التضحية والثبات في غزوة أحد (1/ 2)
سبتمبر 6, 2024الضربة الثلاثية!
سبتمبر 7, 2024للأستاذ/ عبد القادر المهدي أبو سنيج (باحث شرعي)
من عجيب أمر طائفة المنافقين المخذلين أن من يتصدر للحديث هم من ينسب إلى “العلم والدعوة”، وذلك بدفاعهم عن العدو وتفسيقهم لأهل الرباط الذين وصف النبي ﷺ مكانهم وأفعالهم، وأفعال من يناوئهم ويخذلهم، فعرفنا به صفة أهل الرباط وأهل التثبيط وأهل المقاومة والمجاهدة، وعرفنا مَن أهل القعود الذين أثاروا شبهات حكاها القرآن لتشملهم كما شملت مَن سبقهم ومَن يأتي بعدهم، وهذه آيات القرآن ما عليك إلا تلاوتها وتدبر معانيها لترى المواقف وأحكامها وأهلها:
قال تعالى: ﴿وَمَاۤ أَصَـٰبَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِیَعۡلَمَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ * وَلِیَعۡلَمَ ٱلَّذِینَ نَافَقُوا۟ وَقِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡا۟ قَـٰتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَوِ ٱدۡفَعُوا۟ قَالُوا۟ لَوۡ نَعۡلَمُ قِتَالࣰا لَّٱتَّبَعۡنَـٰكُمۡۗ هُمۡ لِلۡكُفۡرِ یَوۡمَىِٕذٍ أَقۡرَبُ مِنۡهُمۡ لِلۡإِیمَـٰنِۚ یَقُولُونَ بِأَفۡوَ ٰهِهِم مَّا لَیۡسَ فِی قُلُوبِهِمۡۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا یَكۡتُمُونَ *ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ لِإِخۡوَ ٰنِهِمۡ وَقَعَدُوا۟ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا۟ قُلۡ فَٱدۡرَءُوا۟ عَنۡ أَنفُسِكُمُ ٱلۡمَوۡتَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ * وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱلَّذِینَ قُتِلُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أَمۡوَ ٰتَۢاۚ بَلۡ أَحۡیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرۡزَقُونَ * فَرِحِینَ بِمَاۤ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَیَسۡتَبۡشِرُونَ بِٱلَّذِینَ لَمۡ یَلۡحَقُوا۟ بِهِم مِّنۡ خَلۡفِهِمۡ أَلَّا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ * یَسۡتَبۡشِرُونَ بِنِعۡمَةࣲ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضۡلࣲ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا یُضِیعُ أَجۡرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ * ٱلَّذِینَ ٱسۡتَجَابُوا۟ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ مِنۢ بَعۡدِ مَاۤ أَصَابَهُمُ ٱلۡقَرۡحُۚ لِلَّذِینَ أَحۡسَنُوا۟ مِنۡهُمۡ وَٱتَّقَوۡا۟ أَجۡرٌ عَظِیمٌ * ٱلَّذِینَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدۡ جَمَعُوا۟ لَكُمۡ فَٱخۡشَوۡهُمۡ فَزَادَهُمۡ إِیمَـٰنࣰا وَقَالُوا۟ حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِیلُ﴾ [آل عمران: 166-173].
فانظر إلى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾، وقارن ذلك بما يقوله دعاة التطبيع ومروّجو كذبة السلام والتعايش، والتي أثبتت “السنون الخداعات” أنها دعاوى الوهم والكذب والفجور في مدة تقارب المائة عام، كلها قتل وتهجير واعتقال وهدم ونفي وإبعاد واستيلاء واحتلال ودماء وأشلاء وحصار وتجويع ونهب وسلب.
ولو كان أهل الرباط في الشام وفلسطين وغزة غير مسلمين لوجب علينا نصرتهم؛ لأنهم مظلومون وقع عليهم احتلال وعدوان وظلم لا ينكره أحد ولم ولن ينكره أحد؛ فكيف وهم مسلمون وقع عليهم الاحتلال والتشريد والهدم والإخراج من ديارهم بالقوة ويُقتلون ويُعتقلون ويُطارَدون؟
بل كيف نتركهم وهم في أرض المحشر والمنشر أرض الرباط أُولى القبلتين وثالث الحرمين، الأرض التي باركها الله وما حولها؟ ثم منذ متى تُحرر الأوطان بالقعود وطاعة مَن يوالي أعداء الله ويعادي أولياء الله؟
الجهاد في غزة واجب شرعي
وجهاد أهل الرباط في غزة جهاد شرعي مقطوع به، اجتمعت فيه دوافع قتال العدو التي حكاها القرآن ﴿بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ ﴿أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارَنَا وَأَبْنَائِنَا﴾، وفي الحديث: جاء يريد أخذ مالي.. قال ﷺ: “لا تعطِه“. أرأيت إن قاتلني؟ قال ﷺ: “فقاتله…” الحديث.
ومن البليّة أن نَسوق أدلة لنثبت وجوب الجهاد ضد اليهود لأناس يتحدثون بالقرآن والسُّنة! ومما يجعل الحليم حيران أنه على مدى عقود نجد مئات من الكتب والرسائل العلمية وآلاف من الخطب والدروس والمقالات، موضوعها “الولاء والبراء”، وعندما جد الجد وجدنا طائفة من بني جلدتنا يتحدثون بألسنتنا (دعاة على أبواب جهنم) كان لهم سهم في هذه الكتب والدروس والخطب، أصبحوا بين رجلين إما مثبط، أو ساكت وهو بارد القلب، وكما قال ابن القيم رحمه الله:
“ومن له خبرة بما بَعث الله به رسوله ﷺ، وبما كان عليه هو وأصحابه، رأى أن أكثر من يُشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا، وأيّ دين وأيّ خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك وحدوده تُضاع ودينه يُترك وسُنة رسوله ﷺ يُرغب عنها، وهو بارد القلب وساكت اللسان شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بليّة الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمتَ لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين، وخيارهم المتحزن المتلمظ؟ ولو نُوْزِعَ في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بَذَل وتَبَذل وجَدَّ واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بليّة تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمَل”1.
ومن أسفٍ أن هؤلاء تعدوا حدود الله وتجرؤوا على دينه لتسويغ الطغيان والظلم والخيانة، والتماس أدلة لها من الشرع الشريف، والله عز وجل أمرَنا بالطهارة قبل مس المصحف فالتمس هؤلاء الأدلة بقلوب مدنسة بالطغيان والذلة والخوف من الناس وخشيتهم، أشد من خوف الله، وهذه قلوب ملوثة بالخوف من الخلق وحب الدنيا وكراهية الموت؛ فلا تحسن الاجتهاد في الدليل وإنما تحسن الانبطاح الذليل.
وهؤلاء المعوقين يطالبون الأمة بالسكوت على قتل إخواننا وتدنيس مقدساتنا طاعةً للطغاة، ويستدلّون بآيات القرآن على الطغيان والخذلان بجعل الولاء والبراء للطغاة ومَن رضيهم وتابعهم، وهو من أصول الإيمان بالله وكماله بالبراءة من الكفر والفسوق والعصيان والظلم والفساد والطغيان.
وما أجمل تلك العبارة التي سطرها أبو الوفاء بن عقيل(ت: 513هـ)! قائلاً: “إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْلَمَ مَحَلَّ الْإِسْلَامِ مِنْ أَهْلِ الزَّمَانِ فَلَا تَنْظُرْ إلَى زِحَامِهِمْ فِي أَبْوَابِ الْجَوَامِعِ، وَلَا ضَجِيجِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ بِلَبَّيْكَ، وَإِنَّمَا اُنْظُرْ إلَى مُوَاطَأَتِهِمْ أَعْدَاءَ الشَّرِيعَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى بُرُودَةِ الدِّينِ فِي الْقَلْبِ”2.
وبالرغم من كل هذا تجد طائفة انسلخت من دينها وتولت قوماً غضب الله عليهم، فأصبحوا يضاهئون قول الذين كفروا لأنهم تشابهت قلوبهم، بل أصبح المغضوب عليهم يأتمون بهم وينتظرون تصريحاتهم ليقولوا بقولهم ويرددوا شبهاتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
مرض تشابه القلوب
ومرض التشابه يحمل صاحبه على موافقة أهل الكفر والباطل واستحسان أفعالهم وأقوالهم، والإعجاب بها وتبنيها وزخرفتها، والدفاع عنها ونشرها. فهو داء قبيح في التصور والعنت والضلال والكذب والزور والفجور، وصاحبه يصبح عوناً للظالم في طغيانه وإفساده، ومتعاوناً على الإثم والعدوان، وفِعْله إغراءً للعدو باستمرار عدوانه، مع خذلان المستضعفين والمظلومين.
فهو مرض خطره عظيم وأثره فادح؛ فهو محاربة للأمة ووقوف في صف أعدائها وتكثير سواد أهل الكفر والظلم والباطل، وهو من أخطر الأساليب في محاولة الإسقاط الاجتماعي للدعوة الإسلامية، بتحريض العناصر الفاسدة على التشبه بالمظهر الإسلامي مع تحريفه، بحيث تسقط مهابة هذا المظهر من نفوس الناس، ويضيع تقديرهم لسماتهم وشكلهم.
ولذا كانت دراسة حالة التشبه من الناحية النفسية دراسة مباشرة لمفهوم “الولاء”.. فالتشبه حالة تنشأ في نفس إنسان تجاه إنسان آخر، دفعه إلى ذلك الانبهار به، وتمنى أن يكون له نفس مكانته، فإنه عندئذ يحاول التوحد مع شخصيته، ولكنه لا يملك في محاولته إلا الصورة والمظهر، ولقد كان لهذه الظاهرة وجوداً تاريخياً واسعاً في تاريخ الدعوة الإسلامية حتى آخر مراحلها3.
ثم ينتقل هذا المرض ليغزو الفريسة الضعيفة المريضة المولعة بتقليد مفترسها، والمعجبة بكل قبيح من أفعال طاغوتها المعادي لها، وهو في كل مراحل ظلمه يعلم أن الأمة تُهزم من داخلها، وأن هدم البنيان من أساسه ومن داخله، فيستخدمهم وهو يحتقرهم ويعملون له وهو لا يعرفهم.
وقد سُئل أحد هؤلاء المجرمين: من هو أحقر رجل واجهته خلال الحرب؟ فكان جوابه: “الرجل الذي أعانني على احتلال بلده”.
والمريض بالتشبه ترك عقله وقلبه للاحتلال والاختلال والاعتلال، لمن يدنسها بعقيدة دنيئة ويغذيها بالخروج على الدين والأخلاق والقيم واللغة، تركوا عقيدتهم وأصول دينهم ولم يلتفتوا لقبح أفعالهم؛ فقد تشابهت قلوبهم!
وعلماء السوء الذين ينهون الناس عن قتال العدو المعتدي المفسد، ويسمُّون كبيرة القعود عن الجهاد “مقاومة سلمية”، أو الذين يقولون إنَّ قتال اليهود المعتدين دمار وهلاك، ومحرقة وفتنة، تشابهت قلوبهم مع قلوب أسلافهم، الذين قال الله فيهم: ﴿وَمِنۡهُم مَّن یَقُولُ ٱئۡذَن لِّی وَلَا تَفۡتِنِّیۤ أَلَا فِی ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُوا۟ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ﴾ [التوبة: ٤٩].
وقد يظن أن المصابون بداء التشابه يفعلون ذلك رغبةً بالإغراء بالمال أو المناصب، أو رهبةً بالضغوط والتخويف، وهذا يحدث لكن هناك طائفة من هؤلاء المرضي يحاربون أمتهم تبرعاً، ويشقّون عصا وحدتها تطوعاً، ويثبّطون الناس بغير طلب ولا ترغيب أو ترهيب! وقد ذكر ابن الجوزي رحمه الله عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَٱتۡلُ عَلَیۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِیۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ ءَایَـٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِینَ﴾ [الأعراف: ١٧٥] قول السدي عن أشياخه: أن بلعم أتى إلى قومه متبرِّعاً4.
فهؤلاء المجرمون، أهل الزيغ مرضى الخيانة والدنية، يتبرّعون بالخيانة ويتطوعون بالعمالة، والتاريخ شاهد على أن هؤلاء أموات وهم أحياء؛ فلا شرفاً حازوا ولا مكانة ولا قيمة، وإنما يُذكرون بالسوء واللعنات، وتطوى صفحتهم السوداء بالخزي والعار والذل والمهانة.. والله لا يهدي كيد الخائنين.
1 إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 121، ط. العلمية).
2 الآداب الشرعية والمنح المرعية (1/ 237).
3 التصور السياسي للحركة الإسلامية (11/ 16)، في النفس والدعوة (32/ 29).
4 زاد المسير في علم التفسير (2/ 170).