كيف تميّز الحُكم الإسلامي عن غيره؟
أغسطس 15, 2024الإسلام والعلاقات الدولية (1/2)
أغسطس 24, 2024بقلم المفكر الإسلامي د. محمد عمارة (رحمه الله)
هناك قضية برزت من خلال الاحتكاك الحضاري بين الإسلام وأمته وبين الفكر الغربي وتجاربه في العصر الحديث، وهي مشكلة موقف الشورى الإسلامية من الديمقراطية الغربية التي تبنتها أحزاب ومدارس فكرية واجتماعية في العديد من البلاد الإسلامية، وهل بينهما –الشورى والديمقراطية- تطابق كامل؟ أم تناقض مطلق؟ أم أوجه للشبه وأوجه للافتراق؟
وبادئ ذي بدء فلابد من التأكيد على حق الأمم والشعوب والحضارات في التمايز والاختلاف في النماذج والخيارات السياسية والثقافية والحضارية؛ فهذا هو منطق (الليبرالية) في الديمقراطية الغربية، ومنطق (التعددية) التي هي في الإسلام سنة كونية، وقانون حاكم وسائد في كل عوالم المخلوقات؛ فلا حرج ولا ضير إن اختلفت الشورى عن الديمقراطية، أو تمايزت الديمقراطية عن الشورى، المهم هو وفاء كل نموذج بتحقيق المقاصد الإنسانية التي تحددها رؤية الإنسان للكون في كل حضارة من الحضارات وجدارة كل نموذج بتفجير طاقات الخلق والإبداع في هذا الإنسان.
وبعد الاتفاق على هذه (الحقيقة الأولية)، لابد من التنبيه -في الحديث عن علاقة الشورى الإسلامية بالديمقراطية الغربية- على ضرورة التمييز في هذه الديمقراطية بين (الفلسفة) وبين الآليات والخبرات والمؤسسات؛ فالديمقراطية: نظام سياسي اجتماعي، غربي النشأة، عرفته الحضارة الغربية في حقبتها اليونانية القديمة، وطورته نهضتها الحديثة والمعاصرة، وهو يقيم العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفق مبدأ المساواة بين المواطنين في حقوق المواطنة وواجباتها، وعلى مشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم الحياة العامة، وذلك استنادًا إلى المبدأ القائل بأن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر الشرعيّة؛ فالسلطة في النظام الديمقراطي هي للشعب، بواسطة الشعب، لتحقيق سيادة الشعب ومقاصده ومصالحه1.
هذا عن فلسفة الديمقراطية الغربية، أما (النظام النيابي)، الذي ينوب فيه نواب الأمة المنتخبون عن جمهور الأمة، للقيام بمهام سلطات التشريع والرقابة والمحاسبة لسلطات التنفيذ في (الدولة) فهومن آليات الديمقراطية، وتراث مؤسساتها. وبه توسلت تجاربها عندما تعذرت (الديمقراطية المباشرة) التي تمارس فيها الأمة كلها وبشكل مباشر هذه المهام والسلطات، توسلت الديمقراطية الحديثة بهذه (الآلية) إلى تحقيق مقاصدها وفلسفاتها.
وإذا كان البعض يضع الشورى الإسلامية في مقابلة الديمقراطية -سواء بالتسوية التامة بينهما أو بالتناقض الكامل بينهما- فإن هذا الموقف ليس بالصحيح إسلامياً، فليس هناك تطابق بينهما بإطلاق، ولا تناقض بينهما بإطلاق، وإنما هناك تمايز بين الشورى وبين الديمقراطية، يكشف مساحة الاتفاق ومساحة الاختلاف بينهما.
فمن حيث الآليات والسبل والنظم والمؤسسات والخبرات التي تحقق المقاصد والغايات من كل من الديمقراطية والشورى، فإنها تجارب وخبرات إنسانية ليس فيها (ثوابت مقدسة)، وهي قد عرفت التطور في التجارب الديمقراطية، ومن ثم فإن تطورها وارد في تجارب الشورى الإسلامية، وفق الزمان والمكان والمصالح والملابسات. والخبرات التي حققتها تجارب الديمقراطية في تطور الحضارة الغربية، والتي أفرزت النظام الدستوري، والتمثيل النيابي عبر الانتخابات، هي خبرات غنية وثروة إنسانية. لا نعدو الحقيقة إذا قلنا: إنها تطوير خلّاق لما عرفته حضارتنا الإسلامية، مبكرًا، من أشكال أولية وجنينية في (البيعة) و(المؤسسات).
أما الجزئية التي تفترق فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية، فهي خاصة (بمصدر السيادة في التشريع الابتدائي)؛ فالديمقراطية تجعل (السيادة) في التشريع ابتداءً للشعب والأمة، إما صراحة، وإما في صورة ما أسماه بعض مفكريها بـ(القانون الطبيعي) الذي يمثل -بنظرهم- أصول الفطرة الإنسانية، ومن ثم، فإن (السيادة)، وكذلك (السلطة) في الديمقراطية، هما للإنسان -الشعب والأمة-.
أما في الشورى الإسلامية، فإن (السيادة) في التشريع ابتداءً هي لله سبحانه وتعالى، تجسدت في (الشريعة)، التي هي (وضع إلهي)، وليست إفرازاً بشرياً ولا طبيعياً، وما للإنسان في التشريع هي سلطة البناء على هذه الشريعة الإلهية، والتفصيل لمجملها، والاستنباط من نصوصها وقواعدها وأصولها ومبادئها، والتفريع لكلياتها والتقنين لنظرياتها، وكذلك، لهذا الإنسان سلطة الاجتهاد فيما لم ينزل به شرع سماوي، شريطة أن تظل السلطة البشرية محكومة بإطار معايير الحلال والحرام الشرعي، أي محكومة بإطار فلسفة الإسلام في التشريع.
ولذلك، كان الله سبحانه وتعالى في التصور الإسلامي، هو الشارع لا الإنسان، وكان الإنسان هو (الفقيه)، لا الله، فأصول الشريعة ومبدؤها وثوابتها وفلسفتها إلهية، يتمثل فيها حكم الله وحاكميته، أما البناء عليها، تفصيلاً وتنمية وتفريعاً وتطويراً واجتهاداً للمستجدات ولمناطق العفو التي هي المساحة الأوسع في المتغيرات الدنيوية، فهو فقه وتقنين، تتمثل فيها سلطات الإنسان، المحكومة بحاكمية الله، وفي هذا الجانب يتمثل الفارق الجوهري والاختلاف الأساسي بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية.
النظرة الإسلامية والنظرة العلمانية للكون
ولهذا التمايز والاختلاف -بين الشورى والديمقراطية- صلة وثيقة بنظرة كل من الحضارتين الإسلامية والغربية للكون، ولحدود نطاق عمل وتدبير الذات الإلهية، وحدود تدبير الإنسان، ولمكانته في الكون وللعلاقة بين الإنسان وبين الله.
- ففي النظرة اليونانية القديمة، وخاصة عند (أرسطو) [٣٨٤-۳۲۲ ق.م] وهي التي مثّلت تراث النهضة الغربية الحديثة، نجد أن الله قد خلق العالم، وحَرَّكه، ثم تركه يعمل وفق طبائعه وقوانينه والأسباب الذاتية المودعة فيه، ودونما تدخل أو رعاية أو تدبير إلهي لحركة هذا العالم، فالعالم هنا، وفي هذه الفلسفة، مستقل بذاته بعد الخلق عن تدبير الله وحاكمية شرائعه السماوية. وهذه النظرة لحدود التدبير الإلهي، وجدناها في النهضة العلمانية الغربية الحديثة تعتمد على المبدأ الإنجيلي الذي يجعل ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فيفصل بين إطار التدبير الإلهي -الذي وقف عند الخلق وعند خلاص الروح ومملكة السماء- وبين إطار التدبير الإنساني الذي أعطاه السيادة في تدبير العمران الإنساني والملكوت الدنياوي، دونما قيود من الحاكمية الإلهية على ما السيادة والسلطة البشرية.
فكما أن (العالم) -في هذه الفلسفة الغربية للديمقراطية مستقل بذاته عن تدبير خالقه، تدبير الأسباب والقوى الذاتية المودعة فيه، فكذلك الإنسان -في هذه الفلسفة- مستقل بذاته، يدبر الدولة والمجتمع بالعقل والتجربة، دونما حاكمية إلهية ولا رعاية شرعية سماوية، فهو (سيد الكون)، الحر والمختار بإطلاق، ومن هنا كانت له (السيادة) في التشريع، مع (السلطة) في تنفيذ، بتعميم وإطلاق، بل إن له هذا الاستقلال والحرية المطلقة في العلمانية الشاملة بمنظومة القيم والأخلاق.
هذا عن البُعد الفلسفي للرؤية الكونية، ونطاق عمل الذات الإلهية، ومكانة الإنسان في الكون، وحريته وسيادته، في الأساس الفلسفي للديمقراطية الغربية، والتي كانت لذلك علمانية في النشأة والتطبيق.
- أما في النظرة الإسلامية فإن الله سبحانه وتعالى، ليس مجرد خالق وفقط؛ وإنما هو خالق ومدبر، وكما أن خلقه دائماً أبداً، فإن تدبيره دائماً أبداً، وله (حاكمية) في التكوين وفي التشريع، ورعاية لكل عوام المخلوقات. ونحن نقرأ في القرآن الكريم عن نطاق عمل الذات الإلهية: ﴿ألا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾. [الشورى: ۲۸]، ﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا یَـٰمُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِیۤ أَعۡطَىٰ كُلَّ شَیۡءٍ خَلۡقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ [ طه: ٤٩-٥٠ ].
وإذا كان الله سبحانه وتعالى، قد استخلف الإنسان لعمران هذه الأرض ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ﴾ [البقرة: ۳۰] فإن هذا الاستخلاف قد جعل الإنسان -في التصور الإسلامي- بالمرتبة الوسط، فهو نائب، ووكيل وحر، وقادر، ومستطيع، ومبدع، لكن في حدود الشريعة الإلهية، التي هي بنود عقد وعهد الاستخلاف، نعم إنه ليس المجبَر المهيمن الفاني في الذات الإلهية، لكنه أيضاً ليس سيد الكون، وإنما هو خليفة لسيد الكون، وبعبارة الإمام محمد عبده [1849-1905م] فإن هذا الإنسان “عبدٌ لله وحده، وسيد لكل شيء بعده”!
إنه الإنسان، خلقه الله واستخلفه، ولا يخرج من مظلة التدبير الإلهي، بل يجب أن يظل دائماً وأبداً في إطار هذه الرعاية وهذا التدبير، حتى أن عبوديته لله هي قمة حريته، لأنها هي التي تحرره من العبودية لكل الطواغيت، ﴿قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ * لَا شَرِیكَ لَهُۥۖ وَبِذَ ٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠ أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ﴾ [الأنعام: ١٦٢- ١٦٣] ولذلك كانت شهادة أن لا إله إلا الله جامعة لحرية الإنسان وتحرره، ولعبوديته لله وحده، حتى لكأنهما وجهان لعملة واحدة!
مساحات الاتفاق وتميز الشريعة
تلك هي على وجه الحصر والتحديد، الجزئية الفلسفية التي تتمايز فيها الشورى الإسلامية عن الديمقراطية الغربية.. أما ما عدا ذلك، من تأسيس الحكم والسلطة على رضا الأمة ورأي الجمهور واتجاه الرأي العام، وجعل السلطة في اختيار الحكام، وفي مراقبتهم ومحاسبتهم، وفي عزلهم، هي للأمة، وكذلك اختيار الآليات والنظم النيابية لتكوين المؤسسات الممثلة لسلطات التقنين والتنفيذ والرقابة والقضاء، فإنها على وجه الإجمال مساحة اتفاق بين الديمقراطية الغربية وبين الشورى الإسلامية، وكذلك الحال مع مبدأ ونظام الفصل بين السلطات.. سلطات التشريع والتنفيذ والقضاء، وهو المبدأ الذي تعارفت عليه الديمقراطية الغربية فإنه مما تقبله وتحتاجه الشورى الإسلامية.
بل ربما ذهبت فيه تجربة الحضارة الإسلامية أبعد وأعمق وأفضل مما ذهبت التجارب الديمقراطية الغربية؛ ذلك أن تمييز سلطة الاجتهاد الفقهي في النظام الشورى الإسلامي عن السلطات الرقابية والتنفيذية والقضائية يجعل السلطات في النظام الإسلامي أربعًا بدلاً من ثلاث، كما يجعل سلطة التشريع فوق الدولة، بسبب إلهية الشريعة، الأمر الذي يحرر القانون من سلطان الاستبداد البشري والأهواء البشرية.
وفوق ذلك، يحقق هذا النظام الإسلامي الفصل الحقيقي بين السلطات، ذلك أن التجربة الديمقراطية الغربية، التي آلت فيها سلطة التشريع للبرلمان، قد غدت -من الناحية العملية- سلطة التشريع وسلطة التنفيذ مُتممتَين في الهيئة البرلمانية لحزب الأغلبية الحاكم، الأمر الذي جعل الفصل الحقيقي بين سلطتي التشريع والتنفيذ باهاً إلى حد كبير، أما استقلال سلطة خاصة بالاجتهاد والتقنين، مع التزامها بحاكمية الشريعة الإلهية، فهو الأقرب إلى تحقيق مبدأ الفصل الحقيقي بين السلطات، والأكثر تحقيقاً لسيادة القانون على باقي السلطات.
ولقد أدرك هذه الحقيقة -حقيقة هذا التمايز- بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية، في مصدر القانون بكل منهما، العلماء الغربيون الذين خبروا وتخصصوا في الشريعة الإسلامية وفي القانون الروماني، وقارَنوا بين الفقه الإسلامي وبين المدونات القانونية في الحضارة الغربية، أدركوا هذه الحقيقة، ولفتوا إليها الأنظار، وسلطوا عليها الأضواء.
- لقد كتب المستشرق (دافيد دي سانتيلانا) [١٨٤٥-١٩٣١م] عن فلسفة التشريع في القانون الوضعي الغربي: “إن معنى الفقه والقانون بالنسبة إلينا وإلى الأسلاف: مجموعة من القواعد السائدة التي أقرها الشعب إما رأسًا أو عن طريق ممثليه. وسلطانه مستمد من الإرادة والإدراك وأخلاق البشر وعاداتهم”.
فهو قانون (دنيوي) – أي علماني خالص الدنيوية، ثم استطرد (سانتيلانا) مقارناً هذه الفلسفة العلمانية للقانون في الديمقراطية الغربية، بالفلسفة الإسلامية في التشريع والفقه الإسلامي، فقال: “إلا أن التفسير الإسلامي للقانون هو خلاف ذلك، فالخضوع للقانون الإسلامي هو واجب اجتماعي وفرض ديني في الوقت نفسه، ومن ينتهك حرمته لا يأثم تجاه النظام الاجتماعي فقط، بل يقترف خطيئة دينية أيضًا. فالنظام القضائي والدين، والقانون والأخلاق، هما شكلان لا ثالث لهما لتلك الإرادة التي يستمد منها المجتمع الإسلامي وجوده وتعاليمه، فكل مسألة قانونية إنما هي مسألة ضمير، والصبغة الأخلاقية تسود القانون لتوحد بين القواعد القانونية والتعاليم الأخلاقية توحيداً تاماً، والأخلاق والآداب، في كل مسألة، ترسم حدود القانون؛ فالشريعة الإسلامية شريعة دينية تغاير أفكارنا أصلاً”2.
- وذات هذه الحقيقة -حقيقة اختلاف فلسفة الشورى وقانونها الإسلامي عن الديمقراطية وقانونها الوضعي العلماني- يؤكد عليها المستشرق السويسري (مارسيل بوازار)، فيقول عن اختلاف المصدر والمقاصد بينهما: “ومن المفيد أن نذكر فرقاً جوهرياً بين الشريعة الإسلامية والتشريع الأوربي الحديث، سواء في مصدريهما المتخالفين أو في أهدافهما النهائية، فمصدر القانون في الديمقراطية الغربية هو: إرادة الشعب، وهدفه: النظام والعدل داخل المجتمع. أما الإسلام، فالقانون صادر عن الله، وبناء عليه يصير الهدف الأساسي الذي ينشده المؤمن هو البحث عن التقرب إلى الله، باحترام الوحي والتقيد به. فالسلطة في الإسلام تفرض عدداً من المعايير الأخلاقية، بينما تسمح في الطابع الغربي أن يختار الناس المعايير حسب الاحتياجات والرغبات السائدة في عصرهم”3.
هكذا شهد العلماء الخبراء الغربيون بالتمايز في البعد الفلسفي بين الشورى الإسلامية وفقهها وبين الديمقراطية الغربية وقانونها.
بين كمال الشورى وقصور الديمقراطية
إن الشورى في حقيقتها هي اسم من (المشاورة)، والمشاورة هي استخراج الرأي فهي في حد ذاتها أدخل في (الآليات) آلیات استخراج الرأي، وهي بهذا الاعتبار لا يمكن أن تكون نقيضاً لآليات الديمقراطية، أما التمايز بينهما فإنه يأتي في الموضوع الذي نُعْمِلُ فيه هذه الآليات، وفي نطاق عمل هذه الآليات، فعلى حين لا تعرف الديمقراطية حدودًا إلهية لسطات عمل وإعمال آلياتها، تميز الشورى الإسلامية بين نطاقين من (الأمر)، أمر هو لله، أي: تدبيره الذي يختص به سبحانه، (وأمر)، أي: تدبير هو في مقدور الإنسان، وفيه تكون شوراه.
وفي القرآن الكريم عن (الأمر) الأول: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الشورى: ۲۸] وعن الأمر الثاني: ﴿وَشَاوِرْهُمْ في الأمر﴾ [آل عمران: ١٥٩]، وبحكم خلافة الإنسان لله سبحانه وتعالى، فإن (أمره، وتدبيره) أي حاكميته الإنسانية، محكومة بإطار أمر الله (أمر الله، وتدبيره) التي هي حاكمية الله وحدود شريعته الإلهية.. ففي المرجعية وفي الفلسفة وفي الحدود وفي المقاصد يرِد التمايز بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية الغربية، وليس في الآليات والمؤسسات، والنظم، والخبرات.
إن الديمقراطية -كفكر وضعي وفلسفة دنيوية- لا تمد بصرها إلى ما هو أبعد من صلاح دنيا الإنسان، بالمقاييس الدنيوية لهذا الصلاح، على حين نجد الشورى، كفريضة إلهية، تربط بين صلاح الدنيا وسعادة الآخرة، فتعطي الصلاح الدنيوي بعداً دينياً، يتمثل في المعيار الديني لهذا الصلاح، مع ضرورة التنبيه والتأكيد على أن الاستبداد مفسد للدنيا والآخرة جميعاً، ذلك أن “نظام الدين -كما يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي [٤٥٠-٥٠٥هـ/ 1058-1111م]- لا يحصل إلا بنظام الدنيا، فنظام الدين، بالمعرفة والعبادة، لا يتوصل إليهما إلا: بصحة البدن، وبقاء الحياة، وسلامة قدر الحاجات، من: الكسوة، والمسكن، والأقوات، والأمن، فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية، فنظام الدنيا شرط لنظام الدين”4.
فحتى لو وقفت فوائد الديمقراطية عند صلاح الدنيا، فيجب عدم الاستهانة بذلك، وخاصة إذا كان البديل هو الاستبداد، المفسد للفرد والمجموع، وللدين والدنيا جميعاً!
وأخيراً..
فسواء أكان الأمر أمر الشورى الإسلامية، أو أمر الديمقراطية الغربية، فإن هناك فارقاً بين (المثال) وبين (الواقع) عند الممارسة والتطبيق، وإنها لحكمة إلهية أن تظل التطبيقات لكل المبادئ والفلسفات دون (المثال) الذي يصور الفكر لهذه المبادئ والفلسفات، وذلك حتى يظل السعي الإنساني دائبًا ودائمًا على طريق الاقتراب (بالواقع) من (المثال)؛ فينفسح الأمل دائماً وأبداً أمام التسابق الإنساني على طريق التقدم والارتقاء، وإلا فإن حقق الإنسان كامل المثال لانتهى (جدول أعمال) الحياة الإنسانية، وحلّ القنوط محل التطلع لتحقيق المزيد والمزيد من الآمال.
لقد كانت تطبيقات الشورى الإسلامية في تاريخ الأمة والحضارة الإسلامية، أدنى بكثير جداً من (مثال) هذه الشورى في الفكر الإسلامي، وكذلك حال التطبيقات الغربية للديمقراطية، لم تمنع هذه الحضارةَ الديمقراطيةُ من إنتاج العنصرية، والحروب الدينية، والقومية، والاستعمارية والنظم الفاشية والحروب الكونية، التي جعلت هذه المجتمعات الديمقراطية تتفوق على وحشية الإنسان البدائي في الإبادة والتدمير، ولم تمنعها من أثرة الرأسمالية المتوحشة التي جعلت وتجعل ۲۰% من البشر هم سكان الشمال الديمقراطي يستأثرون بـ ٨٦% من خيرات العالم، تاركين ١٤% من ثروات العالم لـ ٨٠% من السكان.
ناهيكم عن أن هذه التطبيقات الغربية للديمقراطية لم تمنع من أن تكون التجارة الأولى للدول الديمقراطية هي تجارة السلاح، تليها تجارة المخدرات، تليها تجارة الدعارة!! ولم يمنعها من أن يكون ما يُنفق على القطط والكلاب والخمور والترف المستفز أضعاف أضعاف ما يُنفق على الصحة والغذاء والتعليم.
فلا الشورى تُمثل الوصفة السحرية للتقدم والإصلاح، ولا الديمقراطية هي الحل السحري لمشكلات المجتمعات المعاصرة، وإنما الحل هو الكدح الإنساني كي تكون التطبيقات -للشورى، أو الديمقراطية- أقرب ما تكون إلى تحقيق إنسانية الإنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. محمد عمارة، في النظام السياسي الإسلامي، ط1، مكتبة الإمام البخاري/القاهرة، 2009م، ص73-86.
1 انظر: موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت سنة ١٩٨١م.
2 سانتيلانا، القانون والمجتمع، ضمن كتاب: تراث الإسلام، ص٤١١، ٤٣٨، ٤٣١، ترجمة: جرجيس فتح الله، طبعة بيروت، سنة ١٩٧٢م.
3 لواء أحمد عبد الوهاب، الإسلام في الفكر الغربي، نصوص ص۸۱ – ۸۳، طبعة القاهرة، سنة ١٩٩٣م.
4 الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص135، طبعة: مكتبة ومطبعة صبيح، القاهرة- دون تاريخ.