هنيئًا لك الشهادة يا هنيّة
سبتمبر 5, 2024التضحية والثبات في غزوة أحد (1/ 2)
سبتمبر 6, 2024بقلم د. رجب زكي عثمان (عضو مجلس الأمناء بالهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ)
الحمد لله الشهيد على عباده في الدنيا ويوم القيامة والصلاة والسلام على النبى الذي رفع عن الأمة الظلام والظلامة، وعلى آله وصحبه، ما سار الركبان نحو الحجاز أو تهامة. أما بعد:
فإن الحزن يخيّم على النفوس، ويُطبِق على القلوب، لما يصيب إخواننا في غزة من الضر، وينزل بهم من البأس. ثم أصابتنا طعنة نجلاء في صدورنا، لـمّا علِمنا أن الأسد الهصور قد ارتقى شهيداً، وأن إسماعيل هنيّة رحمه الله قد خُتم له بخاتمة ياسين والرنتيسي، في قائمة طويلة من تيجان رؤوس الأمة التي تمتد إلى حمزة وعكرمة.
وفي ظل هذا العجز عن نصرة إخواننا، والخذلان لهم الذي يحيط بنا من كل جانب، فإننا نفزع إلى سيَر هؤلاء الشهداء العظام الذين بذلوا المهَج في سبيل هذا الدين؛ لأن في سِيَرهم تسليةً عن الحزن، وتنفيساً عن الـهَم، وفي أخبارهم شحذاً للهمم، وشحناً للعزائم، وفي قصصهم عبراً ودروساً وفوائد.
غسيل الملائكة
ومن هؤلاء السادة صحابيّ جليل نال الشهادة ولُقّب بلقب فريد، سنستعرض في هذا المقال قصته ونطوف حول حكايته، اسمه: حنظلة بن أبي عامر، ولقبه: غسيل الملائكة.
قال الواقدي: “وكان حنظلة بن أبي عامر تزوّج جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، فأُدخلت عليه في الليلة التي في صُبحها قتال أُحد، وكان قد استأذن رسول الله ﷺ أن يبيت عندها فأذِن له، فلما صلى بالصبح غدا يريد رسول الله ﷺ ولزمته جميلة فعاد فكان معها، فأجنب منها ثم أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعة من قومها فأشهدتهم أنه قد دخل بها، فقيل لها بعد: لم أشهدتِ عليه؟ قالت: رأيتُ كأن السماء فُرجت فدخل فيها حنظلة ثم أُطبقت! فقلتُ هذه الشهادة. فأشهدتْ عليه أنه قد دخل بها”.
وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول عن قتل حنظلة بن أبي عامر بعد أن التقى هو وأبو سفيان بن الحارث، حين علاه شداد بن الأسود بالسيف فقتله، فقال رسول الله ﷺ: “إن صاحبكم تغسله الملائكة“. فسألوا صاحبته (زوجته) فقالت: إنه خرج لما سمع الهائعة (الصوت المفزع، وهو منادي الجهاد.. سمع منادي النبي ﷺ يدعو للخروج للجهاد) وهو جُنُب، فقال رسول الله ﷺ لذلك: “غسّلته الملائكة“1.
وذكر السهيلي نقلاً عن الواقدي وغيره أن حنظلة رضي الله عنه بحث عنه في القتلى فوجدوه يقطر رأسه ماء، وليس بقربه ماء، تصديقاً لقوله ﷺ: “إن صاحبكم تغسله الملائكة“. وتغسيل الملائكة لحنظلة رضي الله عنه من باب الفضل والكرامة له، قال المناوي: “وكفى (غسل الملائكة لحنظلة) بهذا شرفاً، وذا لا ينافيه الأخبار الناهية عن غسل الشهيد، لأن النهي وقع للمكلفين من بني آدم”.
وإن مما يستوقف المرء في قصة حنظلة رضى الله عنه أن البيئة العائلية المحيطة به كانت مضادة للدعوة محاربة للإسلام؛ فأبوه أبو عامر كان يُلقب في الجاهلية بالراهب لتنسّكه طمعاً في أن يكون نبي آخر الزمان؛ لكن لما بُعث رسول الله ﷺ حسده وعاداه وقال للمشركين في غزوة أحد: إن قومي إذا رأوني أطاعوني ومالوا إليّ، فلما نادى عليهم: أنا أبو عامر الراهب، أجابوه: بل سمّاكَ رسول الله ﷺ الفاسق. فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر. وكان يحفر الحفر في غزوة أحد ليقع فيها رسول الله ﷺ، ووقع في أحدها فكُسرت رَباعيته، وشُج رأسه، وسال دمه الشريف.
فحنظلة رضى الله عنه انتزع نفسه من سلطان وهيمنة أبيه في سبيل الحق؛ بل إنه حارب أباه، وقاتل المشركين في غزوة أُحد فكان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً.
ثم إن زوجته هي جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ،وعبد الله بن أبي بن سلول هو رأس المنافقين، وهو الذي انخذل بثلث الجيش يوم أحد؛ فحنظلة من أسرة شريفة وصاهر أسرة شريفة، كان أبوه يعد نفسه لرئاسة يثرب الدينية، وكان حموه يهيئ نفسه لرئاستها السياسية، حتى أن قومه صنعوا له تاجاً، ليملكوه عليهم. ثم جاء الإسلام فشرق به الرجلان، لأنه حطم أحلامهم، ودمر طموحاتهم؛ فناصبوا رسول الله ﷺ العداء، وحاكوا ضده المؤامرات.
دروس من سيرة حنظلة رضي الله عنه
- لم يبالِ حنظلة رضي الله عنه بكل هذا، وإنما ملك عليه الإسلام لبه، وخالطت بشاشة الإيمان قلبه، فقدّم روحه لربه راضياً، راجياً ما عنده. وفي هذا درس عظيم لنا هو أن ننتزع أنفسنا من براثن الجاهلية، وننفض عنا وهن الدنيا، ونستشرف لتلك المنزلة السامقة، والمكانة العالية.
- ثم نرى الدرس الثاني العجيب في قصة حنظلة، والذي لا يقوى عليه إلا مَن بلغ في الإيمان ذروة السنام، وأعلى المقام.. رجل شاب موفور القوة والفتوة، تضطرم في داخله الشهوة، وتشتعل الرغبة، تُزف إليه عروس مخدرة فاتنة جميلة كاسمها، فلا ينالها سوى ليلة واحدة، وفي صبيحة تلك الليلة، ينتزع نفسه من الفراش الدافئ الوثير، ومن أحضان الزوجة الحسناء الناعمة. ومن شوقه إلى نصرة الدين والذود عن الإسلام وفداء النبى ﷺ، يسارع إلى الجهاد ويبادر إلى القتال، وينسى جنابته، ويمضي دون أن يتذكر الغسل من الجنابة.
- ويلقى بنفسه في خضم المعركة، وأتون الحرب تنهشه السيوف، وتعضه الرماح، وتخترق بدنه الشهام؛ فيُقْبل ولا يُدْبر، ويهجم ولا يحجم. ووالده على الجانب الآخر يحرض ويحفر الحفر، فلا يتردد لحظة، ولو قابل أباه في المعركة لقطف رأسه، وخطف روحه. ثم تكون خاتمته أن يثب على صدر قائد المشركين أبي سفيان بن حرب، ويهمّ بنحره؛ فيراه الأسود بن شعوب فيعاجله برمحه، وينقذ أبا سفيان من براثن هذا الهزبر الفاتك.
إسماعيل هنية.. على درب حنظلة
إن الشهيد الأسد إسماعيل هنية رحمه الله تعالى، سار على نفس درب حنظلة رضي الله عنه؛ فالرجل كان يعمل للإسلام، ويذود عن حياض القدس، في بيئة معادية تضغط عليه لصالح العدو، حتى مصر.. الدولة الجارة القريبة، والتي ينتظر منها الولاء والنصرة اصطفّت في جانب العدو، فأي نفس عظيمة كانت نفس إسماعيل، وأي همة عالية كانت همته.
- وقد شرفت بلقاء هذا البطل مرتين:
- الأولى: في بيته، في مخيم الشاطئ؛ حيث كنتُ في زمرة من العلماء ألقيت في هذا اللقاء كلمة، ولا أنسى دماثة خلقه، ورقة طبعه، وكرمه البالغ، وحفاوته وبشاشته.
- الثانية: المؤتمر العالمى لاتحاد علماء المسلمين في قطر، وقد ألقى فيه الشهيد على عادته كلمة قوية بليغة مؤثرة.
وأحب أن أختم هذا المقال بأن أقول: لا عذر للأمة في ترك نصرة أهل غزة، وعلى كل مسلم أن يبذل النفس والنفيس لاستنقاذ إخوانه من تلك المجازر المروعة، والمذابح الرهيبة، وعلينا أن نبدع شتى الطرق، ونبتكر مختلف الوسائل لنرفد إخواننا بكل ما يحتاجون إليه، وندعمهم بسائر ما يعينهم على الصمود والثبات في وجه البطش، الذي اجتمع عليهم فيه قوى الشر وأهل الباطل من سائر الأقطار، حتى أرسلت أمريكا حاملات طائراتها، ووبارجاتها.
إن وصمة العار، ولعنات الأجيال ستلحق كل المتأسلمين الذين يدّعون الانتساب إلى الإسلام، ثم هم يقفون موقف المتفرج، يشاهدون جراح إخوانهم النازفة الدامية، ولا يحركون ساكناً، ولا يغيثون آهات الثكالى واليتامى.
فضلاً عمن اصطف إلى جانب الأعداء، وانحاز إلى معسكرهم، فهؤلاء ليسوا منا، ولسنا منهم.
وإن قافلة شهداء غزة تجأر إلى ربها تشكو خذلان الأمة لها، وتخليهم عن نصرتها.. فاللهم غفراً لنا على عجزنا وتقصيرنا.
ــــــــــــــــــ
1 رواه الحاكم والبيهقي وحسّنه الألباني.