
أنوار الدُّجى
سبتمبر 1, 2024
قصيدة ملحمة الشام (4/4)
سبتمبر 3, 2024بقلم الشيخ/ مختار بن العربي مؤمن (عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ
بسم الله الرحمن الرحيم.. قال تعالى: ﴿قُلۡ هَلۡ تَرَبَّصُونَ بِنَاۤ إِلَّاۤ إِحۡدَى ٱلۡحُسۡنَیَیۡنِۖ وَنَحۡنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمۡ أَن یُصِیبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابࣲ مِّنۡ عِندِهِۦۤ أَوۡ بِأَیۡدِینَاۖ فَتَرَبَّصُوۤا۟ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾ [التوبة: ٥٢].
للمسلم منهج حياة وطريق هدى في الوفاة، لا يحيد فيه عن مبدئه ولا يتزحزح عن هدفه ومبتغاه، دليله القرآن، وقدوته الهادي البشير، وعينه على رضا خالقه، رسمت له سبل السعادة في الحياة، ورفرفت له رايات الشهادة عند الممات، ليس جندياً يموت في سبيل هدف مادي، أو تافهاً يعيش لشهوة حيوانية، بل رِجله في الثرى وهمته في الثريا.
الشهداء أحياء
فللمسلم مبتغَى ترنو إليه روحه، وتطمح إليه نفسه، ويعشقه قلبه، وهو تحقيق منهج الدين في الحياة.. قال الحق سبحانه: ﴿ٱلَّذِینَ إِن مَّكَّنَّـٰهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَوُا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَمَرُوا۟ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَنَهَوۡا۟ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۗ وَلِلَّهِ عَـٰقِبَةُ ٱلۡأُمُورِ﴾ [الحج: 41]، وقال سبحانه: ﴿وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ لَیَسۡتَخۡلِفَنَّهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ كَمَا ٱسۡتَخۡلَفَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَلَیُمَكِّنَنَّ لَهُمۡ دِینَهُمُ ٱلَّذِی ٱرۡتَضَىٰ لَهُمۡ وَلَیُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعۡدِ خَوۡفِهِمۡ أَمۡنࣰاۚ یَعۡبُدُونَنِی لَا یُشۡرِكُونَ بِی شَیۡـࣰٔاۚ وَمَن كَفَرَ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ * وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ [النور: 55-56].
وتلك أمنية كل صادق بر في الدنيا، وهي رؤية راية الحق ترفرف بالحق في سبيل الحق.
وأما الأخرى فهي الموت في سبيل الله والخلود في الجنات، وتلك أمنية تمناها سيد الخلق وحبيب الحق ﷺ؛ فلم يتمنّ من الدنيا زينتها، ولا من الشهوات لذتها، وإنما تمنى أن يجاهد في سبيل فيُقتل، ثم يجاهد فيُقتل، لِما للشهادة في سبيل الله من عظيم الدرجات، وطيب المقامات، في روضات الجنات؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: “والَّذي نَفسِي بيدِهِ، لولا أنَّ رِجالًا مِن المؤمنينَ لا تَطيبُ أنفسُهُم أن يتخلَّفُوا عنِّي، ولا أجِدُ ما أحملُهُم عليهِ، ما تخلَّفتُ عَن سرِيَّةٍ تغزُو في سَبيلِ اللهِ، والَّذي نَفسِي بيدِه، لوَدِدتُ أنِّي أُقتَلُ في سبيلِ اللهِ ثمَّ أُحيَا، ثمَّ أُقتَلُ ثمَّ أُحيَا، ثمَّ أُقتَلُ ثمَّ أُحيَا، ثمَّ أُقتَلُ“1.
ولولا ذلك ما سبق الجهادُ الحجَّ في الفضيلة؛ فعن أبي هريرة أنَّ رسول الله ﷺ سُئِل: أيُّ العمل أفضل؟ فقال: “إيمانٌ بالله ورسوله”، قِيل: ثم ماذا؟ قال: “الجهاد في سبيل الله”، قيل: ثم ماذا؟ قال: “حج مبرور”2.
بل إنَّ الجهاد ذروة سنام الإسلام؛ فعن رسول الله ﷺ أنَّه قال: “رأس الأمر الإسلام، وعَموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد”3.
ولما في الجهاد في سبيل الله من المكابدة والمصابرة كان عملُ المجاهد عملاً لا يُستَطاع مثله؛ جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: دلَّني على عملٍ يعدلُ الجهاد، قال: “لا أجدُه”.. قال: “هل تستطيعُ إذا خرَج المجاهد أنْ تدخُل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟” قال: ومَن يستطيع ذلك؟4
إن الشهادة اصطفاء من الله لأوليائه الصالحين الصادقين؛ قال تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [آل عمران: 140].
وقد بيّن القرآن أن الشهداء ليسوا بأموات؛ بل هم أحياء عند ربهم، ونهى أن يقال إنهم ميتون، بل الميت الغافل عن الله البعيد قلبه عن ربه، قال سبحانه: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [آل عمران: 154].
وعن مَسْرُوقٍ قال: سَأَلْنَا ابْنَ مَسْعُودٍ عن هذه الآية.. فقال: أَمَّا أَنَا، فَقَدْ سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ، يَعْنِي النبيَّ ﷺ: “أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقةٌ بِالعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إلى تِلْكَ القَنَادِيلِ..” الحديثَ إلى آخره.
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [آل عمران: 169- 170].
فأيُّ نعيمٍ بعدَ هذا النَّعِيم؟! أحياء وليسوا أمواتًا، يُرزَقون ورزقُهم من الله؛ ومن ثَمَّ فهم فرِحُون بما أَعطاهم الله، ويستَبشِرون بإخوانهم القادِمين عليهم؛ وذلك لحبِّهم إنزالَهم هذه المنزلة التي أنزَلَهم الله، فلا حزن بل استِبشار وفضل ونعيم، كيف وهي جنَّة الخلد التي هي دار الله وهم ضيوفه، ليَجِدُوا ما لا عين رأتْ، ولا أذن سمعتْ، ولا خطَر على قلب بشَر.
قال القماش في تفسيره: “أي: كالأحياء في الحكم، لا ينقطع ثواب أعمالهم لأنهم قُتلوا لنصرة دين الله، فما دام الدين ظاهراً في الدنيا وأحد يقاتل في سبيل الله فلهم ثواب ذلك لأنهم سنّوا هذه السُّنة ﴿وَلكِن لا تَشْعُرُونَ﴾ كيف حالهم في حياتهم، وفيه رمز إلى أنها ليست مما يشعر به بالمشاعر الظاهرة من الحياة الجسمانية، وإنما هي أمر روحاني لا يُدرَك بالعقل بل بالوحي”5.
ويقول الإمام ابن كثيرٍ في تفسيره لهذه الآيات: “إنَّ أرواح الشُّهَداء كما جاء في صحيح مسلم في حَواصِل طيور خضر، تَسرَح في الجنَّة حيث شاءتْ ثم تَأوِي إلى قَنادِيل معلَّقة تحت العرْش، فاطَّلع عليهم ربك إطلاعةً فقال: ماذا تَبغُون؟ فقالوا: يا ربنا، وأي شيء نَبغِي وقد أعطَيتَنا ما لم تُعطِ أحدًا من خَلقِك؟! ثم عاد عليهم بمثْل هذا، فلمَّا رأَوْا أنهم لا يتركون من أنْ يسألوا قالوا: نُرِيد أن تردَّنا إلى الدار الدنيا فنُقاتِل في سبيلك حتى نُقتَل فيك مرَّةً أخرى؛ لما يرَوْن من ثَواب الشَّهادة، فيقول الرّبُّ -جلَّ جلالُه-: إنِّي كتبتُ أنّهم إليها لا يرجعون”6.
وقال سعيد بن جبير: “لمَّا دخَل الشهداء الجنَّةَ ورأَوْا ما فيها من الكَرامَة قالوا: يا ليت إخوانَنا الذين في الدنيا يَعلَمون ما عَرَفناه من الكَرامَة، فإذا شهِدُوا القِتالَ باشَرُوها بأنفُسِهم حتى يستشهدوا فيُصِيبوا ما أصابَنا من الخير”.
لا تحزنوا يا إخوتي .. إني شهيد المحنة
يا فرحتي بمنيّتي .. اليوم أنهي غربتي
وكرامتي بشهادتي .. هي فرحتي ومسرتي
في ظل عرش الهنا .. أبغي لقاء أحبتي
معهم أعيش مكرما .. ومفعماً بسعادتي
ولئن صُرعت فذا دمي .. يوم القيامة آيتي
الريح منه عاطر .. واللون لون الوردة
لقد حظي شهداء بدر وأُحد بمنازل الصدق وأهل الكرامة في عالي الجنات، فهذه أم حارثة تسأل رسول الله ﷺ عن ابنها: هل نزل منازل الأبرار فتهنأ بعيشه في رضا، أم نزل منازل الأشقياء فتبكيه وتندب حظه، فعن أنس رضي الله عنه أن أم الرُّبيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سُراقة، أتَت النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، ألا تُحَدِّثُنِي عن حارثة (وكان قُتِل يوم بَدْرٍ) فإن كان في الجنَّة صَبَرْت، وإن كان غير ذلك اجْتَهَدْتُ عليه في البُكَاء، فقال: “يا أم حارثة، إنها جِنَان في الجنة، وإن ابْنَك أصَاب الفِردَوْس الأعلى“7.
بل إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حزن على والده عبد الله بن حرام حزناً يفتّت الأكباد -وكان من شهداء أحد- قال: “لَقِيني رسولُ الله ﷺ وأنا مُهْتَمّ، فقال: “ما لي أراك منكسراً؟” قلتُ: اسْتُشْهِدَ أبي يومَ أُحُد، وترك عيالاً ودَيْناً، فقال: “ألا أُبَشِّرُكَ بما لقي الله به أباك“؟ قلتُ: بلى، قال: “ما كلَّم الله أحداً قطُّ إلا من وراء حجاب، وإنه أحْيىَ أباك، فكلَّمه كِفاحاً، فقال: يا عبدي، تمنَّ عليَّ أُعْطِكَ، قال: يا ربِّ، تحييني فأُقتل ثانية، قال سبحانه: قد سبق مني أنَّهم إليها لا يرجعون“. فنزلت: ﴿ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ الله أمْوَاتا بَلْ أحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون﴾ [آل عمران: 169]”8.
كفاحاً: يقال: كلمته كفاحاً، أي: مواجهةً.. ليس بيننا حجاب.
فأي فضل بعد هذا؟ وأي أنس يجده غيرهم من الأموات يعادل تلك البشائر.
فضل الشهادة في سبيل الله تعالى
لقد حاز الشهيد ما تمناه من الكرامات الربانية، وسعد بما يلقاه من البشائر الهنية، فيا سعد من قُتل في سبيل الله أو مات مهاجراً ابتغاء مرضات الله! وإليكم أيها الفضلاء هذه الفضائل التي يحوزُها الشهيدُ؛ فقد قال رسول الله ﷺ: “للشهيد عند الله ستُّ خِصال: “يُغفر له في أوَّل دفعة، ويرى مقعده من الجنَّة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزَع الأكبر، ويُوضَع على رأسه تاجُ الوقار، الياقوتة منها خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويُزوَّج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور العين، ويُشَفعُ في سبعين من أقاربه“9.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: “ما يجدُ الشهيد من مسِّ القتل إلا كما يجدُ أحدكم من مسِّ القرصة”10.
وإذا قُتِل الشهيدُ لم ينقطعْ عمله الصالح، بل يزيدُ ويتضاعف؛ فعند الترمذي عن رسول الله ﷺ أنه قال: “كلُّ ميتٍ يُختَم على عمله إلا الذي مات مُرابِطًا في سبيل الله؛ فإنَّه يُنمَى له عملُه إلى يوم القيامة، ويأمنُ من فتنة القبر“11.
فهنيئاً لمن وقفوا في ميادين الوغى يذودون عن حِمى الدين وبَيضة الشرع، وحريم الأمة الطاهر، الشهادة وما يلقونه من الكرامات الإلهية، والنفحات القدسية، فاللهم تقبّل شهداء فلسطين وكل مَن قُتل في سبيل إعلاء كلمتك.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري (2797)، ومسلم (1876) باختلاف يسير.
2 البخاري.
3 أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح.
4 البخاري.
5 تفسير روح البيان (1/207)، للشيخ إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي الخلوتي رحمه الله، دار إحياء التراث العربى.
6 تفسير ابن كثير (1/87).
7 رواه البخاري.
8 أخرجه الترمذي.
9 أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
10 أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
11 أخرجه الترمذي.