أمجاد المسلمين في الهند
سبتمبر 11, 2024أحياء عند ربهم يُرزقون
سبتمبر 14, 2024بقلم د. الحسن بن علي الكتاني (عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ)
ثبات الأسرة الإسلامية هي النتيجة الحتمية للميزات الثلاث السابقة، من عموم وشمول ودوام.. أو ما يمكن أن يعبر عنه بثبات الأسرة وعدم تطورها تطوراً يخرجها عن شخصيتها، أو يغيرها تغييراً يبعدها عن معطيات العمومية والشمولية والديمومة. أما إذا تساءلنا عن مصدر هذه الوحدة: وحدة الميزة، ووحدة الطابع، ووحدة الشخصية في الأسرة الإسلامية؟ ومصدر تلك الفرقة أو التفكك أو عدم التوازن في الأسرة الجاهلية؟
فالجواب: هو القوانين الصارمة التي تحكم الأسرة المسلمة، وتفتقدها الأسرة الجاهلية. فنظام الأسرة في الإسلام له محكمات وثوابت يقوم على أساسها، وسأسرد هذه المحكمات التي يجب أن نعمقها في أسرنا وأن نستذكرها دائمًا..
أولاً: أساس الأسرة في الإسلام العبودية لله عز وجل
فالذي يجمع بين أفراد الأسرة في الإسلام ليس الرابطة الفطرية فقط، هذه موجودة في كل أسر العالم، حتى وضعوا عيدًا للأم وعيدًا للأب، بل يجمع أفراد الأسرة التعبُّد لله سبحانه، لقد قصَّ الله لنا في القرآن قصص أُسَرٍ كثيرة؛ كأسرة إبراهيم وأسرة يعقوب وأسرة موسى وأسرة نوح، وأسرة لوط..
قال الله عن إبراهيم ﴿وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾[البقرة: 130-132]. وكذلك يعقوب: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 133].
ولما عصى ابن نوح أباه وخرج عن مقتضى العبودية، وسأل نوح ربه في أمر ابنه ماذا قال؟ ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾[هود: 46]، خرج من مقتضى العبودية، فأخرجه الله من مسمى الأهلية. ولما شذت امرأة لوط قال تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ﴾[النمل: 57].
فالأسرة في الإسلام تجمعها رابطة العقيدة والتوحيد؛ فصلاح الأسرة بصلاح عقيدتها وحُسْن إسلامها، ومتى خرج أحد أفراد هذه الأسرة عن هذا النظام فهو كما قال تعالى: ﴿عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾[هود: 46].
ثانيًا: من أعظم محكمات هذه الأسرة أن نظام الأسرة في الإسلام قائم على حدود وأحكام
ولقد جاء الأمر باحترام حدود الله والنهي عن تعديها في أكثر من موضع، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ [الطلاق: 1]، ﴿وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 229]، ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾[البقرة: 230].
فإذا أردت لأسرتك النجاة والبُعد عن الظلم والطغيان؛ فالزم حدود الله؛ فللزوج حدود في النكاح وفي الطلاق، وفي النفقة والمعاشرة، في العدل عند التعدد، وفي الحضانة عند الشقاق والفراق، وفي المهر، وغيره. وعلى الزوجة حدود، من طاعة الزوج وعدم عصيانه في غير معصية الله، وتحريم النشوز، وعلى الأبناء حدود أعظمها بر والديهم، وطاعتهم في غير معصية الله.
وبالاستقراء، نلاحظ أن الأسرة الإسلامية تعود إلى مصدر واحد هو التشريع الإسلامي الرباني. هذا المصدر الذي استطاع أن يجمع قوى الفرد في بوتقة واحدة. أما الأسرة الجاهلية فيعود اختلافها وعدم تماسكها إلى تحكم هوى الإنسان فيها، فرداً أو جماعة، وخضوع هذا الهوى للظروف والملابسات مما يكثر العوامل التي تسيطر على الأسرة وتشكل تباينها، فلا تنضبط عندئذ بضابط واحد، ولا يشملها قانون يجمع مظاهر تنافرها.
وإذا أخذنا جزئيات من مميزات الأسرة كشكل الزواج، وتخصيص الأدوار، وحللناه وقارناه، نلاحظ ما قلناه واضحاً جلياً.
ثالثًا: المحكم الثالث الأخلاق
فنظام الأسرة ليس عقدًا في شركة، وليس قانونًا له مواد وعليه عقوبات فقط، بل هو نظام أخلاقي أساسه المودة والرحمة ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم:21].
وقال تعالى في حق الزوجين: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾[النساء:19]، وقال تعالى: ﴿وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ﴾[البقرة:237]، وقال تعالى في حق الأبناء مع والديهم: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأحقاف:15]، وقال تعالى: ﴿رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 24].
فالعلاقة بين الزوجين علاقة مودة ورحمة، والعلاقة بين الأبناء والآباء والأمهات علاقة بر، وعلاقة الإخوة علاقة مغفرة وتسامح، ألا ترى كيف ضرب الله بيوسف مثلاً مع إخوته حتى كان آية للسائلين، كيف رفعه الله بعفوه وتسامحه معهم؟
رابعاً: من المحكمات الإسلامية في نظام الأسرة أنها قائمة على المسؤولية
قال ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته“. وهذه المسؤولية يُقصد بها أمران؛ المسؤولية عن المعاش، والمسؤولية عن المعاد.
فالوالدان لديهم المسؤولية الكاملة عن معاش الأبناء الذكور حتى سن البلوغ، والإناث تكريمًا لهنّ ورعايةً وصيانةً لهن حتى الزواج، ولو اغتنت بوظيفة أو غير ذلك. وللأسف يوجد آباء تخلوا تمامًا عن مسؤولياتهم الأخروية؛ الأب تحت مسمى البحث عن الرزق، وللأسف بعض الأمهات بحثًا عن الموضة والجمال.
وأعظم مسؤولية هي المسؤولية عن الدين، جاء في هذا الباب حديث عظيم: “ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيته إلا حرم اللهُ عليه الجنة“، وهذا يشمل الغش بالتقصير في كلا الأمرين، وأساس هذه المسؤولية -يا عباد الله- الرفق فـ”ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نُزع عن شيء إلا شانه”.
هذه الأحاديث تقرر قيام الأسرة الإسلامية في الحياة الاجتماعية على تخصص الأدوار؛ فهناك أهل، وبيت، وهناك مسؤولية ورعاية. فالرجل والمرأة متساويان في عملية الرعاية والمسؤولية ويحتاجان إلى نفس الجهود والأعباء، إلى نفس الإخلاص، ولكنهما يختلفان في أساس الدور المنوط بهما، فإن كانت مسؤولية ورعاية الرجل في أهله -ويشمل ذلك كل شيء بما فيه الزوجة- تجعل الرجل يقوم بالدور الأساسي في الأسرة داخل البيت وخارجه، فإن المسؤولية ورعاية المرأة ليست على النطاق الشامل الذي اختص به الرجل، بل على نطاق أضيق وأدق وأكثر تخصصاً، وهو نطاق بيت زوجها لا غير.
وكما يقول الأستاذ محمد مبارك: “إن موضوع الرجل والمرأة ليس اختيار إحدى الفكرتين التفضيل أو المساواة وإنما هو موضوع اختلاف في الخصائص، يقتضي اختلافاً في التخصص والعمل ويقتضي توزيع الأعمال بحسب الاستعدادات والخصائص، وذلك ما أخذ به الإسلام”1.
ويرى المفسرون الجاهليون هذه الظاهرة لا تنفصل عن مرحلة الأبوّة التي أصبح فيها الرجل هو صاحب السلطة المطلقة، عندما انتقل الإنسان من مرحلة الصيد والرعي إلى مرحلة المجتمع الزراعي. فسيطرة الزوج إذن ليست إلا سيطرة اقتصادية مرتبطة بمرحلة اجتماعية معينة؛ فهذه السيطرة ستفقد كل معانيها في مجتمع ما بعد التصنيع (بالنسبة للرأسمالية)، وفي المجتمع الشيوعي بعد المرحلة الاشتراكية (بالنسبة للشيوعية) ففي كل منهما سيتم استقلال المرأة عن الرجل استقلالاً تاماً على أساس اقتصادي مستقل. وهذا يخوّل لها الحرية التامة بكل معانيها المفتوحة على المجتمع.
وحتى لا يحدث تلاعب بهذه العلاقة تروح ضحيته الأسرة بما فيها من أولاد لهم الحق في أن يوفَّر لهم جو مناسب يتنفسون فيه السعادة، ويتربون دون ضجيج وإزعاج، جعل للرجل الحق في الطلاق مرتين، فإن طلق الثالثة سدّ أمامه هذا الطريق، وحرمت عليه المرأة حتى تتزوج غيره: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229] وحث الإسلام على استمرار هذه الرابطة، وكره قطعها من غير مبرر وشرع لذلك جملة تشريعات:
1- حث كل واحد من الزوجين على إحسان العلاقة بالآخر، والقيام بواجبه تجاهه مما يقلل فرص الشقاق، ويزرع الحب والمودة في قلب كل واحد منهما تجاه الآخر.
2- حث على صبر كل واحد من الزوجين على ما يلاقيه من الآخر، ما دام ذلك ممكناً وما دام سبيلاً لاستمرار هذه العلاقة بشكل مقبول، وأثار في نفوس الأزواج الرغبة في دوام هذه الرابطة بفتحه نافذة المستقبل الواعد الزاهر الذي قد يترتب على هذه العلاقة ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 19].
3- شرع العدة بعد الطلاق، وهي فترة يحق للزوج فيها مراجعة زوجته دون عقد جديد، فعسى أن تحنّ نفسه إلى مراجعة زوجته، وتحركه ذكرى الأيام الخوالي والذكريات السعيدة إلى ذلك، كما أنه قد يكتشف أسباباً للبقاء مع زوجته تفوق تلك التي من أجلها قطع هذه العلاقة.
4- كما شرع التحكيم، وهو أن تتدخل أسرتا الزوجين إذا توترت العلاقة بينهما فيبعثون ﴿حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا﴾ [النساء: 35] لدراسة أسباب الشقاق والبحث عن سبل لتجاوزها لإعادة سفينة الأسرة إلى بر الأمان ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: 35].
فبهذه كلها حافظ الإسلام على الأسرة، بالإضافة إلى ما ينشره في مجتمعه من حرص على الفضيلة وابتعاد عن الممارسات الضارة، كالأكاذيب والشائعات والعلاقات المشبوهة، التي غالباً ما تكون سبباً في دمار البيوت، وخراب العلاقات الاجتماعية، وذلك من أجل تحقيق المقاصد التي يعلقها الإسلام على الأسرة.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتابه: الفكر الإسلامي الحديث، ص184.