قلاعٌ حصينة للدين (المدرسة في شبه القارة الهندية)
سبتمبر 11, 2024أمجاد المسلمين في الهند
سبتمبر 11, 2024بقلم الشيخ محَّمد علي محمَّد المسعود (عضو الهيئة العلمية في مؤسسة (اددف))
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ الصَّادق الوعد الأمين، وعلى آله وصحبه، ومن سارعلى دربه إلى يوم الَّدين.
استكمالاً للمقالة في العدد السابق، نتابع الكلام عن هذا الموضوع الذي يعدُّ ركناً هاماً من أركان إيصال الخير إلى الغير، عبر الإقناع والتأثير وتلقين الفكرةِ بكلِّ أشكالها للمتلقِّي، لتتم الفائدة وتصل هذه الفكرة النَّافعة كما أرادها المعلِّم أو الواعظ أو المربِّي أو الخطيب.
وبينَّا في العدد السَّابق أنَّه لا بدَّ لكلِّ من أراد أن ينفعَ بعلمٍ أو تربيةٍ، أن يتَّسم بهذه المهارات التي دونها يصبح كالمحارب دون سلاحٍ في أرض المعركة، فهو أمام مشتِّتاتٍ ذهنيَّة كثيرة، جوَّالات لا تخلو منها يدٌ، وهموم أثقلت الكواهل، ومشاغل حياة لا تنتهي، ألقتْ بظلالها حجاباً كثيفاً على القلوب والأفهام، إلى ما هنالك من أمور تصْرِفُ العقلَ عن تلقي المعلومة،
فلا يجد المعلِّمُ أو الخطيبُ أو الواعظُ أو المربي نفسه إلا في حربٍ ضروسٍ أمام هذه المشتِّتات التي تشغل العقول والقلوب عن تلقي الفائدة، ونجد أن هذه المادة العلمية -مهارة جذب الانتباه- قد أفردت لها الجامعات الغربية فروعاً معتمدة، ليتلقَّى فيها الطّلاب أنواع هذه الفنون بغية إيصال المعلومة وترسيخها لدى المتلقي، وأقيمت لها النّدوات والمحاضرات لتأصيلها وتبيينها وتلقينيها للطلاب، في حين نرى أن سُنَّة وأحاديث النبي الأعظم ﷺ قد سبقتهم بمئات السنين إلى هذا العِلم، فاستخدمها النبي ﷺ لحرصه على هداية أمته وجذب انتباههم لما يلقي عليهم من خيريّ الدّنيا والآخرة، فليس الغرب مَن أوجد هذا العلم كما يزعم أصحابُ الغزو الفكري، بل سبقهم إليه النبي الأعظم ﷺ، وتلقَّاها الصَّحابةُ الكرام منه، وأدَّوْها لنا كما شاهدوها وسمعوها من النبي ﷺ.
ومن هنا جاءتْ الأحاديثُ المسَلسَلةُ التي تروي لنا الحديث على الهيئة أو المكان أو الزمان الذي قال ﷺ حديثه الشريفَ فيه.
وقد توقفنا في مقالة العدد السابق عند أسلوب القِصَّة، ونتابع في عددنا هذا بعض الأساليب النبويَّة الأخرى، ولا نزعم أنَّنَا سنستوعب في هذه العُجالة كل الأساليب النبويَّة، إلا غيضاً من فيض المصطفى ﷺ.
أسلوب المُزاح
المُزاح الصادق الهادف يؤدي وظيفةً كبيرةً في جذب الانتباه وإيصال الفكرة إلى المتلقي، ويلعب دوراً بارزاً في تنبيه الحواس وشَحْذِ الهممِ لاستيعابِ المادةِ العلّميةِ والتربويةِ المطروحةِ، وخصوصاً إذا كانت مادةً دسمةً، إذ إنَّ عقل المتلقي مهما كان قوياً، له قدرة محدودة على الاستقبال والتركيز، ولذا كان حرياً على المعلم أن يوظِّف أسلوب المزاح والطُّرفةِ الهادفةِ فيما يخدم العمليةَ التعليميةَ، بشرطِ أن تبقى في إطارها التربوي، ولا تتعدى ذلك لتصبح شيئاً مخلاً.
يقول الإمام الغزالي في (الإحياء): “إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله ﷺ وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقاً ولا تؤذي قلباً ولا تفرط فيه، وتقتصر عليه أحياناً على النذور، فلا حرج عليك، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاحَ حرفةً يواظب عليها ويفرط فيها ثم يتمسك بفعل الرسول ﷺ”1.
روى الترمذي عن الحسن مرسلاً: ومن المزاح النبوي أن امرأةً أتت النبيَّ ﷺ فقالت: يا رسول الله احملنا على بعير. فقال: “أحملكم على ولدِ الناقةِ“. قالت وما نصنع بولدِ النَّاقة؟ فقال: “وهل تلد الإبل إلا النُّوقَ“2.
أسلوب القسَم
القسم أداةٌ عظيمةٌ لجلب الانتباه وجمْع شتات العقل والقلب، يقول ابن القيم في زاد المعاد: “أقسَم النبي ﷺ على ما أخبر به من الحقِّ في أكثر من ثمانين موضعاً، وهي موجودة في الصّحاح والمسانيد، وأمره الله تعالى بالحلف على تصديق ما أخبر به في ثلاثة مواضع من القرآن: ﴿وَیَسۡتَنۢبِـُٔونَكَ أَحَقٌّ هُوَۖ قُلۡ إِی وَرَبِّیۤ إِنَّهُۥ لَحَقࣱّۖ وَمَاۤ أَنتُم بِمُعۡجِزِینَ﴾ [يونس: 53] ﴿وَقَالَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَا تَأۡتِینَا ٱلسَّاعَةُۖ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّی لَتَأۡتِیَنَّكُمۡ﴾ [سبأ: 3] ﴿قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّی لَتُبۡعَثُنَّ﴾ [التغابن: 7]”3.
ومن تلك الأحاديث النبوية الشريفة التي جمعت في طيَّاتها هذا الأسلوب النبوي، ما رواه أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: “واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ”. قِيلَ: مَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذي لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ“4.
ومن ذلك قوله ﷺ فيما رواه أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ“5.
والنبي ﷺ كونه أصدق البشر لا محالة ليس بحاجة أن يقسم الأَيمان على صحة حديثه، وما كان إجراء القسَم منه إلا ليجذب انتباه المتلقي ويلزمه الحجَّةَ بعد أن جعل عقله وقلبه مشدودين بالقَسم على المقسوم عليه.
أسلوب المخاطبة على قدر الأفهام والعقول
خاطَب النبي ﷺ الناس على قدْر عقولهم وأفهامهم، مراعياً بذلك الفروق والقدرات الاستيعابية، فليس كلُّ الناس على قدر واحد من الفهم، وكان ﷺ يحافظ على قلوب المبتدئين، فلا يعلِّمهم ما يعلِّم السَّابقين الرَّاسخين، ويوجِّه حديثه لكل طبقةٍ بما يلائمُ طبيعتها التي تربتْ فيها وظروفها التي ألِفتها، حتى أفرد الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم باباً أسماه: “باب: مَن خصَّ بالعلم قوماً دون قومٍ كراهية ألا يفهموه”.
وخير ما يوضِّحُ هذا الأسلوبَ النبويِّ ما رواه عتبة بن عبد السَّلمي:
“جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَوْضِ، وَذَكَرَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فِيهَا فَاكِهَةٌ؟ قَالَ: “نَعَمْ، وَفِيهَا شَجَرَةٌ تُدْعَى طُوبَى“، فَذَكَرَ شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ؟ قَالَ: أَيَّ شَجَرِ أَرْضِنَا تُشْبِهُ؟ قَالَ: “لَيْسَتْ تُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ شَجَرِ أَرْضِكَ“. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَتَيْتَ الشَّامَ؟ فَقَالَ: لَا، قَالَ: “تُشْبِهُ شَجَرَةً بِالشَّامِ تُدْعَى الْجَوْزَةَ، تَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ وَاحِدٍ، وَيَنْفَرِشُ أَعْلَاهَا“. قَالَ مَا عِظَمُ أَصْلِهَا؟ قَالَ ﷺ: “لَوِ ارْتَحَلَتْ جَذَعَةٌ مِنْ إِبِلِ أَهْلِكَ، مَا أَحَطْتَ بِأَصْلِهَا حَتَّى تَنْكَسِرَ تَرْقُوَتُهَا هَرَمًا“. قَالَ: فِيهَا عِنَبٌ؟ قَالَ: “نَعَمْ” قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ؟ قَالَ: “مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الْأَبْقَعِ، وَلَا يَفْتُرُ“، قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْحَبَّةِ؟ قَالَ: “هَلْ ذَبَحَ أَبُوكَ تَيْسًا مِنْ غَنَمِهِ قَطّ عَظِيمًا؟” قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: “فَسَلَخَ إِهَابَهُ فَأَعْطَاهُ أُمَّكَ قَالَ اتَّخِذِي لَنَا مِنْهُ دَلْوًا“؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فَإِنَّ تِلْكَ الْحَبَّةَ لَتُشْبِعُنِي وَأَهْلَ بَيْتِي؟ قَالَ: “نَعَمْ وَعَامَّةَ عَشِيرَتِكَ“6.
فهذا الصَّحابيُّ أعرابيٌ من البادية، لم يعاين إلا الإبل والغنم، وأراد النبي ﷺ أن يكون لحديثه مع هذا الأعرابي أبلغ الأثر، وذلك بإثارة انتباهه عن طريق مخاطبته بما يعقل، ويتدرج معه شيئاً فشيئاً حتى يوصل إليه الفكرة التعليمية بما يرسَخُ في ذهنه بعد الفهم والاستيعاب، ونلاحظ أنَّ النبيَّ ﷺ بصبرٍ وأناةٍ ودون مللٍ، أخذ يلقِّنه الفكرة بما يعقل بقوله ﷺ:
“هل ذبح أبوك تيساً من غنمه قطُّ عظيماً فسلخ إهابه فأعطاه أمَّك وقال اتخذي لنا منه دلوا“.
بهذا الحوار البسيط الذي يدور حول ما تعوَّده الأعرابي في باديته وما شاهده في حياته من أمور بسيطة استطاع النبي ﷺ إيجاد طريقةٍ لإثارة انتباهه وإيصال الفكرة له، فتلقى الأعرابي كلام النبي ﷺ ووقع في قلبه موقع المطر في الأرض العطشى.
أسلوب السكوت أثناء الكلام
ومن تلك الأساليب التأثيريَّة، أسلوب السُّكوتِ أثناءَ الكلام، لكي يثير الفضول لدى المتلقين، ويعطيهم مساحةً للتفكير فيما سيقوله ويمليه عليهم، وبذلك يكون قد تغلَّب على كل ما يشِّتت أذهانهم بهذه السَّكتة اللَّطيفة التي جاءتْ على غيرِ المعتاد.
جاء في كتاب (المرشد النَّفيس إلى أسْلمةِ طرق التَّدريس) ما نصُّه: “إنَّ وجودَ الفواصلِ والوقفاتِ في أثناء الشَّرحِ أمرٌ مهمٌ؛ لكي يتمكَّنَ الطَّلبة من التفكير والتَّمعن في ما يقوله المعلِّمُ ويفعله”7.
وقد استخدم النبي ﷺ السَّكوت كطريقةٍ ناجحةٍ لإثارة الانتباه لدى الصَّحابة رضي الله عنهم، وتهيئة الذِّهن في كثير من المواقف التعليمية، فعن أبي بَكرة رضي الله عنه قال: خَطَبَنَا النبيُّ ﷺ يَومَ النَّحْرِ، قالَ: “أتَدْرُونَ أيُّ يَومٍ هذا؟” قُلْنَا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسْمِهِ، قالَ: “أليسَ يَومَ النَّحْرِ؟” قُلْنَا: بَلَى، قالَ: “أيُّ شَهْرٍ هذا؟” قُلْنَا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسْمِهِ، فَقالَ: “أليسَ ذُو الحَجَّةِ؟” قُلْنَا: بَلَى، قالَ: “أيُّ بَلَدٍ هذا؟” قُلْنَا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، فَسَكَتَ حتَّى ظَنَنَّا أنَّه سَيُسَمِّيهِ بغيرِ اسْمِهِ، قالَ: “أليسَتْ بالبَلْدَةِ الحَرَامِ؟” قُلْنَا: بَلَى، قالَ: “فإنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، إلى يَومِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، ألَا هلْ بَلَّغْتُ؟” قالوا: نَعَمْ، قالَ: “اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أوْعَى مِن سَامِعٍ، فلا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ“8.
وهكذا يتبين لنا من خلال هذه الأمثلة -التي هي غيض من فيض من أحاديث النبي ﷺ وسيرته العطرة- أنَّ النبيَّ ﷺ استخدم هذه الوسائل التعليمية حرصاً منه على جذب انتباه صحابته الكرام وأمَّته من بعدهم، ليوصل لنا الخير وتتم الفائدة العلمية والتربوية، وأنَّ المدرِّس والمعلم والواعظ والخطيب والمربي الذي لا يتحلَّى بهذه المهارات التعليمية النبوية، يفوِّت على نفسه وعلى سامعه فرصة إيصال المعلومة ونقْشها في عقل وقلب مَن أراد إيصال الفكرة إليه، ومهما بلغت سويَّته العلمية، فإنَّه لن يصل إلى الهدف والغاية المرجوَّة إلا إذا ما اكتسب هذه المهارات وأصبحت له سجِيَّة دون تكلف.
وأنَّ النبي ﷺ قد سبق بمئات السِّنين الأنظمة الغربية التي أفردت لهذه المهارات فروعاً في الجامعات ومحاضرات مطوَّلة، زاعمين أنَّه لم يسبقهم إليها أحد.. سنجد من خلال دراسة السُّنَّة النَّبوِّية أنَّ رسولنا الكريم ﷺ قد أصَّلها ولقَّنها لأصحابه الكرام،وهم بدورهم قد أدَّوها كما سمعوها وشاهدوها مِن رسول الله ﷺ، ومِن بعدهم التابعين وتابعيهم حتى دوِّنت، ولا زالت تروى إلى يومنا هذا كما هي.
فصلَّى الله على معلِّم البشرية الخير، ورضي عن أصحابه الكرام وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين..
يا من حوى بحرَ الفَصَاحةِ والنُّهى ** ماذا يقولُ الشِّعرُ فيكَ مُعبِّرا
وإذا خَطَبتَ المؤمنينَ فأبحُرٌ ** من ذا تُراه ُ لا يهابُ الأبحُرا
تبكي القلوبُ مَهابةً لحَديثِهِ ** وإذا البيَانُ دعاهُ أبكى المنبَرا
ــــــــــــــــــــــــــــ
1 إحياء علوم الدين، الغزالي، ص70.
2 الترمذي، كتاب الشمائل، باب مُزاح النبي ﷺ، ورواه أبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب ما جاء في المزاح، رقم 4998.
3 زاد المعاد،ابن القيم الجوزية، 2/313.
4 رواه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب الوصية بالجار رقم 6016.
5 رواه النسائي، كتاب الإيمان وشرائعه، علامة حب الإيمان، رقم 5017.
6 رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، مسانيد المقلين، مسند عتبة بن عبد السلمي، رقم 17642.
7 المرشد النفيس إلى أسلمة طرق التدريس، محمد صالح جان، ص190.
8 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الحج، باب الخطبة أيام مِنى، رقم 1741.