مهارةُ جذبِ الانتباه في سيرة النبي ﷺ (1/2)
سبتمبر 11, 2024خصائص الأسرة في الإسلام (2/2)
سبتمبر 13, 2024بقلم أ د. أحمد محمود الساداتي (رحمه الله)
بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين، والصلاة والسلام على خير المرسلين .
شبه القارة الهندية التي تضم اليوم دولتي باكستان الإسلامية والهند الهندوكية1 بدأ أظهر أدوارها التاريخية -على إجماع من المؤرخين- بالفتوحات الإسلامية، وأخصها تلك التي توغل فيها الغزنويون، ومن جاء من بعدهم بهذه البلاد منذ أواخر القرن الرابع الهجري، وصحبهم فيها جملة من العلماء والمؤرخين والرحالة المسلمين، الذين درسوا أحوال الهند وكشفوا عما كان بها من حضارات ومدنيات عريقة تقصّوا أسسها و تفصيلاتها .
وتاريخ شبه القارة الهندية القديم، فيما قبل فتوح المسلمين، غالبيته الغالبة عموماً يكتنفها الغموض الشديد. ولولا القليل منه الذي استشفه المؤرخون من الكتب الهندية الدينية القديمة، مثل الويدا والمهابهارتا، ومن أكداس أساطير الهنود القدماء، وما وصل إلينا من تدوينات جوّابي هذه البلاد في الأزمنة الغابرة من أمثال السفير الإغريقي (ميغا ستين) والراهبين الصينيين البوذيين (هيون تسيانغ) و(فاهيان)، لظل ماضي هذه البلاد مجهولاً إلى درجة كبيرة. ذلك أن آثارها وعادياتها القديمة التي اكتشفت حتى اليوم، لا تعد في الغالب ثبتاً وثيقاً مفصلاً لماضيها على نطاق واسع نظير ما عند مصر واليونان.
والمسلمون الذين أسهموا في حفظ تراث اليونان وزادوا عليه، هم أنفسهم الذين أظهروا العالم على الكثير من تراث الهند الذي اطلعوا عليه فجر الإسلام ومطلع ضحاه، فحبب إليهم الاستزادة بما عند غيرهم من مختلف فنون المعرفة2 ودفعهم إلى طلبها .
صنع المسلمون ذلك ولم يكن قد مضى عليهم بالهند أكثر من قرن واحد من الزمان، ولم يكونوا يملكون من أراضيها إلا ولاية واحدة صغيرة بالقياس إلى مساحة الإقليم الشاسعة هي السند التي كانوا قد دخلوها أواخر القرن الأول الهجري.
أوغل المسلمون ابتداء من أواخر القرن الرابع الهجري في هذه البلاد، فإذا بعلمائهم يقفون على ما عند الهنود من فنون المعرفة الكثيرة، على نطاق واسع، من أفواه المشتغلين بها من رجالهم بعد ما كانوا قد اطلعوا على قدر منها في بطون كتبهم، ويتعرفون على أحوالهم وعقائدهم بمخالطتهم ومسائلة كهنتهم ورهبانهم ومناظرة فلاسفتهم. وكان إمام هؤلاء العلماء الأعلام جميعاً العلامة أبو الريحان البيروني العارف بلغات الهند. وفيما تركه من كتب قيمة عن هذه البلاد ثبت لذلك كله .
واستقر الفاتحون بعد قليل بالبلاد التي فتحوها، فحُفظت بذلك أموال الهند وثرواتها عليها بعد أن كان الغزاة يحملون معهم الكثير منها إلى بلادهم.
واستعصى المسلمون على البوتقة الهندية التي انصهر فيها السيث والهون وكل الغزاة الذين دخلوا الهند من قبل. ليس هذا فحسب، بل إن هؤلاء على قلة عددهم ما لبثت عقيدتهم السمحة الفتية بمبادئها الإنسانية الرفيعة ونظمها الاجتماعية القائمة على المساواة التامة بين معتنقيها، والتي لا تعترف بنظام الطبقات، أن طفقت تجتذب إلى صفوفها ألوفاً وألوفاً من الهنود في ازدياد متدرج، فهم اليوم بشبه القارة هذه يزيد عددهم على مائة المليون.
وما لبثت لغتهم وفنونهم أن صارت إلى لغات المسلمين وفنونهم في الغالب3. ذلك أن الفاتحين كفلوا، بقوة عقيدتهم ومدنيتهم، دخول شعوب البلاد التي فتحوها في ملتهم، دون إرهاق أو عنت، والإقبال على حضارتهم، بل والعمل على ازدهارها في همة وعناية، على ما قال به المؤرخون المنصفون من غير المسلمين وفيهم الهنادكة.
والمسلمون بناة حضارات أينما حلوا ونزلوا. وفي طبيعة الإسلام أنه يدفع دائماً بعجلة الحضارة والمدنية إلى السير من جديد في كل بلد يدخله. وأصحابه حين توغلوا بالهند، ومعهم حضارتهم، التي كانت قد بلغت خارج هذه البلاد درجة عالية من الرقي، لم يهملوا أمر حضارة الهند وثقافتها، بل شغلوا بها وانهمك علماؤهم في كل العصور في النقل منها، حتى ترجموا أقساماً من المهابهارتا نفسها.. سِفر الهنادكة المقدس. وكان من بين السلاطين المسلمين مَن حض الهنادكة أنفسهم على الاشتغال بتراثهم القديم والكشف عن ماضي بلادهم، وبذل لهم في ذلك العون والمساعدة.
ولا تجد -حتى عند أشد المؤرخين الهنادكة كراهية للحكم الإسلامي- إشارة واحدة إلى إحراق المسلمين لكتب الهنادكة وأسفارهم أو إتلافها .
ولئن كان المسلمون قد هدموا جملة من المعابد الهندوكية وحطموا ما بها من أصنام، قضاءً على الشرك والوثنية -ولم يكن ذلك يحدث عادة إلا إبان الحروب وفي المدن الكبرى ليس غير- فإنهم لم يرغموا أحداً من الهنادكة في الغالب على اعتناق ملتهم، فمن دخل فيها منهم كان ذلك دون إكراه أو عنت، فمارس الهنادكة الذين بقوا على دينهم، طقوسهم الدينية في حرية تامة، ولم يُمنعوا حتى من إقامة معابد جديدة لهم إلا في أحوال قليلة.
هذا كما اضطلع جملة منهم بوظائف الدولة، وتولوا إدارة شئون البلاد عموماً إلا في العواصم والمدن الكبرى. وبلغ كثيرون ممن أسلموا منهم مناصب القيادة والوزارة.
وما عاناه عامة الهنادكة من بؤس وشقاء، في بعض العهود، قد شاركهم فيه عامة المسلمين فى الغالب كذلك، حيث يتسم العصر الوسيط بوجود هوات سحيقة في الثراء ورغد العيش تفصل بين أرباب الدولة والتجار والعامة.
وهاهو ذا المؤرخ الهندوكي المعاصر (إشواري براساد) يقرر صراحة بأن الحكم الإسلامي في شبه القارة الهندية كان فيه الكثير من الخير، ويرد ما يسمو به المجتمع في هذه البلاد اليوم من الخصال الحميدة وما يروج فيه من رسوم وعادات راقية إلى تقاليد هؤلاء الفاتحين4 ونفوذ الإسلام فى جميع نواحي الحياة الاجتماعية بها، ذلك النفوذ الذي يظهر أثره جلياً في تعاليم كبار المصلحين الدينيين الهنادكة أنفسهم من أمثال (كبير) و(نانك) الزعيمين السكيين المشهورين.
والمسلمون هم الذين وحدوا الهندستان في دولة واحدة بعد أن كانت في الغالب نهباً لملوك طوائف متقاتلين فيما بينهم على الدوام -وليس بخافٍ أن الخضوع لقانون واحد هو الركن الأساسي الذي يقوم عليه المجتمع- ونهضوا من بعد ذلك بهذه البلاد نهضة رائعة ظهرت آيات الإبداع الواضح فيها فيما خلفوه من آثار علمية وفنية وأدبية ومنشآت وعمائر عديدة فخمة نافعة.
والإسلام كان بالهند، وغير الهند من البلاد التي فتحها المسلمون، ديناً وحكماً ومدنيةً، دخل في حياة الناس العامة والخاصة. وأدى توحيده بين شتى عناصر معتنقيه وعروقهم وحَدبه على التآلف بين أفكار الأجناس والشعوب التي تدين به، إلى أن تَولد في نفوس أبناء هذه الشعوب ميول واحدة ظهرت واضحة قوية أكيدة في مناسبات متعددة، وكان أعظم مظاهرها تساندها جميعاً في مواجهة الاستعمار الأوروبي في قوة وعزم يبشران بقرب استرداد العالم الإسلامي لسابق مجده وعزته .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أحمد محمود الساداتي، تاريخ المسلمين في شبه القارة الهندية، ط: مكتبة الآداب/القاهرة، 1954م، المقدمة.
1 لفظ هندوكي أو هندوسى – وهو معرب – غدا عند كتاب العربية المحدثين علما على أصحاب العقائد الهندية القديمة من سكان شبه القارة الهندية، وهو ما ذهبنا إليه في هذا الكتاب.
2 Havell, E.B. The History of Aryan Rule in India. London nd. P.254-56.
هذا وننبه هنا إلى أن تراث الهند كان بدوره قد تأثر بالثقافة اليونانية التي حملها الإسكندر المقدوني إلى هذه البلاد حين غزاها فأقام بعض قواده دويلات إغريقية بأطرافها .
3 اللغة الأوردوية، أوسع لغات شبه القارة الهندية انتشاراً اليوم، هي من مشتقات لغات المسلمين، وتكتب بالحروف العربية.
4 Prasad. Med. India. PP xxxvl.