الفرق بين الشورى والديمقراطية
أغسطس 16, 2024هم من قَتل ونحن من استُشهد
أغسطس 24, 2024بقلم الدكتور/ حسن سلمان (عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ)
الحمد لله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان ليكون للعالمين نذيراً، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين هادياً ودليلاً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، حيث أقام للحق دعوة ودولة وحضارة، وهدم الله به الباطل وبدد به الظلمات، وأنار به الدنيا فخرج الناس به من الظلمات والضلال إلى النور والهدى، ومن الشرك والكفر إلى التوحيد والإيمان، ومن التعاون على الإثم والعدوان إلى التعاون على البر والتقوى، فكانت رسالته هدى ورحمة للعالمين، وميزان عدل وقسط للمختلفين المتباينين، ومظلة سلام يفيء إليها الباحثون عن المعنى الأبدي للوجود، بعيداً عن مذاهب التيه وطرائق الضياع والشتات، بحثاً عن الحقيقة وبراهينها بالعقل والنقل والحس والتجربة دون سطوة الإكراه المادي والمعنوي لفرض العقائد والتصورات وفتنة الناس في دينهم ودنياهم.
عِلم العلاقات الدولية في سياق العلوم الوضعية يُعد علماً حديثاً لم يتبلور في صورته المستقلة إلا في أواسط القرن العشرين، وهو العلم الذي يَدرس مكونات المجتمع الدولي ذات الــتأثير السياسي، وبالتالي فمدار علم العلاقات الدولية هو الدول في علاقاتها الخارجية ولا تعلق له بالسياسات الداخلية، ويدخل في ذلك جملة من الموضوعات ذات الطابع الدولي من مؤسسات ونظم وسياسات وقوانين ونظريات وغيرها.
وأما علم العلاقات الدولية في السياق الإسلامي فهو علم مبكر، نشأ ليجيب عن التساؤلات التي اقتضتها طبيعة الفتوح الإسلامي في مساحات كبيرة، وطبيعة العلاقات بين الولاية الإسلامية العامة (الخلافة) وغيرها من الأمم، وكان رائد هذا العلم الإمام محمد بن الحسن الشيباني (صاحب أبي حنيفة) من خلال كتابه (السير الكبير)؛ فقد بلور من خلاله أصول العلاقات الدولية. وسبقت الأمة المسلمة بذلك غيرها من الأمم في هذا المجال وإن اختلفت طبيعة الموضوعات التي يدرسها في الإطار الإسلامي؛ فهو يتناول علاقات الدول والأمم ببعضها سلماً أو حرباً، كما يتناول علاقات غير المسلمين في الدولة الإسلامية خلافاً لطريقة التناول المعاصرة.
وبما أن العلاقات الدولية ودراستها واسعة ومتشعبة يصعب اختزالها في مقال محكوم بسياقات محددة كماً وكيفاً، وعليه سيتم في هذا المقال تناول الرؤية العقدية والفلسفية للعلاقات الدولية في الإسلام، على أمل أن نواصل في الحديث عن القيم الحاكمة للعلاقات في مقال آخر -إن شاء الله تعالى-.
حقيقة الإنسان وطبيعته
وإن النظر في مسألة العلاقات الدولية ودراستها تتطلب معرفة حقيقة الإنسان وطبيعته، هذا الكائن ذو الطبيعة المتفردة، التي تتسم بالمشيئة والفاعلية في إطار المشيئة الإلهية العامة والمطلقة، فلا هو كائن ملائكي مفطور على الطاعة ومسخر لها، ولا هو مخلوق شيطاني شرير لا يصدر عنه الخير مطلقاً، ولا هو كائن طبيعي ينتسب إلى عوالم الأشياء التي هي محكومة بمنطق سنني حتمي لا يحيد عنه، فالإنسان مخلوق هيأه الله تعالى لتكون له القابلية على فعل الخير والشر قال تعالى: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا * وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا﴾ [الشمس: ٩-١٠].
ولكن عملياً نجد الإنسان كثير التجاوز والتعدي والميل نحو الشرور، إلا أن يصدّه عن ذلك العجز الذاتي أو الخوف من الردع والدفع الخارجي، وهو ما نبّه إليه أبو الوفاء ابن عقيل قائلاً: “رأيت الناس لا يعصمهم من الظلم إلا العجز، ولا أٌقول العوام بل العلماء“1.
وهو حقيقة الوصف الإنساني عندما لا ينضبط بالشرع ولا يلتزم بالفطرة السوية، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَیۡنَ أَن یَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَـٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومࣰا جَهُولࣰا﴾ [الأحزاب: ٧٢]، وإذا كان هذا حال الإنسان وطبيعته وهو الواقع الذي نشاهده في حياتنا فإن أمر الدول لا يختلف عن أحوال الناس كثيراً؛ لأن الدولة ليست لها شخصية مادية مستقلة عن الأفراد بل هي مجرد أداة في يد الإنسان وما هو أصل وطبع في الإنسان فهو أظهر في الدولة وأقوى؛ لأن الدولة تتمتع بقدرات وسلطات هائلة لا يتمتع بها الفرد، وهو ما نشاهده في العلاقات الدولية من تجاوزات وعداوات واستخدام للقوة لفرض الخيارات ونهب الموارد والثروات. ولهذا جاءت الشريعة جامعة في أحكامها بين تشخيص الإنسان ونوازعه المختلفة، باعتباره الفاعل الأهم في الاستخلاف والعمران، ثم الارتقاء به ومعالجة اختلالاته ومنع عدوانه وفساده في مثالية واقعية تنشد الكمال بحسب الإمكان.
ونحاول في هذا المقال تناول بعض المعالم الأساسية حول العلاقات الدولية -الكونية- في الإسلام ورؤيتها العقدية ومنظورها الفلسفي، وكيف يمكن لحركة الإسلام أن تكون فاعلة ومنفعلة بالمدافعات الدولية من خلال منظومتها الخاصة؛ دون حالة الذوبان في منظومة الآخر ومؤسساته، فتتحول الأمة الرسالية صاحبة الكتاب الخاتم إلى مجرد أدوات مستخدمة في مشاريع وسياسات القوى العالمية صاحبة النفوذ الأكبر في النظام الدولي.. المختل نشأةً وتأسيساً وسلوكاً وممارسةً.
أولاً: الحكمة من ظاهرة التنوع البشري
اقتضت الحكمة الربانية إلى وجود التنوع والتعدد البشري؛ كما تشير لذلك كثير من الآيات القرآنية، وأنه مقتضى المشيئة الإلهية، ويتخذ هذا التنوع أشكالاً عدة:
– التنوع الجنسي: كما في قوله تعالى: ﴿وَلَیۡسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلۡأُنثَىٰۖ﴾ [آل عمران: 33].
– التنوع العرقي والقومي: كما يتبدّى في قوله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَـٰكُم مِّن ذَكَرࣲ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَـٰكُمۡ شُعُوبࣰا وَقَبَاۤىِٕلَ لِتَعَارَفُوۤا۟ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِیمٌ خَبِیرࣱ﴾ [الحجرات: 13].
– التنوع اللغوي والإثني: كما في قوله جل شأنه: ﴿وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَ ٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّلۡعَـٰلِمِینَ﴾ [الروم: 22].
– التنوع الديني: ويبدو في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَادُوا۟ وَٱلصَّـٰبِـِٔینَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ وَٱلۡمَجُوسَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ یَفۡصِلُ بَیۡنَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ﴾ [الحج: 17]، وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰۖ وَلَا یَزَالُونَ مُخۡتَلِفِینَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَۚ وَلِذَ ٰلِكَ خَلَقَهُمۡۗ وَتَمَّتۡ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمۡلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلۡجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجۡمَعِینَ﴾ [هود: ١١٨-١١٩].
وقد اخْتَلَفَ العُلَماءُ في المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ ”ولذَلِكَ“ فَقِيلَ: ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾، وَلِلرَّحْمَةِ ”خَلَقَهم“، والتَّحْقِيقُ كما اختاره العلامة الشنقيطي في تفسيره أنَّ المُشارَ إلَيْهِ هو اخْتِلافُهم إلى شَقِيٌّ وسَعِيدٍ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ ﴿إلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ ولِذَلِكَ الِاخْتِلافِ خَلَقَهم فَخَلَقَ ﴿فَرِيقًا لِلْجَنَّةِ وفَرِيقًا لِلسَّعِيرِ﴾.
ولما كان الخلق الإنساني متنوعاً قدراً وكوناً، وأن هذا التنوع قد يؤدي إلى الاختلاف والتجاوز والعدوان والتهارج والفساد، وهذا يتنافى مع الغاية المرادة للشارع من هذا التنوع، وهي تحقيق التعارف الذي ورد في قوله تعالى “لِتعارفوا”، وأن التعارف مبناه على التواصل والتفاهم وفتح قنوات الحوار وصولاً للمعروف واجتناباً للمنكر وبحثاً في المشتركات النافعة ثم التعاون عليها، تحقيقاً لمصالح العباد ودفعاً للمفاسد عنهم، ومصداق ذلك قوله تعالى: “وتعاونوا”، هذه هي الغاية التي رسمها الشارع للتعامل مع ظاهرة التنوع البشري بأنواعه المختلفة، تحقيقاً للاستخلاف والتمكين المؤدي لعبادة الله تعالى والعمران في الأرض والحياة الطيبة في الدنيا والسعادة الأبدية في الآخرة.
ولما كان الناس مختلفين في تصوراتهم ومفاهيمهم ومنطلقاتهم ونظرتهم للحياة ولموقعهم فيها ومصيرهم المستقبلي، فإن الشارع جل جلاله لم يترك أمر الناس هملاً بلا هداية وجهلاً في عماية، بل تتابع الرسل والرسالات منذ اللحظة الأولى لوجود البشر على وجه الأرض، لضبط بوصلة تفكيرهم وتحديد مسار عملهم سواء على الصعد الفردية أو الجماعية، وقد تطور الخطاب الديني مع تطور البشرية وأنماط حياتها بدءاً من الأسرة ووصولاً إلى التعارف الإنساني والانفتاح الكوني على النحو التالي:
- انتقل الخطاب الديني بالإنسان من المشاهد والمشخص والتواصل المستمر مع السماء في تجدد دائم في الرسالات السابقة، إلى التجريد والغيب في الرسالة الخاتمة ليكون مدخلها قوله تعالى: ﴿ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ﴾ [البقرة: 3]، وهي السمة البارزة في الرسالة الخاتمة، وبالتالي توقف الوحي والتتابع السماوي المباشر ليكون الكتاب المنزل هو العلاقة المستمرة مع السماء (حاكمية الكتاب)، ولئن كانت الرسالات السابقة يقوم سلطانها الدنيوي باختيار الله تعالى وهم الأنبياء الساسة “كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي”2، فإن الرسالة الخاتمة يقوم أمرها وسلطانها الدنيوي على اختيار الأمة ورضاها وشوراها في إطار حاكمية الكتاب.
- وانتقل الخطاب الديني عبر مسيرته التاريخية من المحلية إلى العالمية؛ فاتسعت رقعة الدعوة وميدانها (عالمية الخطاب) قال تعالى: ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء: 107]، كما انتقل الخطاب من القومية إلى الإنسانية فبدلاً من الخطاب بمفردة “يا قوم” تحول الخطاب إلى “يا أيها الناس”، وهو أول نداء في القرآن الكريم في سورة البقرة إيذاناً بالعالمية والإنسانية، قال رسول الله ﷺ: “وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس كافة“3.
- وانتقل الخطاب الرسالي من شرعة الأغلال والآصار التي سادت الخطاب الموجه لبني إسرائيل، إلى شرعة التيسير والرحمة التي هي خاصية الأمة الخاتمة ورسولها، قال تعالى: ﴿وَیَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَـٰلَ ٱلَّتِی كَانَتۡ عَلَیۡهِمۡۚ﴾ [الأعراف: 157] ﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ﴾ [البقرة: 185]، ﴿یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ ضَعِیفࣰا﴾ [النساء: 28].
- وانتقل الخطاب من المعجزات والبينات والبصائر المادية المرتبطة بالرسول وحياته إلى معجزة القرآن الخالدة، والقائمة على حقائق العلم وقوة الحجة ومنطق المناظرة والحوار، ليخاطب عقل الإنسان كما يخاطب وجدانه، قال تعالى: ﴿سَنُرِیهِمۡ ءَایَـٰتِنَا فِی ٱلۡـَٔافَاقِ وَفِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَهُمۡ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّۗ أَوَلَمۡ یَكۡفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ﴾ [فصلت: 53].
وخلاصة القول فإن الخطاب الديني الهادي للبشرية والموجّه لمسيرتها الطويلة بلغ تمامه وكماله في الرسالة العالمية التي بُعث بها محمد ﷺ، فصار الإنسان حيثما كان هو موضوع الرسالة، والأرض حيثما كانت هي مجال تمددها وانتشارها، بخصائصها المتعددة القائمة على أساس تقرير الحق وتنزيل الأمر وتبصير الخلق بالعاجل والآجل، أي (المسيرة والمصير)، في تواصل وتعارف إنساني بقصد الهداية والصلاح، تصوراً وممارسةً في كافة سياقات الحياة الإنسانية، وبناءً على ذلك ندلف إلى الحديث عن العلاقات الإنسانية والدولية في الإسلام.
[يُستكمل المقال في العدد القادم من مجلة أنصار النبي ﷺ إن شاء الله تعالى].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفروع، لابن مفلح، ج3 ص22.
2 متفق عليه. 3 البخاري ومسلم.