قافلة الشهداء من سمية إلى هنية
سبتمبر 1, 2024الموت في سبيل الله أقصى أمانينا
سبتمبر 1, 2024بقلم م. محمد إلهامي (رئيس تحرير مجلة أنصار النبي ﷺ)
لا بد للأمة المستضعفة التي تحاول النهوض من تقديم الشهداء في سبيل ذلك، هذا قانون الدنيا الذي يعرفه المسلم والكافر، الصالح والطالح، بل هو إجماع العقلاء!
ولئن كان المرء يعرف بالبديهة والطبع أنه لا نجاح في الدنيا بغير التعب والجهد، فبمثل ذلك –بل هو أولى منه- أن لا نهضة لأمة ولا عز لها ولا مجد ولا جاه إلا ببذل الشهداء! فما وصلت أمة إلى السيادة إلى بعد طريق الكفاح المرير! وانظر حولك وفتش في الأمم وفي التاريخ: هل رأيت أمة غلبت وسادت إلا بعد أن انتصرت في المعارك؟!
ولهذا ترى الأمم تمجد شهداءها ومقاتليها أكثر مما تمجد مهندسيها ومعمارييها وفنانيها، فلولا الحروب والانتصار فيها ما استطاع المهندس والمعماري والفنان أن يصنع شيئا! فالمقاتل والشهيد هم صُنَّاع المجد وأساسه، وأما البقية فهم أصحاب زخرفته وتزيينه وتلميعه!
(1)
ليست أمتنا في قوانين الدنيا بدعا من الأمم، ولكنها كذلك في المعاني التي تهيمن عليها وتصوغ نفسها ومزاجها، فلن تنتصر أمتنا ولن تنهض ولن تسود إلا إذا خاضت المعارك وانتصرت فيها ووضعت خيرة أبنائها في منازل الشهداء. لكن الشهداء في ديننا ليسوا الثمن المدفوع في سبيل المجد فحسب، ولكنهم السادة الراقون إلى ذروة سنام الإسلام! الصاعدون إلى أعالي الجنان!
ولأن الله هو خيرُ من سُئل وأجود من أعطى وأوفى من وعد، فإنه كافأ الذين بذلوا حياتهم له تصديقا بما وعد وتنفيذا لما أمر، كافأهم بدوام الحياة، ولهذا قال تعالى ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 154]. وقال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 169 – 171].
قال إمام التفسير ابن عطية الأندلسي في هذه الآية: “أخبر الله تعالى في هذه الآية عن الشهداء: أنهم في الجنة يرزقون. هذا موضع الفائدة، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم”[1].
وأخبرنا نبينا أنه ما من أحد يدخل الجنة فيتمنى أن يعود إلى الدنيا، إلا الشهيد، وهو إنما يتمنى ذلك ليعاود القتال فيُقتل من جديد، ففي حديث أنس عن النبي ﷺ أنه قال: «ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا، وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا، فيقتل عشر مرات لما يرى من الكرامة»[2].
ولقد تمنى نبينا ﷺ هذه المنزلة لنفسه، وهو أفضل البشر وسيد المرسلين، ففي حديث أبي هريرة أنه ﷺ قال: والذي نفسي بيده، لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأُقتل، ثم أحيا ثم أُقْتَل، ثم أحيا ثم أُقتل!
بل إن الذي خرج إلى الجهاد، حتى لو لم يُقْتَل ولم ينل الشهادة، يعطى من الأجر ما لا يعطاه أحد غيره، وقد سُئل ﷺ عن عمل يعدل الجهاد، فقال: «لا أجده». ثم قال ﷺ: «هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟»، قال: ومن يستطيع ذلك؟. ثم أضاف أبو هريرة، راوي الحديث، عبارة تفسيرية مدهشة يقول فيها: «إن فرس المجاهد ليستن في طوله، فيكتب له حسنات»[3]، أي أن المجاهد يُعطى أجراً على المرح الذي يمرحه حصانه!!
والآيات والأحاديث في فضل الشهادة والجهاد كثيرة لا يستوعبها هذا المقام..
(2)
المقصود أن هذا الحشد الحافل من النصوص القرآنية والنبوية، ومعها تلك السيرة المزدحمة بأخبار الشهادة والجهاد منذ زمن النبي والصحابة والتابعين ومن بعدهم، كل هذا قد جعل أمتنا دفاقة بالمجاهدين فياضة بالشهداء، ولولا هذا كله ما بلغنا السيادة والتفوق والعزة التي كنا فيها لألف سنة تقريباً، لقد بُنِي هذا المجد كله على صرح من الأشلاء والجماجم التي بذلها أصحابها في سبيل الله!
وقد استطاع المسلمون أن يوازنوا بين أمريْن لا يمكن لغيرهم الموازنة بينهما، فهم قوم يكرهون القتال، كما وصفهم ربهم في القرآن الكريم، ويُقَدِّمون عليه الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويبدؤون دعوتهم بالحجة واللسان والبيان، فإذا تعذر ذلك أقدموا على الجهاد إقدام من يحب الموت ويطلبه ويشتاق إليه ويتعشقه! وما ذلك إلا لأنهم علموا أن الخير فيما كتبه الله وقدَّره، وهو العليم، قال تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 216].
ومن هنا فقد كان جهاد الأمة مفارقا للوحشية التي اصطبغت بها حروب الأمم الجاهلية، وكانت أخلاقها عاصمة لها من تكرار سيرة الغزاة السفاحين السفاكين. وفي ذات الوقت لم يكونوا الجبناء المتخاذلين ولا الضعفاء الخوارين!
قال مؤرخان فرنسيان نظرا في تاريخ الإسلام بين تاريخ الأمم: “الإسلام دين أبطال أكثر منه دين شهداء، ففور وفاة الرسول، ستنطلق القوة الهائلة التي كان قد أنشأها لفتح العالم”[4]، وقولهما: دين شهداء إنما قصدوا به المعنى النصراني للشهادة، معنى الموت المستسلم أمام طواغيت الدنيا لأن ملكوت الرب لن يتحقق إلا في الآخرة.
وكما يقول ولفرد كانتول سميث: “النصرانية أرجأت تحقيق ملكوت الرب إلى الآخرة، على اعتبار أنه مستحيل التحقيق في الحياة الدنيا، لأن الإنسان خاطئ بطبعه، قاصر بطبعه، معوج بطبعه، فلا يمكن أن يستقيم. أما الإسلام فقد اعتبر تحقيق ملكوت الله هو مهمة الإنسان في الحياة الدنيا لا في الآخرة، ولذلك يسعى المسلمون دائما إلى محاولة تطبيقه، وإلى تقويم عجلة التاريخ كلما انحرفت عن الطريق ولو ضحوا بأنفسهم في سبيل ذلك، ومن ثم فإن التضحية في الإسلام له حصيلة إيجابية في واقع الأرض هي محاولة تقويم هذا الواقع وإصلاح ما اعوج منه، بينما التضحية في النصرانية ذات مفهوم سلبي، مؤداه أن يقف النصراني أمام عجلة التاريخ المنحرفة لا ليقومها ولكن لتدوسه وهو واقف مكانه، فهو يفضل أن تدوسه العجلة وتقتله على أن يسمح لها أن تتجاوزه وهي منحرفة، ولكنه لا يبذل جهدا لتصحيح مسارها وردها إلى الصراط المستقيم”[5].
إن هذه المعاني الفكرية المنحوتة التي استخلصها أصحابها بعد البحث والتأمل تتسرب إلى المسلم وتتشربها الجموع المسلمة في سلاسة وعذوبة وروحانية رفيعة في مصادرها الإسلامية، وخذ هذا المثال: لقد كتب ابن النحاس كتابا في فضل الجهاد والشهادة، فأسماه بهذا الاسم الفاخر: “مشارع الأشواق إلى مصارع العشاق، ومُثير الغرام إلى دار السلام”، وقال في مقدمته:
“ومما يجب اعتقاده أن الأجل محتوم، وأن الرزق مقسوم، وأن ما أخطأ لا يصيب، وأن سهم المنية لكل أحد مصيب، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأن ما قدر أزلاً لا يُخْشَى فيه الفوت، وأن الجنة تحت ظلال السيوف، وأن الرِّيَّ الأعظم في شرب كؤوس الحتوف، وأن من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار، ومن أنفق دينارا كُتِبَ بسبع مائة -وفي رواية- بسبع مائة ألف دينار، وأن الشهداء حقا عند الله من الأحياء، وأن أرواحهم في جوف طير خضر تتبوأ من الجنة حيث تشاء، وأن الشهيد يغفر له من جميع ذنوبه وخطاياه، وأنه يُشَفَّع في سبعين من أهل بيته ومن والاه، وأنه أَمِن يوم القيامة من الفزع الأكبر، وأنه لا يجد كرب الموت ولا هول المحشر، وأنه لا يحس ألم القتل إلا كمس القرصة، وكم للموت على الفراش من سكرة وغصة، وأن الطاعم النائم في الجهاد أفضل من الصائم القائم في سواه، ومن حرس في سبيل الله لا تبصر النارَ عيناه، وأن المرابط يجري له أجر عمله الصالح إلى يوم القيامة، وأن ألف يوم لا تساوي يوما من أيامه، وأن رزقه يجري عليه كالشهيد أبدا لا ينقطع، وأن رباط يومٍ خير من الدنيا وما فيها أجمع… إلى غير ذلك من الفضل الذي لا يضاهى، والخير الذي لا يتناهى. وإذا كان الأمر كذلك فيتعين على كل عاقل التعرض لهذه الرتب وإن كان نيلها مقسوماً، وصرف عمره في طلبها وإن كان منها محروماً”.
(3)
من نظر في التاريخ عرف بغير كثير ونظر وتعب أن ما نحن فيه الآن من الذلة والضعف إنما كان بسبب التهاون في الجهاد، والتراخي فيه، حتى تركه بالكلية. فما إن وقع التكاسل في باب الجهاد هذا حتى بدأت الأمة يُنتقص من أطرافها، ويدخل عدوها عليها، حتى صرنا إلى هذا الحال الذي نحن فيه.
ولأننا اليوم أمة مستضعفة فلا بد أن تتنوع فينا أنواع القتل، وتتكاثر فينا أصناف الشهداء:
فثمة من يقتل في جهاد يدفع بها الكفرة المحتلين، كما يفعل أهل غزة وأهل فلسطين الميامين وهم يدفعون الصهاينة ويصاولونهم، يوقفون أنفسهم على مهمة حماية الأقصى أن يُهْدَم وأن يُستباح وأن يعود كما كان في أيام الصليبيين حظيرة خنازير، أو كما يراد له أن يكون في خيال اليهود: معبدًا يُساء لله فيه!
وثمة من يقتل في جهاد الجبابرة والطواغيت، عملاء المحتلين الذين يبغضون الدين ويطاردون المؤمنين ويُمَكِّنون في أرض الإسلام للصهاينة والصليبيين والوثنيين، كما يفعل أهل الثورات والجهاد المبارك في الشام وفي غيرها من بلاد الثورات، ومؤخرا التحقت بهم بنجلاديش، والتي نسأل الله أن يجنبهم زلل الثورات العربية وأخطاءها، وأن يجنبهم أولياء طاغيتهم التي أزالوها، فإن من وراء طاغيتهم دولة وثنية حقود كؤود هي الهند التي تعيش الآن عصراً هندوسياً متعصباً!
وثمة من يقتل في جهاد البغاة والصائلين، وأولئك هم عملاء عملاء المحتلين، كما يحدث في السودان الخصب الحبيب، الذي تسلط عليه السفاح المجرم حميدتي، الممدود بحبل شيطان العرب ابن زايد، والذي يقترف من جرائم القتل والاغتصاب والتعذيب ما ليس معروفا أنه كان في تاريخ السودان، إذ أهل السودان من أطيب الناس وأكثرهم هدوءا، وهو ثاني اثنين من بلاد العرب –مع موريتانيا- يمكن أن يعيش فيها رئيس سابق، ولعلها الوحيدة التي يعيش فيها قائد انقلاب عسكري إذا فشل انقلابه!! وذلك لشدة ما عند القوم من اللين والتسامح! فأي شيطان هذا الذي أفسد أهل السودان حتى أحدث فيها هذا الحدث العظيم الشنيع؟!
وثمة من يُقتل صابراً محتسباً قابضاً على دينه كما في تركستان الشرقية وأراكان المنسية، وغيرها من البلاد التي اشتدت فيها وطأة الكافرين وانعدم فيها النصير للمؤمنين، ومثلهم في ذلك مثل من يموت في سجون الأنظمة العربية: إما تحت التعذيب، وإما بالترك ينهشه المرض ويؤخر عنه العلاج حتى يموت!
وهؤلاء جميعاً هم ثمن الهزيمة المدفوع، ولعلهم يكونون في ميزان سيئات من تركوا الجهاد قديماً، وإنه لمريع مروع أن يتصور المرء كيف ستكون موازين الذين تركوا الجهاد إذا عاقبهم الله فوضع في موازين سيئاتهم كل هؤلاء القتلى والجرحى والمقهورين!
ولكنهم مع ذلك هم وقود النهضة القادمة، فهم الذين يمهدون السبيل ويعبِّدون الطريق، وفي موازين حسناتهم سائر انتصارات الأمة الآتية، وإنه لأمر هائل عظيم أن يجد الشهيد في ميزان حسناته ملايين الناس الذين اهتدوا لموته، واقتدوا بسيرته، واستفادوا من ثمرة عمله!
(4)
لئن كان المرء لا يختار زمانه ولا مكانه، فما له إلا أن ينظر ويتأمل لمَ هيَّأه الله وفيمَ أقامه، فلا اعتراض على قدر العليم الخبير، وهل للعبد الجاهل الغرير أن يعلم حكمة الرب الكبير؟!
فلئن لم نختر الحياة بأيدينا، فلا أقل أن نختار نوع الموت الذي ينفعنا ويرفعنا ويُرَقِّينا، فما من الموت مفر ولا مهرب، وليس لنا في هذه الحياة الدنيا –مع الذلة والضعف- لذة ولا مكسب!
ولئن كان المسلم في زمن العزة يملك أن يتخير من الثغور ما يجاهد فيه، فإن المسلم في زمن الذلة هذا لا ينفك عن ثغر يجد نفسه فيه!
ولنا على السابقين فضل الأربعين ضعفاً، وأن نكون مندرجين في أحباب النبي ﷺ الذين اشتاق إليهم صفة ووصفاً!
[1] ابن عطية، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، 1/540.
[2] البخاري (2817)، مسلم (1877).
[3] البخاري (2785)، مسلم (1878).
[4] جان برو وغيوم بيغو، التاريخ الكامل للعالم، ص93.
[5] ولفرد كانتول سميث، الإسلام في التاريخ الحديث، ص9، نقلاً عن: محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، ص102.