أن الوعي الديني بات يزداد في المسلمين، وأن الشعور بصيانة العقيدة، وتحصين الشريعة، وحماية الجيل الناشيء من الذوبان في العقائد وتعاليم الديانات المختلفة -والهند من أخصب بلاد الله ديانة- قد أخذ حظه بالفعل في قلوبهم، وذاك شيء جدير بالإشارة والتسجيل. وإن ذلك يرجع إلى طبيعة الصراع الذي فُرض عليهم أن يعيشوه مع المواطنين الهندوس، وهم الأغلبية الكاسحة، حيث جعلوا المسلمين بمواقفهم غير المعقولة يشعرون أن كيانهم الديني غير مأمون، وأن وجودهم العقيدي في خطر شديد.
إن طبيعة الصراع بين أمتين يبعث كلاً منهما على إعداد العدة وصنع القوة، والعناية بمرتكزاتها العقيدية والحضارية والثقافية.. حتى لا يمسها أحد بسوء.
كم من محاولات وكم من مساعٍ بُذلت وتُبذل من أجل القضاء على الكيان الإسلامي في الهند، ومن أجل نزع النشء الإسلامي من حضن الدين والعقيدة، ومن أجل إرغام المسلمين على أن يتخلوا -إذا أرادوا أن يعيشوا في هذا البلد- كلياً أو جزئياً عن شريعتهم ومقتضى دينهم، وعن شخصيتهم الإسلامية المتميزة، وأن يذوبوا في بوتقة الشخصية الوطنية العلمانية العامة.. ولكن المسلمين بفضل من الله وحده لم يقبلوا ذلك في قليل أو كثير، بل ازدادوا عناية بما يحمي دينهم، ويصون شريعتهم، ويمنع شخصيتهم من الذوبان، ويمنع جيلهم الجديد من الارتماء في حضن المعتقدات الخرافية والتقاليد والطقوس الوثنية.
وإن هذه المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية -كما قلت مراراً- قلاع حصينة للدين، وهي التي تضمن للمسلمين بقاءهم وبقاء دينهم مع جميع مزاياهم الحضارية والثقافية، ولولاها لما كان لهم هذا الكيان الديني الشامخ المستقل الصلب الذي لا يقبل أي عملية للكسر والتذويب والدمج.. فهي التي تُخرج لهم علماء الكتاب والسُّنة، ودعاة الدين، وخطباء الإسلام، وأئمة المساجد، وقادة الفكر، ورجال التربية والتعليم، وزعماء الإصلاح، وكتاباً ومؤلفين في المواضيع الإسلامية وصحفيين إسلاميين، وأدباء الدعوة والتبليغ، وأساتذة الدراسات الإسلامية، والباحثين في علوم الكتاب والسنة، وعلماء العربية بآدابها وفنونها وصانعي الرجال، ومُخرجي الأبطال، ومُربيي الأجيال..
فليهنأ للمسلمين شعورهم الديني المتزايد، وليهنأ للمدارس والجامعات الإسلامية هذا الامتداد والانتشار، وليهنأ للجيل الإسلامي الناشئ هذا الإقبال المطلوب على دور التعليم والتربية ومراكز الإشعاع الفكري والعقيدي..
ماذا تعني المدرسة في الهند؟
إن المرابطين على الثغر الإسلامي في الهند كانوا عقلاء أذكياء يوم شادوا للحفاظ على الكيان الإسلامي في مدى البلاد معاقل حصينة في صورة المدارس والمعاهد، إنهم رأوا أنه لا يمكن الوقوف في وجه الخصوم الفاتحين -أعنى الإنجليز والقساوسة ورجال الإرساليات التبشيرية- الذين يملكون الحول والطول، والجنود البنود، ويتمتعون بأكبر سلطة وقوة على وجه الأرض في عصرهم، وحكومات موحدة الأركان، ومملكة شامخة البنيان لا تغرب عنها الشمس، لا يمكن الوقوف في وجههم بسلاح الحديد والنار، ولا سبيل إلى مقاومة زحفهم العقائدي الذي يمده زحفهم الاستعماري السياسي بشن معركة مكشوفة في الميدان تنفع فيها قوة الساعد والسنان.
ولقد جربوا -فعلاً- محاولات عديدة للتخلص وخاضوا معارك عديدة، ولكنها باءت بالفشل، وكان آخرها تلك المعركة التي خاضتها مع الإنجليز في ميدان قرية «شاملي» (الواقعة على مقربة نحو خمسين ميلاً من مدينة “ديوبند” التي تحتضن أكبر وأقدم جامعة إسلامية خاصة بالمسلمين (الكتيبة المؤمنة المؤلفة من خلاصة عباد الله المخلصين، والعلماء العاملين، وعلى رأسهم الإمام «محمد قاسم النانوتوى» أحد مؤسسي جامعة ديوبند، والحاج الصالح «إمداد الله» المعروف بالمهاجر المكي، والعلامة الفقيه «رشيد أحمد الكنكوهي» والحافظ ضامن (الذي وقع شهيداً على أرض المعركة) وغيرهم، ذلك لأن السلطة الحاكمة لا تقاوَم إلا بسلطة مثلها.
ولهذا كان من المحتم إنشاء معاقل منيعة يهجمون منها على أوكار العدو، وتتكسر على صخرتها كل هجمة تصطدم بها، ويربون داخلها الصفوة المختارة، والخلاصة المصطفاة من فتيان الإسلام تربيةً دينيةً وإيمانيةً صحيحة، ويدججونهم بالأسلحة العلمية من كل نوع ينفع في المعركة، وتكون بمثابة مراكز النوعية والإشعاع الديني والعلمي، والثقافي والتربوي، الذي يرجع إليه الشعب المسلم في كل شأن من شئون دينه وعقيدته، ويشحن هناك بطاريته الإيمانية، وتكون كذلك بمثابة ثكنات إسلامية تمتلئ بقوات مسلحة مدربة ذات غناء وكفاءة لدى كل معركة بين الجاهلية والإسلام، وبين لهيب أبي لهب وسراج النبي محمد ﷺ.. طبقاً لتعبير الشاعر الإسلامي الدكتور محمد إقبال رحمه الله.
ولم تكن هذه الخطوة أمراً هيناً، وإنما كانت دعوة للموت الزؤام؛ وذلك لأن الإنجليز -هم الآخرون- نظروا إلى هذه المدارس باعتبارها ثكنات إسلامية، فقد كانوا أذكياء في السياسة، يدركون خطورة الأمر قبل تمامه، ويتبينون أعقاب الأمور بالنظر إلى صدورها مهما كانت أشباهاً ملتوية. فحسبوا هذا الأمر حساباً دقيقاً، وتتبعوا المحاولات الإسلامية الهادفة إلى هذه الناحية، وصبّوا الويلات على أبطالها، والدليل على ذلك مثلاً قصة تعقب ومحاولات اعتقال الإمام «محمد قاسم النانوتوي»، والشيخ الحاج عابد حسين، من مؤسسي جامعة دیوبند، وغيرهما، تلك المحاولات التي دأبت عليها السلطة الإنجليزية حتى قضوا نحبهم وما بدلوا تبديلاً.. وعلى ذلك فكم من أبطال المرابطين على الثغر الإسلامي -بأسلوب من أساليب المرابطة- عُذب، وشُرد، ونُفي، وقُتل، وأُهين.
يتضح من ذلك أن «المدرسة» إذا كانت تعني في بلد ما مؤسسة تعليمية تلقن العلم والمعرفة فقط، وتزود الطلاب بالمعلومات الثقافية وحدها، فإنها في شبه القارة الهندية أعمق من ذلك وأوسع، وأشمل وأدق، إنها تعني تلك الأهداف السامية التي أشرنا إليها آنفاً، إنها بمنزلة آلة تنفخ الحياة في كيان المسلمين الديني، إنها وسيلة وحيدة لإبقاء المسلمين على الإسلام في هذه الديار، إن المسلمين ههنا يحتاجون إليها احتياج الجائع إلى الغذاء والمريض إلى الدواء، والعريان إلى الكساء، بل السمك إلى الماء.
وإن مما يجدر بالتسجيل والملاحظة أن المسلمين الهنود لا يطلقون كلمة “المدرسة” إلا على المدارس العربية الإسلامية الأهلية التي أقاموها لتلك الأغراض العظيمة، أما المدارس الحكومية فلا يدعونها إلا بكلمة “سكول” الإنجليزية التي دخلت في اللغة الأردية، ثم إنهم توسعوا في كلمة “المدرسة” فأطلقوها على صُغرى المدارس مثل الكتاتيب، وعلى كبرى المدارس حتى التي تعدل الجامعات.
وإذا كانت المدرسة قد أدت فيما قبل استقلال الهند وتقسيمها ذلك الدور الجامع، فإنها تؤدي اليوم دوراً لا يقل عن الأول، بل قد يفوقه بالقياس إلى الظروف والملابسات التي خلقها الاستقلال والتقسيم، والعصبيات الطائفية التي عمل الإنجليز على بث سمومها في المجتمع الهندي، وزرع الإحن والعداوة والحقد فيما بين الهندوس والمسلمين، وما جلوا عن الهند حتى ثبّتوا الشعور في قلوب المواطنين الهنادك بأن المسلمين هم خطرهم الحقيقي ومنافسهم الوحيد، وعدوهم الطبيعي في هذه البلاد.
ولقد تحولت الهند بعد الاستقلال إلى دولة علمانية، وقرر واضعو الدستور أن الحكومة لا تتعرض لدين المواطنين وعقيدتهم نفياً أو إثباتاً، ولا تعلمهم ذلك في مدارسها وجامعاتها إلا كمادة المعارف العامة، لأن الهند ذات ألوان وأشكال من الأديان والنِّحل. فليكن الحبل في هذا الشأن متروكاً على غارب المواطنين، هنالك برز دور هذه المدارس، لأن المسلمين لم تعد لديهم وسيلة إلى تعلم الدين والعقيدة، والكتاب والسُّنة، والاسترشاد في الشئون والقضايا الدينية، والاستعانة فيما يتعلق بالحفاظ على حقوقهم وصيانة شخصيتهم الإسلامية من الذوبان والاندماج في معتقدات الأغلبية الهندوكية.. لم يعد لديهم إلا هذه المدارس والمؤسسات التي نشروا شبكتها في طول البلاد وعرضها.
ولهذا أكثروا من إنشاء المدارس، حتى بلغت عشرات الآلاف فيما بين الصغيرة والكبيرة، ولا تزال هذه السلسلة المباركة لإنشاء المدارس والمؤسسات قائمة، والمعنيون بالقضايا الإسلامية من أفاضل علماء الهند دائمو الدراسة لأوضاع المسلمين الدينية والاجتماعية في كل منطقة في الهند، ودائبو التفكير في إنشاء أمثال هذه القلاع في كل مكان يحتاج إليها، وتوسع نطاق القديمة منها وتجديدها وتطويرها. ولذلك فإن تقديم العون لهذه المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية في الهند يعني إسعاف المسلمين بشأن الحفاظ على الدين والعقيدة والكيان الإسلامي في هذه البلاد، ولا يعني مجرد تقديم العون للتزود بالمعلومات الثقافية والدينية وحدها.
قصة المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية في شبه القارة الهندية
إذا كان هناك شعب أثبت تماسكه المطلوب في الصراع الحضاري والثقافي والعقيدي، معتمداً كل الاعتماد على عون الله، ثم ساعِده، وأكد نجاحه إلى حد كبير في صنع مستقبله بيده، وكتابة حظه بمداد من جهده العقلي ووعيه العقيدي المتيقظ، وذكائه الفكري والديني، رغم اتصال المؤامرات وتسلسل المحاولات منذ مدة متطاولة بقصد تفريغه من أصالته الحضارية والثقافية والعقيدية.. فإنه شعب عظيم حقاً، سيتكسر بإذن الله على صخر عظمته وصموده كل نوع من محاولات تذويبه واحتوائه.. لأن عظمة الشعب لا تقاس بكثرة أفراده وغنائه المادي، وتطوره في الشكل والمظهر، وارتفاع مستواه الاقتصادي والمعيشي وإجادته لفن المحاكاة والتقليد، وإكثاره من استيراد الخبرات والمناهج والأفكار.. وإنما تقاس عظمته بمدى قدرته على تجاوز المحن والأزمات، والنجاح في إحباط المؤامرات التي تحاك ضد ما يعتز به من عقيدة ودين وهدف، وضد قيَمه ومُثُله الحضارية العريقة التي تميزه عن غيره من الشعوب.. وإنما تقاس عظمته بقدر ما يتمتع به من غيرة على مقوماته، وبقدر أصالة الفكر والتراث.
ذلكم هو شأن الشعب الإسلامي الهندي الأبيّ المعتز بدينه وبكل ما يمت إليه بصلة ما، والذي أبى أن ينهار أمام الاستعمار القوي الماكر، ومحاولاته لتذويبه وصهره في بوتقة المسيحية المشوهة والصليبية الحاقدة.. ولا يزال يخوض أعنف صراع حضاري وعقيدي تدور رحاه على طول الأرض التي يسكنها، والتي أفرغ في تطويرها الحضاري أصلح ما عنده من كفاءة وذكاء وجهد طوال القرون المتطاولة.
نحن نعرف أن هناك شعوباً إسلامية في كثير من بلاد الله ذات الحضارة العريقة والعقيدة الراسخة، ومع ذلك استطاع الاستعمار أن يفرض عليها الاستسلام كلياً أو جزئياً، ولم توفق من سوء الحظ رغم العقول المفكرة ورغم القيادة الجريئة أن تصمد في وجه الاستعمار الذي مُنيت به صموداً مطلوباً، ولم تقدر على إحباط محاولاته الماكرة فكرياً وعقدياً.
ولكن الشعب الإسلامي الذي يقطن هذه القارة الشرقية، قد استطاع بحول الله وقوته، وبذكائه الديني غير العادي، وبما يمتاز به من صدق الولاء والانتماء إلى النبي العربي الهاشمي القرشي سيدنا محمد ﷺ ورسالته ودعوته الخالدة الباقية، وبروح التضحية والتفاني في سبيل الدين الذي يعتز به، تلك الروح التي خلقتها فيه التربية الدينية والإيمانية الصحيحة، التي أخذه بها العلماء الربانيون، والدعاة الصادقون، الذين عصروا قواهم الفكرية والدعوية في القيام بخدمة الدعوة والقرآن.. استطاع أن يحبط محاولات الاستعمار البريطاني فيما يتعلق بنزعه من حضن الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية والدعوة المحمدية.
وإن استطاع الاستعمار أن يلحق به بعض الخسائر سياسياً واقتصادياً، فإنه لم يستطع بحيلة أو بأخرى أن يُلحق به الأضرار حضارياً أو عقيدياً ودينياً، رغم نظام التعليم والتربية الغربي الذي فرضه على أبناء البلد وأبناء هذه القارة، ليعدّ منهم جيلاً هندياً في جنسيته ولونه ودمه وأوربياً في فكره وعقيدته ومنهج حياته، كما صرح بذلك أحد قادة الاستعمار وهو يفصح عن هدفه من نظام التعليم والتربية الذي كان مطبقاً في هذه الديار.
أتدري ماذا صنع هذا الشعب ليبقى صلب القناة تجاه الاستعمار الغاشم ومؤامراته الاحتوائية والتذويبية؟ محافظاً على دينه وعقيدته وحضارته؟ مبقياً على الكيان الإسلامي بمزاياه وخصائصه؟
لقد رأى أن الاستعمار قد قضى تماماً على الدولة المغولية الإسلامية -التي كانت على علاتها ترساً للإسلام والمسلمين في الشرق الإسلامي- وأنه أحكم قبضته على هذه البلاد، وأنه يحاول بكل ثقله السياسي والاقتصادي والثقافي والتعليمي أن يطمس معالم الإسلام في هذه الأرض، وأن يجعلها أثراً بعد عين، ويخلق أندلساً آخر في الشرق، ويحل حضارته وثقافته محل الحضارة والثقافة الإسلامية، ورأى أن الإسلام وحده هو الهدف الأكبر الحقيقي، وأن المواجهة والمجابهة ليست إلا بين المسيحية والإسلام -رغم عدد من الديانات العريقة في هذه الديار ذات الوثنية الذاهبة في أعماق التاريخ- إلا أنه وحده الذي لا يعرف المسالمة والمهادنة والمساومة مع غيره من الديانات ويجري مع الرياح حيث هبت، أما غيره من الديانات فهي تقبل الميوعة والاندماج والذوبان في يسر، وترضى بالمساومة على “المنافع والأرباح” و”الخسائر” في سهولة..
ورأى أنه لا سبيل إلى مجابهته في القريب العاجل في الميدان بقوة الساعد والسنان، فمال إلى إنشاء قلاع دينية في صورة المدارس والجامعات الإسلامية والمجامع والمؤسسات الثقافية، يربي داخلها النشء الإسلامي على التربية الإسلامية، ويثقفها بالثقافة الإسلامية، ويغذي المجتمع الإسلامي بالدم الإسلامي الصحيح الصافي، ويعد جيلاً هندياً في جنسه ودمه ولونه، حجازياً ومحمدياً في دينه وعقيدته وتفكيره ومنهج حياته، ويقاوم كل المؤامرات ضد الإسلام والمسلمين، ويعمل على محاربة الاستعمار وإزالة ضبابه الكثيف الخبيث عن جو هذه الأرض وسمائها، وقد كان هذا الشعب الإسلامي الوفي المخلص موفقاً في ذلك، وقد تم له كل ما أراد، وجاء يوم جلا فيه الاستعمار بعد مدة طويلة زرع خلالها نباتات خبيثة من الحضارة والثقافة، وأمراض الإحن والحقد والبغضاء بين أبناء هذه القارة المنتمين إلى ديانات شتى وجنسيات مختلفة، ولا يزالون يعانون من حصادها المر ويلات لا أول لها ولا آخر.
تلك هي الحلقات الأولى من قصة هذه المدارس والجامعات الإسلامية المنبثة في طول شبه القارة الهندية وعرضها، والتي أدت دور الحارس الأمين والمرابط النشيط اليقط في صيانة الكيان الإسلامي والحفاظ على شعائر الإسلام في هذه الديار، ومنعت الهند من أن تتحول أندلساً أخرى، وقفت دون إرادة الصليبية التي حاولت أن تنتقم من الإسلام في هذه الديار، لقاء الذل الذي أذاقه إياها صلاح الدين الأيوبي أحد أبناء الإسلام البررة في فلسطين.
وللقصة حلقات لاحقة تحتاج إلى صفحات واسعة، وقلم سيال سريع السير، وقارئ صبور لا يعرف الملل، وإيجازها في كلمات أن هذه المدارس والجامعات الإسلامية، أدت دور الجندي الوفي في المرابطة على الثغر الإسلامي في هذه الظروف العصبية التي أعقبت الاستقلال.
وجلا الاستعمار بمساعي التحرير التي قام بها أبناء البلاد، وكانت لأبناء الإسلام الأولوية والقدح المعلى فيها، وقامت في الهند دولة علمانية لا تنحاز لدين دون دين، وإنما تركت الحبل فيما يتعلق بالدين والعقيدة على الغارب.. ولكن أدواء الإحن والبغضاء والعداء، التي رمى بها الاستعمار أبناء هذه البلاد، أعطت ثمارها البغيضة، وبدأت سلسلة الصراع بين أبناء الإسلام وبين غيرهم من أبناء البلاد الذين كانوا الأكثرية، وهم الإخوان الهندوس، ويبرد الصراع في مكان ليسخن في آخر، ولكنه قائم على قدم وساق.
إنه هو الآخر صراع حضاري وثقافي دقيق وعميق وشامل، يستهدف عقيدة المسلمين وثقافتهم وشريعة ربهم وأحكام كتابه وسنة نبيه. وقد تكون الحكومة معذورة بحكم موقفها العلماني، وقد تكون متفرجة أو واقفة موقف اللف والدوران بحكم أغلبية الإخوان الهندوس في البلاد، وفي السلطة على السواء.. ولكن مسئولية المسلمين ومسئولية غيرهم من المواطنين أيضاً تبقى قائمة نحو الحفاظ على العقيدة التي ينتمون إليها، والدين الذي يتبعونه.
هنالك برز دور هذه المدارس والجامعات وعلى رأسها الجامعة الأم: الجامعة الإسلامية دار العلوم – ديوبند (الهند)؛ لأنه لم يعد هناك سبيل إلى الحفاظ على العقيدة وتوعية المجتمع الإسلامي بأحكام الكتاب والسنة وإنارة الطريق أمام المسلمين ليعيشوا مسلمين ويموتوا مسلمين، ويربوا أولادهم وأفلاذ أكبادهم على تعاليم الإسلام، لم يعد من سبيل إلا سبيل هذه المدارس والجامعات الإسلامية الأهلية، التي تسير بتبرعاتهم وحدها في أغلب الأحايين.
وإن كل ما ترى اليوم في شبه القارة الهندية من المد الإسلامي المتزايد، وكون الشعب الإسلامي مرهف الشعور وحار العاطفة، وشديد الحب لله ولرسوله، وكثير الحنين إلى مطلع فجر الإسلام ومهد الإيمان، ومن كون الثقافة الإسلامية تؤدي دورها المرتقب رغم المناخ غير الملائم، وكون أبناء الإسلام يعيشون بمزاياهم الحضارية والثقافية والدعوية.. إنما يرجع الفضل في كل ذلك إلى هذه المدارس والجامعات والمؤسسات والمعاهد الثقافية المنبثقة منها، والحركات والدعوات المتفجرة من ينبوعها.
ولقد سبق أن قلت: إن المدارس والجامعات الإسلامية إذا كانت تعني في غير الهند مجرد مراكز للتثقيف والتعليم والتربية، فإنها في الهند تحمل معنى أدق وأشمل من ذلك إنها قلاع الإسلام ههنا، إنها تصنع الرجال، وتربي الأبطال، وتخرج الدعاة وتصوغ العلماء والباحثين، وتمد المجتمع الإسلامي الهندي بكل ما يحتاج إليه من غذاء روحي ودواء إيماني ووعي إسلامي، وتسعفه بكل توجيه وإرشاد يحتاجه فيما يتصل بدينه ودنياه، وتغذيه بالعقول المفكرة والرؤوس المدبرة والقيادة الصالحة، وتوقد مجامر القلوب إذا خمدت، وتشعل العواطف إذا فترت، وتوقظ المواهب إذا جمدت، فلتبقَ هذه القلاع حصينة متينة، لتزدهر هذه الدوحات ولتتفرع، ولتنمو هذه الأشجار وتورق وتزهر وتثمر أكثر من ذي قبل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الشيخ نور عالم خليل أميني، المسلمون في الهند بين خدعة الديمقراطية وأكذوبة العلمانية، ط: دار الصحوة للنشر/ القاهرة، ط1، 1988م، ص69-80.