هل بعد الابتلاء نصر؟
سبتمبر 5, 2024إسماعيل هنية على درب الشهداء
سبتمبر 6, 2024بقلم د. حسين عبد العال (عضو الأمانة العامة للهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
الشهيد البطل القائد إسماعيل هنية والذي وافته المنية -خير منية- أو قل: الأمنية.. التي كان يتمناها ويعشقها، بل ويطلبها كل صادق مع الله تعالى، وكل محب لله ورسوله ﷺ القائل: “من سأل الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ، بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ“1. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: “مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا، أُعْطِيَهَا، ولو لم تُصِبه“2.
وطلب الشهادة يكون من تحديث النفس بالغزو، وإلا كيف يكون طلب الشهادة بغير الغزو، وقد حثنا نبينا الكريم ﷺ على الغزو وتحديث النفس به فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رسول الله ﷺ: “من مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ، وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَهُ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ نِفَاقٍ“3.
وما كان إسماعيل هنية إلا غازيًا في سبيل الله تعالى بنفسه وماله وأهله وولده، كما هو أغلب حال شعب غزة في زمننا هذا، والرجل كان طالبًا للشهادة بصدق -نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله تعالى- وما استراح إلا بعد نوالها، بل وجاءته أغلى شهادة على يد أنجس وأخبث أهل الأرض، وهم اليهود الذين تعقبوه حتى قتلوه، قتلهم الله تعالى شر قتلة!
هنية مع سيد الشهداء حمزة
بل ونحسب أن هنية ليس فقط شهيدًا عاديًا بل هو في منزلة سيد الشهداء حمزة -رضي الله تعالى عنه- ولم لا؟ ألم يخبرنا بذلك رسول الله ﷺ حين قال: “سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله“4. وأبو العبد هنية لم يقُم فقط لسلطان جائر، بل قام لسلاطين جائرين كثيرين في هذه الأمة، نصحهم وأمرهم ونهاهم، وكشف عورتهم، وفضح سوأتهم، بل قام أيضًا لدول فاجرة كافرة مغتصبة، فجاهدها وصدها وحاربها، ولم يخشَ في الله لومة لائم، بل قام قومة صادقة لله تعالى، لأجل تحرير بلاده وتحرير المسجد الأقصى المبارك، بل قام بواجب الدفاع عن هذه الأمة في زمن عزّ فيه من يدافع عنها، ونحسبه مجاهدًا في زمن أصبحت فيه كلمة الجهاد جريمة عند الكفار والمنافقين.
ومن هنا نقول للشهيد هنية: هنيئًا لك جوار سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- فلئن كان حمزة قد استشهد وهو يقاتل المشركين في أُحد، فلقد استشهدتَّ أنت وأنت تقاتل مَن هم شر وأخبث من مشركي مكة، وهم اليهود الذين قدمهم الله على المشركين في عداوتهم وبغضهم للمؤمنين، قال تعالى: ﴿تَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾ [المائدة: 82]، فلئن كان من رجل يستحق مشاركة حمزة في سيادة الشهداء، فأنت من أوائل الفائزين بها فهنيئًا لك يا هنية.
جنازة الشهيد هنية
وجاءت جنازة البطل الشهيد هنية، والتي أقيمت في الدوحة -عاصمة قطر- لتكون أيضًا خير شاهد على شهادة البطل هنية، تلك الجنازة التي هرع إليها العلماء والدعاة وأهل الدين من كل مكان، وجاء المجاهدون ودعاة الحق من كل حدب وصوب، وجاءت وفود الدول الصادقة تترا للصلاة عليه، مثل أفغانستان وتركيا وغيرها من الدول، وهنا نقول لقطر حكومة وشعبًا، حاكمًا ورعية، شكرًا وألف شكر، فكما عهدناكم تقفون بصدق مع القضية، وجدناكم تقفون بصدق مع الشهيد هنية، بل وتعتبرونه شهيدكم وفقيدكم. وهو كذلك حقًا، لأنه شهيد الأمة الحية، وشهيد الأمة الصادقة مع الله تعالى، وشهيد كل الأحرار في الأمة، بل في العالم أجمع.
ومن دلائل شهادته الصادقة -رحمه الله- في الجنازة أيضًا، أنها خلت من المنافقين والمثبطين ودعاة الهوى المارقين، وخلت من الحكام الكاذبين بل والكافرين، فلا تمثيل لدول عربية تزعم ليل نهار أنها تناصر القضية، ويا للعجب! دول تدعي نصرة القضية ولا تحضر للصلاة على هنية! بل وهم وأذنابهم يشمتون في موته، ولا عجب فهؤلاء يحضرون جنازات أمثالهم وأشباههم من أبناء القردة والخنازير مثل شارون وبيريز وغيرهم، لكن الله تعالى طهّر جنازة هنية بأن خلت من أمثال هؤلاء، فهي جنازة بطل شهيد، يحضرها العلماء والصادقون وفقط.
هنية والسنوار
هنية والسنوار وجهان لعملة واحدة، الشهيد بطل مجاهد وخليفته بطل مجاهد، الشهيد عاش ومات على العهد وخليفته نراه على العهد -نحسبه كذلك ونسأل الله له الثبات- الشهيد كان سياسيًا محنكًا وخليفته سياسيًا محنكًا، الشهيد من قدامى الرجال في (حماس) وخليفته كذلك؛ فهما شريكا الدرب من أيامهما الأولى في حركة المقاومة الإسلامية -حماس- فضلًا عن اشتراكهما في الغاية والأهداف وكثير من الوسائل، والأكثر ما بينهما من الحب الحقيقي في الله تعالى، وقد تختلف قدرات كل منهما عن أخيه، فلربما كان هنية أكثر في الناحية السياسية، لكن أبا إبراهيم السنوار أشد بأسًا وأكثر حنكة من الناحية العسكرية، ومن جميل القدر أن السنوار رُزق قبل أيام بمولود ذكَرٍ فقام بتسميته “إسماعيل”، وهو بذلك يحفظ عهد أخيه الشهيد، ويسمي إسماعيل بعد ابنه الأكبر إبراهيم.
حماس والقسام بعد هنية
إن “حماس” بمرجعيتها الإسلامية وتنظيمها القوي المترابط ومجلس الشورى الأساسي فيها، يجعلها لا تتأثر باستشهاد قائد وإن كان كبيرًا مثل الشهيد إسماعيل هنية، وما “القسّام” إلا ذراعها العسكري الذي يرد موردها ويصدر عن رأيها، وقد يظن اليهود أنهم بقتل قائد مثل الشهيد هنية قد يضعفون آخرين، أو يرهبون بعضهم، محاولة منهم لتحقيق مكاسب ما، وما يعلمون أن المسلمين الحق إذا استشهد قائدهم ازدادوا حماسًا، وحبًا للشهادة، وزيادة في الانتقام من عدوهم، وأصبح كل همهم الثأر له، والأكثر من ذلك هو ولادة عشرات القيادات بعده، كلهم يتمنى أن يسير على دربه، وأن يقتفي أثره.
وهذا ما علّمناه رسول الله ﷺ؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “إِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ، فَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ“. قَالَ عَبْدُ اللهِ: كُنْتُ فِيهِمْ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ، فَالْتَمَسْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَوَجَدْنَاهُ فِي الْقَتْلَى، وَوَجَدْنَا فيمَا أقبل من جَسَدِهِ بِضْعًا وَتِسْعِينَ مِنْ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ5.
فلما قُتل الثلاثة العظماء، اختار المسلمون خالد بن الوليد فكتب الله النصر على يديه، بل وسماه رسول الله ﷺ: “سيف الله المسلول”، وهو الذي دوخ المشركين والمرتدين وفتح الله على يديه الفتوحات العظيمة.. إنها أمة ولّادة.
وما حماس بعد هنية إلا أصلب عودًا وأكثر ترابطًا، وأشد على أعداء الله تعالى، وما القسام بعد هنية إلا أشد إصرارًا على الثأر والانتقام له ممن قتلوه، ولقد أكرمهم الله تعالى بقيادة السنوار، فلعل الله تعالى يفتح على يديه.
إيران واستشهاد هنية
وبما أن لحكومة إيران سوابق سيئة مع أهل السنة، كما في العراق وسوريا واليمن ولبنان وغيرها، بل ولها مجازر مروعة ضد المسلمين العزل في هذه البلاد، فضلًا عما فعلته مع أهل السنة في إيران نفسها من إعدامات وقتل وسجن وتعذيب وتضييق، مما لا يخفى على أحد. فقد يلقي البعض على إيران كل مصيبة، وينسون أن إيران لها بعض الحسنات مع أهل فلسطين، بغض النظر عن نيتها في ذلك إلا أنها أمدت حماس والقسام بالسلاح والتدريب وغير ذلك، وناصرت قضية فلسطين ظاهريًا، وشاركت ببعض أذرعها في معركة طوفان الأقصى، في وقت تخلت فيه كل الدول التي تدعي السُّنية -والسنية منهم براء- عن فلسطين وأهلها، بل وقفت صراحة ضد طوفان الأقصى، ودافعت عن الكيان الصهيوني بكل قوتها، وحاصرت أهل غزة وجوعتهم حتى الموت، مثل مصر والأردن والإمارات -شيطان العرب- والسعودية والمغرب والبحرين وغيرهم، أقصد في ذلك الحكومات لا الشعوب المغلوبة على أمرها أو المغيبة عن القضية، وليس ذلك بعذر للشعوب التي وجب عليه الثورة على هؤلاء الحكام المتصهينين لخلعهم وتنصيب حكام مسلمين بحق بدلًا منهم.
ومن هنا فالمتصيدون الأخطاء لإيران، أو من يريدون الفتنة بين فئات المسلمين، أو من يريدون إثبات نظريتهم بخيانة إيران للقضية، ينسبون قتل الشهيد هنية لإيران، من باب الانتصار لرأيهم في إيران، ونحن لا ننفي عن بعض الإيرانيين العمالة التامة للصهاينة كما هو الحال في كثير من بلادنا، وهؤلاء جواسيس للصهيونية وعملاء لها يشاركونها في كل مصيبة، بما يخالف حكومة إيران صاحبة المشروع الرافضي والذي يتعارض مع المشروع الصهيوني في المنطقة، ولكن هل يُعقل أن إيران كحكومة تُقدِم على خطوة هي تعلم أن وراءها حربًا إقليمية بل ربما عالمية تكون إيران أول وقودها؟! بالطبع لا.
لكن يُعقل أن الصهاينة هم من دبروا ذلك وخاصة المتطرفين منهم وعلى رأسهم (النتن ياهو) وذلك لقتل فرص الهدنة وكذلك لتوريط أمريكا في الحرب، وذلك من أجل بقاء هذه الحكومة في السلطة، لأن نتنياهو مستعد لعمل أي شيء بشرط أن يبقى والمتطرفون حوله على رأس منظومة الحكم في البلاد.
والذي يجب أن يدركه الجميع أن إيران صاحبة مشروع تعمل له بكل طاقاتها، وتسخر له كل إمكاناتها للسيطرة على كامل الشرق الأوسط، وتعادي فيه الصهاينة كما تعادي أهل السنة، لكنها تلعب بالأوراق التي ترى أنها تكسب بها، وآلمني وآلم كل حر سؤال الدهر أين مشروع السنة؟ ومتى سيقوم؟ ومن يقوم عليه ويهتم به؟ حتى يملأ تلك الفراغات في الساحة الإقليمية والعالمية، وعساه يكون قريبًا بإذن الله تعالى.
من قتل هنية إذن؟
سؤال سهل، لكن الإجابة عليه صعبة ومرة مرارة العلقم، من قتل بطلًا مغوارًا يدافع عن أرض المسلمين ومقدساتهم؟ هل هي إيران؟ العقل والمنطق يقولان: لا. إذن هل هي إسرائيل؟ العقل والمنطق يقولان: نعم، لكن شكلًا لا حقيقة.
أما الحقيقة الـمُرة أن مَن قتل هنية هم قادة العرب والمسلمين، إي والله الذي لا إله غيره هم بعينهم لا غيرهم، قتلوه ساعة خذلوه، قاتلوه ساعة تخلوا عنه جهارًا نهارًا، قتلوه ساعة خانوه وتعاملوا مع عدوه، قتلوه ساعة وصموه بالإرهاب، قتلوه عندما حاصروه وطاردوه وألجأوه للشرق والغرب، قتلوه حينما اضطروه للتعامل مع الصفويين، قتلوه حينما باعوه وباعوا كل فلسطين بما فيها الأقصى، باعوهم للصهاينة ولم يقبضوا الثمن، بل باعوهم ودفعوا عليهم الثمن لليهود، يا لذل أمة ويا لتياستها وبلاهتها حين تمجد قاتلها، وتتآمر على قتل من يدافع عنها وعن كرامتها!
وداعًا هنية، وداعًا أيها البطل
وداعًا والملتقى الجنة بإذن الله تعالى، مع الشيخ ياسين والرنتيسي وعيّاش، ورجال كُثُر من أهل الجهاد الحر، بل مع ياسر وحمزة ومصعب وزيد وجعفر وابن رواحة وعمر وعثمان وعلي، ومع كل الشهداء الأبرار من هذه الأمة.
وداعاً أيها البطل ** لفقدك تدمع الـمُقَلُ
بقاع الأرض قد ندبت ** فراقك واشتكى الطللُ
لإن نائت بنا الأجساد ** فالأرواح تتصلُ
ففي الدنيا تلاقينا ** وفي الأخرى لنا الأملُ
فنسأل ربنا المولى ** وفي الأسحار نبتهلُ
بأن نلقاك في فرح ** بدارٍ ما بها مللُ
بجنات وروضات ** بها الأنهار والحللُ
بها الحور تنادينا ** بصوت ما له مثلُ
بها الأحباب قاطبة ** كذا الأصحاب والرسلُ
بها أبطال أمتنا ** بها شهداؤنا الأُولُ
فيا مَن سبقت إلى ** جنان الخلد ترتحلُ
هنيئاً ما ظفرت به ** هنيئاً أيها البطلُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم، برقم 1909.
2 رواه مسلم، برقم 1908.
3 رواه مسلم، برقم 1910.
4 رواه الحاكم وصححه، والخطيب، وصححه الألباني.
5 صحيح البخاري، رقم 4261.