مفقودون.. حتى في نشرة الأخبار!
أغسطس 25, 2024أنوار الدُّجى
سبتمبر 1, 2024بقلم الدكتور/ محمد الصغير (رئيس الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ)
كان معاذ بن جبل حريصاً على العلم واعياً لما يُلقى عليه؛ فقال له رسول الله ﷺ: “هل أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟” فقال: بلى يا رسول الله؛ فقال ﷺ: “رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد“. وذروة كل شيء أعلاه.
وهذا الذي استقر في نفوس أصحاب رسول الله ﷺ، لكن الظروف والأحوال كانت تَحول دون نفير الناس جميعاً، فسألوا رسول الله ﷺ عن عمل يعدل الجهاد! قِيلَ: يَا رسُولَ الله، مَا يَعْدِلُ الجِهَادَ في سَبيلِ الله؟ قَالَ: “لاَ تَسْتَطيعُونَه”. فَأعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا كُلُّ ذلك يقول: “لا تستطيعونه“. ثُمَّ قَالَ: “مثَل المُجَاهِدِ فِي سَبيلِ الله كمثَل الصَّائمِ القَائمِ القَانِتِ بآياتِ الله لا يَفْتُرُ مِنْ صلاةٍ، وَلاَ صيامٍ، حَتَّى يَرجِعَ المجاهدُ في سَبِيلِ الله“1.
وفي روايةِ البخاري، أنَّ رَجُلًا قَال: يَا رسُولَ اللَّهِ دُلَّني عَلى عملٍ يَعْدِلُ الجهَادَ؟ قَالَ: “لاَ أجدهُ” ثُمَّ قَالَ: “هَلْ تَستَطِيعُ إِذَا خَرَجَ المُجاهِدُ أنْ تدخُلَ مَسجِدَك فتَقُومَ وَلاَ تَفتُرَ، وتَصُومَ وَلاَ تُفطِرَ؟” فَقالَ: ومَنْ يستطِيعُ ذَلك؟
وجاء في (فتح الباري) لابن حجر: “قوله: باب: اختلف في سبب تسمية الشهيد شهيداً:
“فقال النضر بن شميل: لأنه حي، فكأن أرواحهم شاهدة، أي: حاضرة. وقال ابن الأنباري: لأن الله وملائكته يشهدون له بالجنة. وقيل: لأنه يشهد عند خروج روحه ما أعدّ له من الكرامة. وقيل: لأنه يشهد له بالأمان من النار. وقيل: لأن عليه شاهدا بكونه شهيدا. وقيل: لأنه لا يشهده عند موته إلا ملائكة الرحمة.
وقيل: لأنه الذي يشهد يوم القيامة بإبلاغ الرسل. وقيل: لأن الملائكة تشهد له بحسن الخاتمة. وقيل: لأن الأنبياء تشهد له بحسن الاتباع. وقيل: لأن الله يشهد له بحسن نيته وإخلاصه. وقيل: لأنه يشاهد الملائكة عند احتضاره. وقيل: لأنه يشاهد الملكوت من دار الدنيا ودار الآخرة. وقيل: لأنه مشهود له بالأمان من النار. وقيل: لأن عليه علامة شاهدة بأن قتل في سبيل الله”.
عِظَم باب الشهادة
* إن فعل الشهيد، ودرجة الشهادة التي خص الله بها المؤمنين، هي الباب المُشرع إلى يوم الدين ليكون العبد في مصاف مَن أنعم الله عليهم، من النبيين والصديقين والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً، لذا كان ما أعدّه الله لهم لا يشاركهم فيه غيرهم، روى أحمد أن رسول اللهِ ﷺ قال: “إِنَّ لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سِتَّ خِصَالٍ: أَنْ يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُحَلَّى حُلَّةَ الْإِيمَانِ، وَيُزَوَّجَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُجَارَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنَ مِنَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ وَيُوضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعَ فِي سَبْعِينَ إِنْسَانًا مِنْ أَقَارِبِهِ“.
* ولا يتمنى أحد من أهل النعيم العودة إلى الدنيا إلا الشهيد: روى الشيخان أن النبي ﷺ قَالَ: “مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا الشَّهِيدُ، يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الكَرَامَةِ“.
* والشهيد لا يجد ألم القتل والموت: روى أحمد أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: “مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ، إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مَسِّ الْقَرْصَةِ“.
* ورائحة دمه شاهدة على منزلته: روى البخاري أن النبي ﷺ قَالَ: “كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ المُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَكُونُ يَوْمَ القِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا، إِذْ طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالعَرْفُ عَرْفُ المِسْكِ“.
خيار الأمة يرفعون راية الشهادة
وهذه القافلة المباركة التي بدأت في أمتنا بالمرأة الصابرة الثابتة سمية، أم عمار بن ياسر، ما زالت مستمرة ويحط أصحابها رحالهم في الجنة، فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وكما بشر رسول الله ﷺ أن هذا الدين يحمله من كل خَلَف عدوله، فإن راية الشهادة يرفعها خيار هذه الأمة، ويتسلمها اللاحق من السابق، حتى تأتيه لحظة الفوز، ويدرك درجة السبق، وقد حدثني أحد رفقاء الدرب مع الأزهري المجاهد الشهيد عبد الله عزام، أنه كان يكرر كثيراً كلمة شهيد الظلال سيد قطب رحمه الله:
“إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع ميتة، حتى إذا متنا في سبيلها دبّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة“.
ولما كتبت ذلك على وسائل التواصل، أرسل لي أحد تلاميذ الشيخ عبد الله عزام مقطعاً مصوراً له وهو يرددها، فأكدت الرواية بالعيان، وقد تحقق للشيخ عزام ما أراد، من نيل درجة الاستشهاد، ودبت الحياة في كلماته، وبقيت في الأمة آثاره وعلاماته.
وعلى الدرب نفسه سار القائد الشهيد إسماعيل هنية، الذي لقي ربه قبل أيام على يد الغدرة الفجرة من بني صهيون، حيث تشابهت البدايات، واتحدت الخواتيم، فرحم الله أبا العبد إسماعيل.
ومن ألطاف الأقدار أن هذا الشهر أغسطس استشهد في 29 منه الأستاذ سيد قطب، فكان حضوره في المشهد هذه المرة أكبر، وظلاله أرحب؛ لأن الشيخ سيد يكتبك أنت، ويعبر عما في حناياك بما عجزت عن قوله وسبكه، فإن كانت الأمة منيت بفاجعة اغتيال القائد هنية، فقد أصابني منه المصيبة بلاء خاص، وامتحنت من زاوية وحدي، ولعلي أفرد لذلك مساحة أخرى بإذن الله، لكني ما تعزيت بشيء، كما تعزيت بكلام صاحب الظلال، عليه سحائب الرضوان، حيث وجدته يقول كلاماً كأنه يصف حال هنية ومآله:
“وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده، وما كان يملك أن يُودع القلوب من المعاني الكبيرة بخطبة مثل خطبته الأخيرة التي يكتبها بدمه، فتبقى حافزاً محركاً للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزاً محركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال”.
إن هذه التعزية ما كانت لتبقى حية وتعمل في النفوس عملها، لولا أن صاحبها مات في سبيلها، ودفع في حروفها دفقات من دمه، بل إنها نبتت من نبضات قلبه، واقتات عليها، على حد تعبيره في (أفراح الروح):
“كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان، أما الأفكار التي لم تطعم هذا الغذاء المقدس، فقد ولدت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبراً واحداً إلى الأمام”.
منهم مَن قضى نحبه ومنهم مَن ينتظر
ومن فرائد منزلة الشهادة وشمول بركتها أنه من طلب الشهادة بصدق، بلغ منازل الشهداء وإن مات على فراشه، وطلاب الشهادة على قسمين:
- منهم مَن قضى نحبه
- ومنهم مَن ينتظر
وقد قضى نحبه قبل يومين أحد أعلام الدعوة والتربية في هذه الأمة: أستاذ الجيل محمد أحمد الراشد، الذي وُلد في العراق ودُفن في ماليزيا، بعد حياة حافلة من العطاء، والصبر على النفي واللأواء، وتميز الأستاذ الراشد في كتاباته بالتربية العلاجية للمشاكل الدعوية والأمراض التربوية، حتى عرف كلاهما بالآخر وأصبح عَلماً عليه، وجمع الأستاذ الراشد في طرحه وطريقته بين فكر سيد قطب ورحابته، وتربية محمد قطب وتأصيله، فجمع بين القطبين في سطر، وجعلهما يكتبان بقلم واحد.
رحم الله أئمتنا من العلماء، وقادتنا من الشهداء، وألحقنا بهم في عليين، غير خزايا ولا مبدلين.
ــــــــــــــــــ
1 متفقٌ عليهِ. وهذا لفظُ مسلِمٍ.