تشابهت قلوبهم
سبتمبر 7, 2024هل الإسلام مُسالِماً مع الجميع دائماً؟
سبتمبر 8, 2024بقلم د. خالد أبو شادي (فك الله أسره)
لماذا تأخر هذا المقال؟ والجواب: حتى أوقد جمرة الغضب إن خمدت أو كادت تنطفئ، حتى إذا ما بردت المشاعر وزار النسيان القلوب جاء المدد بكلمات مشتعلة وحروف مضطرمة لتبقى شعلة العزم متقدة.. وعدة الثأر جاهزة.
والآن إلى المقال:
روت كتب السيرة أنه في غزوة الخندق حين تألب الأحزاب على المسلمين عرضت للنبي ﷺ وأصحابه صخرة حالت بينهم وبين الحَفْر، فقام رسول الله ﷺ وأخذ المِعول ووضع رداءه ناحية الخندق، وقال: “تمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم»، فندر (سقط) ثلث الحجَر، وبرق مع ضربة رسول الله ﷺ برقة، ثم ضرب الثانية وقال: «تمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم»، فندر الثلث الآخَر فبرقت برقة، ثم ضرب الثالثة وقال: «تمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم»، فندر الثلث الباقي، وخرج رسول الله ﷺ فأخذ رداءه وجلس.
وقد أخبر النبي ﷺ سلمان الفارسي أنه رأى مع الضربة الأولى مدائن كسرى وما حولها، ومع الضربة الثانية مدائن قيصر وما حولها، ومع الثالثة مدائن الحبشة وما حولها، وبشر أصحابه بفتحها وغنمها. وأمامنا اليوم مثل هذه العقبة الكؤود، ولا بد لنا من تحطيمها لفك حصارين اثنين خانقين، حصار إخواننا في غزة عن أسباب حياتهم، وحصارنا نحن معهم عن أسباب نصرتهم! واقتداءً بنبينا وتبركاً بضرباته.. إليكم ضربات ثلاث لازمة لتحطيم صخرة اليوم وهي من جنس صخرة الأمس إن لم تكن أشد، فارفعوا معاولكم.. واحزموا أمركم.. وقولوا معي: بسم الله.. مع:
- الضربة الأولى.. أصلح نفسك
حبيبي.. أنا لا أشكِّك في ألمك إثر كل محنة تصيبنا أو حياة قلبك.. لكن.. إن كان كذب اللسان أن يقول ولا يفعل، فإن كذب القلب -وهو الأخطر- أن يبرم العقد مع ربه ثم لا يفي، وكثير ممن حولك جمع بين الكذبين، وأنا أخاف عليك وباءهم أن يُعدِيَك!
وهذه الضربة بمثابة عملية تغيير شاملة تجعل عالي النفس الباطل سافلها، وتهدم ما بنى الشيطان لتشيد على أنقاضه بناءً شامخاً يحوي الحق ويحميه، وسط عالم يموج بالتغيير كل لحظة، مما فرض على المؤمن أن يواكب عصره، ويوجِّه التغيير الواقع لا محالة نحو الأفضل، وإلا هوى به نحو الأسفل تحت تأثير غزو الباطل وحصار الحق، شعارك في معركة التغيير: إلى الأعلى وإلا هويتُ!
إن التغيير الداخلي لنفوسنا هو الأساس اللازم لدخول التغيير الإلهي المُرتقب حيِّز التنفيذ، وهو تغيير شامل يتجاوز حروف كلمة «تغيير» الخمسة إلى ساحات خمسة أوسع:
- ساحة القناعات: الإيمان بأن تغيير العالم بأسره إنما يبدأ من الداخل.. من أعماق نفوسنا لا من خارجها، وأن مفتاح حلّ الورطة الحالية هي أنا وأنت، وأن عملية التغيير المرتقبة يرعاها ربنا من فوق سبع سماوات؛ لذا ترتبط بحرفين اثنين: الكاف والنون، «كن» وينتهي الأمر.
- ساحة العبادات: عدم الرضا عن النفس أو القناعة بواقعها الإيماني الحالي، والطمع الدائم في طاعات أفضل ومقامات أرقى تُدني من المولى سبحانه، وهذه هي النفس اللوامة؛ تلوم نفسها في الحالين: حال المعصية أن وقعت فيها، وحال الطاعة أن لم تستزِد منها ولم تحقق معانيها ومقاصدها بشكل أفضل.
- ساحة الهدايات: فتْح ميادين للدعوة أوسع والابتكار والتجديد والإبداع والإفادة من تجارب الآخرين ولو كانوا كافرين، والبناء على العلوم البشرية والخبرات الإدارية المتلاحقة وتسخيرها من أجل إحداث أثر دعوي أقوى وأدوم.
- ساحة العادات: تغيير صفة قبيحة أو اكتساب أخرى حميدة، بل وتمتد رياح التغيير إلى أن تشمل عاداتنا الجميلة الموروثة، فنطوِّر منها ونرتقي بها لنجني منها شهداً أحلى وثمراً أطيب وغرساً أوفر، وهل النجاح في بعض معانيه إلا تغييرٌ يتم فيه تأدية المهام الاعتيادية بصورة غير اعتيادية؟
- ساحة المبادرات: تغيير بامتلاك زمام المبادرة بدلاً من الرقود في مربع المتأثرين، والانتقال من رد الفعل إلى صناعة الفعل ذاته.
هذا التغيير بأضلاعه الخمسة هو التغيير الذي ننشده وتنتظره الأمة وترتقبه، وما تأخر نصرنا إلا لأننا لم نصل بعدُ إلى المستوى المطلوب من التغيير المنشود، وما النصر إلا من عند الله، فإنه سبحانه بيده أمرنا وأمر عدونا.. ولو اطّلع على قلوبنا ورضي عنها ما سامنا ألوان الهوان وضروب العذاب على يد عدُوِّنا.
وإلى الآن.. لم تنكسر الصخرة بعد.. انكسر ثلثها.. وبقي الثلثان.. فليست ضربة الصلاح وحدها كافية.. إلا أن تُتبِعها بضربة ثانية.. تسهم في إضعاف الصخرة وتُسهِّل تحطيمها.. هيا ارفع يديك عالياً.. واستعد لتوجيه:
- الضربة الثانية.. ادعُ غيرك
وهو بمثابة الترميم الأفقي، بمعنى: الانتشار بين الخلق.. أخذاً بأيديهم إلى طريق الهداية.. إنقاذاً لهم من مهاوي الحرام ومراتع الشهوات.. خلُقاً نبيلاً نتمثَّله غاب عنهم طويلاً.. تعاوناً معهم على الخير نوصد به الباب في وجه الشر.. انتشالاً لهم من الطواف حول الذات والسعي على الملذات إلى الطواف على مصالح الآخرين.. غرساً لحب الغير ابتداء من حدود الأسرة الضيقة إلى دائرة الجيرة الأوسع، وصولاً إلى أفراد الأمة بأسرها أينما وُجِد مسلم في أدنى الأرض أو أقصاها، لتسود قيمة الإيثار بعد أن طغت رذيلة الأثرة وأعيت.. انتقالاً من دائرة الصلاح السلبي إلى الإصلاح الإيجابي..
أما أنتم.. يا من حصرتم صلاحكم في دائرة نفوسكم فبخلتم عن غيركم وحبستم نوركم عن إخوانكم.. وظننتم أن دعاءكم للمعذَّبين وحده يُسقِط عنكم تبعة الحساب وهول العذاب.. أقول لكم: الدعاء وحده لا يكفي؛ فلابد معه من عمل صالح يرفعه وإلا فهو علينا مردود ومن الإجابة مسلوب، والبرهان أصدق كلام: ﴿إِلَیۡهِ یَصۡعَدُ ٱلۡكَلِمُ ٱلطَّیِّبُ وَٱلۡعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ یَرۡفَعُهُۥۚ﴾ [فاطر: ١٠]. عرفتم الآن لماذا تكسرت سهام دعاء الكثيرين على أبواب الإجابة!
سقط إلى الآن ثلثا الصخرة، ومن أدام الضرب بلغ الهدف، فمع الضربة الثالثة وهي الأهم.. فهيا.. على بركة الله إلى:
- الضربة الثالثة.. ثبِّت قلبي رباه
رفاقي في نصرة الدين.. تريدون اختبار قوة نفوسكم ومقدار مروءتكم وصلابة إيمانكم؟! إذن فاسألوها: هل ثورتنا بعد كل أزمة فورة يوم أو يومين ثم برود وغفلة؟! أتبكي عيوننا برهة من الزمن ثم سرعان ما ينقلب الدمع طرباً، وتتغير حروف كلمة «ألم» لتصير «لذة»، وتتوارى مع مرور الأيام انكسارات الحزن خلف اهتزازات اللذة؟!
إننا إن أردنا بحق الخروج من هذه الورطة فلا مناص من ثبات الأداء حتى يتحوَّل حماسنا وغضبنا وعملنا من الطفرة العابرة إلى العادة الراسخة، كأنها أنفاس تتردد لو انقطعت عنا لمتنا، ويعود يؤرِّق منامنا كل ليلة سؤال واحد يبعثه كل منا لنفسه: ماذا بذلت اليوم لديني وأمتي.. من وقتي.. من بدني.. من مالي.. أرق لا يهدأ إلا إذا كان الجواب حاضراً بالإيجاب!
هذا الدوام وطول النفس هو ما ميَّز عالي الهمة عن غيره، حتى جاء في وصفه أن نفسه تأبى إلا العلو، كالشعلة من النار يخفيها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعاً، أما قصر النفس والانقطاع بعد العمل والرقدة بعد الهبة فشيمة أكثر الناس.
إخواني في حب الشهادة.. اغتنموا حزنكم.. لا تقتلوه عسى أن ينفعنا.. اجمعوا كل حسرة قلب.. كل زفرة ألم.. كل دمعة تحجرت في المآقي واجعلوها في جعبة واحدة… ثم أوقدوا تحتها نار الكمد وجمرة الغضب حذار أن تنطفئ.. ثم فجِّروها ثورة:
شعارها: مضى عهد النوم.. كما صدح بها نبيكم أول مرة.
وقودها: كيد أعدائكم المصبوب على رؤوسنا صباح مساء.
جنودها: كل مَن آمن معكم بفرضية التغيير وحتمية الإصلاح.
افعلوا هذا وأنتم ترفعون فوق رؤوسكم وتظلِّلون الناس من حولكم بمظلة حانية تكسر حرارة الشدة وقسوة المحنة.. إنها مظلة التفاؤل؛ فأووا إلى كهف المتفائلين.
وما أراه اليوم في خضم المحنة ليس سوى فرصة ذهبية وضعها الله بين أيدينا لنزاحِم بها أكتاف الشهداء على أبواب الجنة. هي جولة من جولات الحق والباطل ولن تكون الأخيرة، وما نرجوه أن لا تمر كما مرَّ غيرها.. بل نريد أن نهتبلها لنقدِّم ساعة النصر، ونقطع نحو الهدف خطوات واسعات، ونرتقي بمن حولنا درجات عاليات نصبح بها أقرب إلى قطف ثمار النصر والخروج من بوتقة الذل. أعلم أنها فترة زمنية عصيبة نعيشها، لكن هل رأيتم من تعلم في هذه الدنيا دون ألم، أو تربى دون شجن؟
أبشروا واستبشروا بما خاطب الله به نبيه: ﴿لَیۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَیۡءٌ﴾ [آل عمران: ١٢٨]. طمأنةً من الله لنبيه وورثة نبيه..
﴿لَیۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَیۡءٌ﴾ تقريب نصر مستبعد وتسلية قلوب مرهقة..
﴿لَیۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَیۡءٌ﴾ لا لمحمد ولا لمخلوق بعد محمد.. بل الأمر لي وحدي.. أنصر من شئت.. متى شئت.. وكيف شئت..
﴿لَیۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَیۡءٌ﴾ أنت أجير وعليك عمل.. إن أدَّيته نلت أجرك كاملاً لا يضرك من قصَّر ممن حولك أو فرَّط.
﴿لَیۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَیۡءٌ﴾ لا تقل بعد اليوم: افعل ما عليك والباقي على الله، بل قوِّم لسانك وقل: افعل ما عليك وكِل الأمر لله؛ ﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٤].
أما أنتم أهلي في غزة.. يا أساتذتي في مادتي التضحية والفداء.. أبشِّركم.. ما وصلت القافلة نعم.. لكن وصلنا الأهم.. وهو الدم.. وصل لا إلى شاطئ غزة فحسب بل إلى كل مسلم ليشعل في قلوبنا نار الثأر المقدسة التي لن يخمد لهيبها بإذن الله دون نصر أو شهادة.
وبقي الشرط الأخير لتنزُّل النصر والذي ما تحقق إلى اليوم رغم كثرة الخير في الأمة ووفرة الصالحين فيها، وهو ما يشكِّل في نظري آخر مسمار في نعش الباطل، ويصنع مفتاح أبوابنا المؤصدة الفاصلة بين عهدين.. عهد الذل والانهيار.. وعهد العز والفخار.. ألا وهو بذل.. آخر ذرة جهد! ولم نبذلها بعد..
لا زال منا من يبخل بوقته.. يؤْثر مصلحته على حساب دعوته.. مَن يتقطع قلبه كمداً على ما أصابنا لكنه لا يقوى على صلاة فجر.. إطلاق يد بنفقة.. تعليم جاهل.. دعوة غافل. من أعطى الدنيا ومستقبله الوظيفي وعائلته أكبر مساحة في قلبه، ومن وراء قلبه وقته.
من ادَّخر جهداً لم يبذله.. استبقى ذهناً لم يتعبه.. ونوماً عميقاً ما هجره.. من أضاع حق ربه فأضاعنا الله وأضاعه، فردٌ أخَّر أمة، وعضوٌ مريض أعيا جسداً بأكمله. ولذا لم ننتصر.
وأخيراً.. أخي.. وأنتِ أختاه..
من أطال المنام لم يرَ غير الأحلام، فمتى تفتح عين عزمك لتعرف واجباتك بحق؟
متى تسدِّد ضرباتك نحو العقبة الكؤود التي تعترض طريق نصرنا وعزة أمتنا؟!
أما استنشقت عبير الشهداء ملوك الأسرة1 سرى عبر البحار في أشرف الأوقات: الأسحار؟
أما وجدت برد نسيم الجنة سبقونا إليه؟
أما آلمك سبقهم وتخلفك.. فوزهم وخسارتك؟
أما تغار أنهم غادروا وخلَّفوك! وإلى الفردوس سبقوك؟!
اذكر آخر كلام ومسك الختام.. لا يمحوه من ذاكرتك تعاقب الليالي والأيام:
إنه لا انتصار لأمة ولا انكشاف لغمة ولا نيل من عدو ماكر ولا إغاظة لكافر فاجر، ومن وراء ذلك وهو الأهم: لا رضا لربنا ولا قرةَ عينٍ لرسولنا إلا بعد أن نبذل.. آخر ذرة جهد!!
وعندها فحسب.. ننتصر!
كتبه مُوقناً بنصر ربه.
ــــــــــــــــــــ
* خالد أبو شادي، مقال: الضربة الثلاثية، موقع إلكتروني: طريق الإسلام، 2014م.
1 عن أنس قال: كان رسول الله ﷺ يدخل على أم حرام بنت ملحان، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها يوماً، فأطعمته ثم جلست تُفلي رأسه، فنام رسول الله ﷺ ثم استيقظ وهو يضحك. قالت: فقلت: ما يُضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عُرِضوا عليَّ غُزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرّة، أو مثل الملوك على الأسرّة، فقلت: يا رسول الله .. ادعُ الله أن يجعلني منهم فدعا لها، فركبت أم حرام البحر في زمن معاوية، فصُرِعت عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت». [متفق عليه]. حشر الله إخواننا شهداء قافلة الحرية في نفس الزمرة بفضله وكرمه وألحقنا بهم في الشهداء. آمين.