الضربة الثلاثية!
سبتمبر 7, 2024هل استفادت ثورة بنجلاديش من الثورات العربية؟
سبتمبر 8, 2024بقلم د. إسماعيل محمد رفعت (عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ)
لم يحصر الإسلام معاييره للنصر في المعارك في المحور العسكري للمعركة؛ بل جعل فلسفتها مبنية على محورين: ميداني وقيمي، والنصر الميداني منضبط بهدف: كف أذى العدو المحارب وليس استهداف روحه، ولا سلب عتاده، وغنيمة أرضه ودياره.
في الجانب القيمي فإن التمسك بالمبادئ والقيم، حتى مع حصول هزيمة ميدانية، هو عين النصر الذي لا يخسره مسلم! وجعل الإسلام عين المسلم لا تغفل ميدان المبادئ، ولا تشغله رغبة الانتقام أو الانتصار عن الحفاظ عليها وألا يتقدم عليه أحد فيها، وترسخ لدى المسلم أن تمسكه بالقيم هو عين النصر عنده.
غير أن حرص الإسلام على ثبات منظومة القيم؛ لم يحمله على إعطاء ضماناً لمفسد أو عصمة لفاجر، بمعنى أن بعضاً من المبادئ التي يتوخى الإسلام إرساءها؛ كمبدأ الحرية الإنسانية، والذي يهدف فيه الإسلام إلى منح الحرية لجميع الجنس البشري، لكنه لا يمنح عدوه ما يُعد شيكاً على بياض -كما يقولون-؛ فلم يُحرم استرقاق أسرى الحرب، وكأن الإسلام يجعل بعضاً من قواعد اللعبة في الحرب بيد العدو، إن شاء العدو ضيّق فيها دائرة الأذى الذي سيناله جراء الحرب، وإن شاء جعلها حرباً مفتوحة لا سقف لها.
فلا يدخل أحد ضد الإسلام معركة وهو في ضمانة أو حماية تشريعية من الوقوع في الأسر أو تقييد الحرية..
إن العبارات التي تصف الشريعة بالمسالمة المطلقة، لهي كلمات شبيهة في تمحكها بكلمات العشاق التي لا محل لها في فلسفة الشريعة إلا بقدر منضبط، وما تلقاها الناس إلا من (دراما) باهتة، كتبها غير مسلمين أو غير مختصين في علوم الإسلام وفلسفاته، وأذكر مثلاً من فيلم شيخ المجاهدين عمر المختار، كلمة تلقفها أبناء المسلمين، وبجهل جعلوها كالقواعد الأصولية؛ إذ قال في سياق رفض ردّ اعتداء بالمثل: «إنهم ليسوا قدوة لنا» هذا إن صلح في (الدراما) لا يصلح في صدّ عدو أو ردّ حق مغصوب! ولا يصلح أن نتلقاه من دراما ثم نقررها كروح للشريعة يتربّى عليها الأجيال! ثم نخضع لها تصرفات أهل الثغر، والأصل عندنا: لا يفتِ قاعد لمجاهد!
وفي تقرير مبدأ انتصار المبادئ وإن أُزهقت أرواح، لا يفوتنا كلمة حقيقية للشيخ المجاهد عمر المختار حيث قال: “صاحب الحق يعلو، وإن أسقطته منصة الإعدام”.
وإن استطال العدو بمال صنع له مساندين فإن من كلمات شيح المجاهدين: “أموالكم تمامًا مثل مجدكم، ليست خالدة، و إن الضربات التي لا تقصم الظهر تقويه”.
إن الإسلام أبقى التخويف بورقة الأسر في يد عدوه، وإن جعل فكاك الرقاب سبيلاً لكفارة اليمين، أو القتل الخطأ أو الظهار من الزوجة، أو للنجاة على الصراط، قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿فَلَا ٱقۡتَحَمَ ٱلۡعَقَبَةَ * وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا ٱلۡعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ﴾[البلد: 11-13].
وأوصى الإسلام بالأسير خيراً، ﴿وَيُطۡعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسۡكِينٗا وَيَتِيمٗا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطۡعِمُكُمۡ لِوَجۡهِ ٱللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمۡ جَزَآءٗ وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 8-9] وقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لأبي ذر: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ، فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ»1.
إنها كلمات من الرسول الكريم -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- اختصر فيها أعلى قيم الذوق الرفيع في التعامل مع الرقيق والإحسان إليه!
أما من جانب الجندي المسلم والوعد الإسلامي برضى الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- والفوز بالجنة حال الشهادة؛ فهذا مرهون أيضاً في التمسك بالقيم ومبادئ الوحي الشريف، وليس لمجرد بذل جهد ولا تضحية بمال أو روح، بل بمساندة قيمة والدفاع عنها، في الحديث عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي سَرِيَّةٍ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَقَتَلْتَهُ؟” قَالَ [أسامة]: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: “أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟” فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ2.
غَزَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدٍ أَرْضَ الرُّومِ، فَقَامَ فِي النَّاسِ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، لَا نَخْرُجُ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ بِالْخَيْطِ وَالْمَخِيطِ؛ فَإِنَّهُ غُلُولٌ»3.
وكان علماء المسلمين يفتون في الرَجُلٍ يَحْتَاجُ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ إِذَا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ الْخَيْطَ، وَالْمَخِيطَ، وَالشَّعَرَ، وَالْعُرَى: «فَلَا يَسْتَحِلُّهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ ثَمَنَهُ»4.
وإن كان الإسلام منع جنوده من التصرف في ممتلكات العدو أو المال العام للمسلمين، فهذا المنع ليس مقصوراً فقط على هذا، ولكن يتعدى المنع إلى التصرف في حياته التي هي أخص ما للإنسان، فلا يجوز لجندي التعدي على غيره أو حتى على نفسه، في الحديث عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَنّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا، فَلَمَّا مَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الْآخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَجُلٌ، لَا يَدَعُ لَهُمْ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً، إِلَّا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ، فقالوا: مَا أَجْزَأَ مِنَّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلَانٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ“. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ، قَالَ: فَخَرَجَ مَعَهُ كُلَّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ، وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ، قَالَ: فَجُرِحَ الرَّجُلُ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: “وَمَا ذَاكَ“. قَالَ: الرَّجُلُ الَّذِي ذَكَرْتَ آنِفًا أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَعْظَمَ النَّاسُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ، ثُمَّ جُرِحَ جُرْحًا شَدِيدًا، فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ فِي الْأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ: “إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ، فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ“5.
أما حسابات ومعايير النصر عند غير المسلمين فهي تنحصر في حساب كثرة إزهاق الأرواح، لا تمييز لمعصوم ولا حرمة عندهم لنساء ولا عبرة لأطفال ولا لكبار سن أو عجائز ولا متعبدين، ولا يوجد لديهم تصنيف يسمى مدنيين! لا في الأرواح ولا في المؤسسات والدور التي يدمرونها، والتشدق بالعدالة والقيم مجرد معانٍ نظرية لا صلة لها بواقع القوم، فلا يهم الكافر شيء إلا التشفي والانتقام أيا كان نوعه ومن أي أحد كان!
ونصوص كتبهم التي يصلح أن يُطلق عليها «مكدسة» بدلاً من «مقدسة» طافحة بأوامر التدمير والتخريب، لا تخطئها عين باحث أو متابع!
ثم العجب -بعد ذلك- أن تجد مَن يرفع صوته من المسلمين فيطلق القول: “كل الديانات تدعو للتسامح!” كما لو كان ذلك المغيّب عن واقعه محامياً عن كل الديانات، يدافع عنها دون علم بها ولا بتاريخها أو ممارسات أهلها.
وبناء على ذلك فأقل قراءة لموافقة الكافر على جلسات ما يسمى بالتفاوض؛ أو طلبه لها هي أكبر دليل على إفلاس قواه المتجبرة، والدعوة منه للتفاوض أو قبولها إذا طُلبت منه، ما هو إلا مجرد محاولة منه لتغطية عوراته المهتوكة.
أرى ذلك بحسب اعتقاداتهم، وإن جاءت صورة الميدان مختلفة؛ فلعل السبب أنها صورة تعكس جانباً واحداً، لما لحق بأهلنا من دمار وتشريد طال الأرواح وكل مقومات الحياة!
فإن كانت صورة المشهد تتطلب كثيراً من البحث الإخباري حتى تكتمل صورة الواقع الذي عليه عدونا، فإن دلالات كثيرة تشير أنهم في مأزق غير معتاد، وأن استذلال الشعب الفلسطيني واغتصاب مقدسات المسلمين لم يعد مجرد تسلية لهم، وأخبر الله -جَلَّ جَلَالُهُ- عن ذلك فعكس الصورة التي لا يبثها إعلام ولا يتكلم عنها كل المراقبين فقال -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبۡتِغَآءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُواْ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ يَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرۡجُونَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: 104].
إننا موقنون أشد اليقين بألم يخفونه وحزن يدارونه، فنحن وإن لم نرَ الرعب ينتهش قلوبهم، فإنا نخوض معاركنا بتوجيهات وحي شريف منيف، وحسب أعلام نبوة لا نخطئ السير إلى الله معها طالما استرشدنا بها وتمسكنا بسننها!
اللهم أذِق أهل العزة حلاوة الجبر بعد مرارة الصبر!
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح البخاري.
2 صحيح مسلم.
3 سنن سعيد بن منصور، الفرائض إلى الجهاد (2/ 314)، تحقيق الأعظمي.
4 سنن سعيد بن منصور، الفرائض إلى الجهاد (2/ 314).
5 صحيح البخاري.