العلماء العاملون والحكام العادلون
أغسطس 25, 2024خصائص الأسرة في الإسلام (1/2)
أغسطس 25, 2024بقلم الدكتور/ علي محمد الصلابي (الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)
يُعد موضوع المواطنة جزءاً من مشكلة الـهُوية والمفاهيم المختلف فيها، والتي ارتبطت منذ بدء الاحتكاك الفكري والثقافي والسياسي والعسكري للأمة الإسلامية مع الحضارة الغربية في القرن الماضي، وإذا كانت المسألة قد حُسمت على صعيد الواقع منذ أن تمزقت الدولة العثمانية وتحولت أشلاؤها العربية وغيرها إلى دول وحكومات قومية وإقليمية، فإن المسألة لم تنتهِ على المستوى الفكري والثقافي، بل ظلّت سؤالاً كبيراً يُطرح بشكل أو آخر.
جاءت شريعة الإسلام شاملة لجميع أبعاد الحياة البشرية بكل دقائقها وتفصيلاتها، ابتداءً من سلوك الإنسان كفرد مع غيرهم من الأفراد وضمن مجتمعه، حتى تنظيم علاقات الدول، بما في ذلك الفَهم الإسلامي للمضمون السياسي الذي يعني إصلاح شؤون الناس الدينية والدنيوية، وإبعادهم عن الفساد، وتوجيههم نحو الحق والعدالة وجميع وجوه الخير.
إن خطاب الإسلام خطاب عام لبني الإنسان، وفي تأكيد واضح للحقوق والقيم التي تنظم الحياة البشرية، ومنها المساواة التي تُعد منطلقاً أساسياً لممارسة الحقوق واستقامتها والالتزام بكل الواجبات.
أولاً: المواطنة في الخطاب الإسلامي
المواطنة هي تمتُّع الشخص بالحقوق المقررة والتزامه بالواجبات المفروضة، وممارستها في بقعة جغرافية معينة.
لقد عبر النبي ﷺ عن حب الوطن والارتباط به في قوله لما هم بالخروج من مكة: “والله إنك أحب البلاد إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت“1.
وفي ذلك دلالة نبوية على جواز الارتباط الشعوري بالوطن وأهميته بالنسبة للإنسان، بل إن الإسلام عدّ إخراج الإنسان من دياره معادلاً للقتل، قال تعالى: ﴿وَلَوۡ أَنَّا كَتَبۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَنِ ٱقۡتُلُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ أَوِ ٱخۡرُجُوا۟ مِن دِیَـٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِیلࣱ مِّنۡهُمۡۖ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ فَعَلُوا۟ مَا یُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۡ وَأَشَدَّ تَثۡبِیتࣰا﴾ [النساء: ٦٦].
المواطنة في القرآن الكريم
من خلال دراسة القرآن الكريم نجد أن مصدر الحقوق والواجبات في الإسلام هو الله وحده، وليس بشراً أياً كان هذا البشر، نبياً أو غير نبي، وهذا ما يظهر واضحاً من خلال قول الله تعالى: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾ [الحديد: ٢٥].
وبذلك يقوم الإسلام في مجال الحقوق والواجبات على أساس وحدة المشرّع وأبدية التشريع، إذ أن من المسلّم به أن حق التشريع لله عز وجل وحده، في الوقت الذي تتعدد وتتباين منابع التشريع عند أصحاب الأديان والعقائد الأخرى، ومنها التشريع الغربي المعاصر، وليس من شك أن وحدة المصدر الإلهي التشريعي هو السر وراء خلود الأحكام الشرعية وصلاحيتها المطلقة للتطبيق قي كل زمان ومكان، حيث يُعد التبديل والتغيير آفة التشريعات والقوانين الوضعية المتغيرة دائماً، والتي تتبدل فيها أوضاع ومراكز وحقوق المخاطبين بها دونما استقرار أو ثبات.
المواطنة في السنة النبوية
تشكل السنة مصدراً ثانياً للمواطنة في الإسلام، وهي تُعد مصدراً مفسراً وموضحاً لما جاء في القرآن الكريم من أحكام، وقد بيّنت السنة النبوية الشريفة مجموعة من الحقوق والواجبات للإنسان عامةً، والتي تتعلق تعلقاً مباشراً أو غير مباشر بحقوق المواطنة، ومنها:
أ- الحق في الحياة
إن النبي ﷺ أكّد في تطبيقاته وأحاديثه على وجوب الحفاظ على حياة الإنسان، كونها أمانة وهبها الله له وأنعم عليه بها، وعليه فليس للإنسان أياً كان حق التنازل عنها، وليس حراً في هدر حياته أو إلغاءها، ولهذا حذّر النبي ﷺ تحذيراً بالغ الشدة وأنذر ببيان بالغ القسوة الذين تبلغ بهم هموم الحياة مبلغ اليأس منها، فقال ﷺ: “لا يتمنينّ أحدكم الموت من ضر أصابه“. وفي رواية أخرى: “لا يتمنينّ أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد خيراً وإما مسيئاً فلعله يستعتب“2.
ب- التقدير القيمي والأخلاقي للإنسان
من أجل حماية قدسية حياة الإنسان، دعا الإسلام وضمن العديد من القيم والأخلاق التي تصون حياته وتحفظ حقوقه، وتهدف هذه القيم للحفاظ على التوازن بين الحقوق والواجبات، لأن لكل فرد حقوقاً من زاوية، ويترتب عليه واجبات من زاوية أخرى تجاه أخيه الإنسان، ولذا وجه النبي ﷺ المسلم إلى منع لسانه ويده من الاعتداء على الآخرين، فقال: “المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده“3.
ثانياً: المواطنة في وثيقة المدينة
تمثّل صحيفة المدينة أو دستور المدينة، والذي جاء مقنناً على شكل مواد قابلة للتطبيق، ولها قابلية المرجعية القانونية، كونها مثّلت عقداً سياسياً واجتماعياً، صيغ بروح المبادئ الكلية النصيّة في القرآن الكريم، وتوافقت عليها معظم أطراف القوى الفاعلة داخل المجتمع المدني المتعدد قبلياً ودينياً، ولقد حددت وثيقة المدينة المعالم الرئيسية لكيفية التعامل والتعاقد والشراكة والتكافل والتعارف والتوافق مع الآخر”.
وتكمن أهمية الوثيقة في محاولة تحويل الناس القاطنين في المدينة تحويلاً قانونياً من رعايا إلى مواطنين، وتنقلهم من إطار القبيلة والقبليّة إلى رحاب الدولة والأمة، ولم يلغِ الرسول ﷺ دور القبيلة؛ بل عدل دورها وسحب بساط التحكم من يديها، فبعد أن كانت القبيلة هي الأمة والدولة، غدتْ لبنة في كيان الدولة الجديدة والأمة الوليدة.
وبعد أن كان الفرد مغيباً تماماً في القبيلة، وكانت قبيلته تتحمل مسؤولية خطئه، جاءت الوثيقة لتبرز ذاتية الفرد الذي يتحمل مسؤولية أفعاله خيراً وشراً، ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةࣱ وِزۡرَ أُخۡرَىٰۚ﴾ [الأنعام: ١٦٤]، فأكدت الوثيقة شخصية العقوبة، أي أن المواطن يتحمل الآثار القانونية للجريمة التي يرتكبها، ولا شأن للأبرياء الآخرين من عشيرته أو سلالته، وقد ورد في الوثيقة ما نصه: “إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوقع إلا نفسه، ولا ثم امرؤ بحليفه”.
أكّدت الصحيفة على أن المجتمع اليهودي جزء من المجتمع السياسي، أي جزء من الجماعة السياسية، تلتزم بحكم رئيس الدولة، لا بوصفه نبياً، بل لمشروعيته السياسية المستمدة من الاتفاق نفسه، إن قبول الوثيقة من قِبل اليهود لم يفضِ إلى اعتقادهم بنبوة محمد ﷺ، بل بقبول مشروعيته السياسية كقائد وكحاكم لتلك الدولة.
لقد كان أساس المواطنة عند الرسول ﷺ هو الانتماء إلى الوطن “المدينة” فمن أراد الانتماء وأن يكون مواطناً في مجتمع المدينة فعليه أن يهاجر إليها، وقد وُجدت رابطتان أساسيتان في المدينة، هما رابطة الدين (الإيمان) ورابطة الوطن (الولاء لنظام الدولة).
ثالثاً: الأسس العامة للمواطنة في الإسلام
1- العدل والمساواة
العدل سور يحمي المجتمع من التفتت والتشرذم، وينأى به عن العداوة والبغضاء، ويشدّ من تعاضد الناس وتعاون بعضهم مع بعض، ويستوي في محيطه القوي والضعيف، والغني والفقير، والقريب والبعيد، والمسلم وغير المسلم، قال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَاۤءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰۤ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَ ٰلِدَیۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِینَۚ﴾ [النساء: ١٣٥].
وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ﴾ [النحل: ٩٠]. وفي الالتزام بهذا الأمر والعمل به وتحقيقه على أرض الواقع البشري، عبادةٌ لله تعالى وطاعة لأوامره جل شأنه، وفي مخالفته معصية كبيرة يعاقَب عليها في الدنيا والآخرة، وإقامة العدل بين الناس حق إنساني يشترك فيه الناس جميعاً؛ لأن أصل البشر واحد.
وقد جاء في خطبة الوداع: «أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وإن الله عليم خبير، وليس لعربي على أعجمي فضل إلا بالتقوى».
ومقتضى ذلك: أن يكون جميع المواطنين طائفة واحدة بلا تمييز لأحدهم على الآخر في تطبيق القانون، وفي النظام الإسلامي القانون هو الكتاب والسنة، وما بني عليهما من أحكام، والكتاب والسنة ليس فيهما محاباة لطبقة على طبقة، ولا جنس على جنس، ولا لون على لون، فالأجير والأمير، والأسود والأبيض، والرئيس والمرؤوس، والغني والفقير، كلهم سواسية، فقد هدم الإسلام كل تلك الصفات، ولم يجعلها سبباً لامتياز وتفوق ما، وأقام التفاضل بين الناس على التقوى ونافع الأعمال، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَنْقَنَكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣].
2- الحرية
انطلاقاً من مبدأ حرية العقيدة الذي قرره الإسلام، فعلى الدولة الحديثة المسلمة والمسلمين جميعاً واجب التسامح الديني إزاء سائر أهل الملل والنحل، والتسامح الديني ليس معناه بالطبع اتخاذ المواقف المتأرجحة من الأديان أو القول بأن الكل سواء، فهو إما جهل أو نفاق، فللتسامح الديني مقومات من أهمها:
رسوخ الإيمان، وقوة الاقتناع بأن الإسلام وحده هو الدين الحق، قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، وبهذا المنطق الإيماني يحب المسلم الخير لجميع الناس، ويتقدم المسلم بعرض دينه أمام الجميع، ويدعوهم إليه دون فرضه على أحد، بل ولابد من ترك الناس أحراراً في أن ينظروا في أمرهم، ويختاروا أي دين أو معتقد يميلون إليه.
ويجب على المسلم رعاية شعور غير المسلمين وخاطرهم بعدم إيذائهم بالقول أو الفعل، فمن المنهي عنه سب معتقداتهم، أو الاستهزاء بما يدينون به سداً للذريعة، كذلك من المحظور التضييق عليهم عند ممارسة دينهم، بل ينبغي تمكينهم من ممارسة شعائر دينهم، وإعطائهم الحرية الكافية في ذلك، مع مراعاة النظام والشعور العام.
وكذلك فإن كفالة الله في القرآن الكريم للناس في حرية الاعتقاد عامة، وهي تقتضي تقرير حرية الرأي والتعبير؛ لأن حرية الاعتقاد لن تتم إلا بجعل العقل حراً طليقاً، للتفكير والتدبر في الكون والإنسان، وليصل الإنسان )برأيه( وقناعته إلى الإيمان أو الكفر أو حتى الحيادية. وتبرز حرية التعبير من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول الله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
الخاتمة
إن المبادئ العامة للمواطنة الحديثة (الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة) موجودة بنسقها العام في الإسلام وحقوق المواطنة الإسلامية، وتكتسب شرعيتها من أن الله تعالى هو مصدر إقرار تلك الحقوق، وهي أيضاً واجبة فالتنازل عنها إثم، فالجهاد ما شرع في الإسلام إلا لأجل حمايتها، وتتعمق هذه الشرعية بكون الإنسان خليفة الله في الأرض، وكون الإنسان غاية والدين وسيلة.
ــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي برقم (3925).
2 ابن حجر.
3 أخرجه البخاري، 10