أسس المواطنة العادلة في النظام القانوني الإسلامي
أغسطس 25, 2024قصيدة ملحمة الشام 3-4
أغسطس 25, 2024بقلم الشيخ/ الحسن بن علي الكتاني (عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومَن والاه، أما بعد:
فإن الإسلام قد أولى الأسرة أهمية كبرى، وشرع لها شرائع، وحدّ لها حدوداً، بل وأوحى أحكاماً كثيرة خاصة بها في سور قرآنية كريمة. والسبب في ذلك هو شدة أهمية الأسرة في المجتمع؛ لأنها نواته الصلبة، ومنها يتكون، فإن صلحت صلح المجتمع كله، وإن فسدت فسد المجتمع كله وضاع. وهي مهد الطفل ومرعاه الأول، منها تنطلق مسيرته لبناء شخصيته في جميع مراحل عمره، وفي رحابها يكتسب أخلاقه وعقيدته وتربيته.
قال الله جلّ ذكره: ﴿يٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلـٰٓئِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6]. وقال تقدست كلماته: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلوٰةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْئَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعٰقِبَةُ لِلتَّقْوٰى﴾ [طه: 132].
فمع وجود الإنسان وُجِدَت الأسرة؛ تلك الرابطة العميقة التي هي ليست قانونًا ولا نظامًا صارمًا تضعه الدول، الإنسان حينما خلقه الله لم يوجد معه دولة، أو يوجد معه حزب أو يوجد معه قبيلة، بل أوجد معه أسرة؛ لأن كل تلك الروابط، هي روابط مِن وَضْع البشر، أما رابطة الأسرة فرابطة فطرية معجونة بخلق الإنسان لا يمكن الانفكاك عنها. حتى الغرب اليوم الذي ينادي بالحريات ويفكك أكثر الروابط، لم يستطع أن ينفك عن رابطة الأسرة، وإذا قلنا: إن الإنسان مدنيّ بالطبع، فهذا يعني أنه جُبِلَ على الأسرة.
فلو ذهبت إلى الصين في مشارق الأرض تجد الأسرة، ولو ذهبت إلى أدغال إفريقيا وغابات الهند وضفاف الأمازون تجد الأسرة، على أنه من المعلوم أن الأسر تختلف في مكونتها وأسسها وهويتها من حضارة إلى حضارة ومن عِرْق إلى عرق، لكنَّ الإيمان بالأسرة أمر فطري؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: 13]؛ فجعل الله مادة خلق الإنسان من الذكر والأنثى اللذين هما قوام الأسرة.
ولذلك فقد اجتهد أعداء الإسلام على هدم الأسرة، وإفسادها بإفساد المرأة، التي تكون الرقم الصعب فيها، فهي كما قال الشاعر أحمد شوقي، رحمه الله:
الأم مدرسة إذا أعددتـــــها أعددت شعباً طيب الأعراق
للأسف يدفع المجتمع اليوم إلى تفكيك هذه الروابط عبر وسائل الإعلام المختلفة، تحت شعارات وهمية وشعارات برّاقة، كالحرية وإسقاط الولاية والمناداة بالمساوة، بل حتى -والعياذ بالله- تزيين المثلية والشذوذ.
والإسلام دين سماوي، نزل من عند الله تعالى، الذي خلق الناس وهو الأعلم بطبيعتهم، وبما يصلح لهم؛ كما قال الله تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، فإنه ينظر إلى الرجل والمرأة نظرة عميقة ومستقرة، لا تجاري الرغبات التلقائية لدى دعاة العدالة، بإراحة ضمائرهم المثقلة بإرث تاريخي من الشعور بالذنب تجاه المرأة، التي كثيراً ما ظلمت في غالب العصور والأقطار، عن طريق دعوتها إلى المساواة غير المدروسة بين الجنسين.
ولذلك فقد تميز النظام الإسلامي الأسري بعدة مزايا لا تختلف في الجوهر وإن اختلفت بحسب الأماكن والأوقات في بعض المظاهر.
ومعنى هذا أن الأسر رغم ما نجد بينها من تلاق في بعض المظاهر الطبيعية أو الاجتماعية؛ فإنها في إطارها العام لها وحدة تختلف عن غيرها اختلافاً بيناً، نلمسه في كل أجزاء الأسرة عندما نربط الجزء بالكل والكل بالجزء.
وبالتخصيص تتضح المسألة أكثر إذا تأملنا الأسر غير المسلمة التي تنطبع بطوابع مختلفة من بيئة إلى أخرى ومن شعب إلى آخر، ومن أمة إلى أمة.. فالأسر الجاهلية يأخذ بينها الاختلاف مأخذه، حتى لا تبدو بينها روابط تربطها، أو قاسم مشترك تشترك فيه. بل الأسرة الواحدة في المجتمع الواحد، قد تتطور تطوراً يخرجها على ميزتها الأولى ويلبسها لباساً جديداً ويكسيها بكساء جديد.
وهذا يدلّ دلالة واضحة ميدانياً وتاريخياً على اهتزاز أو اختلال التوازن الأسري الذي يحفظ للأسرة شخصيتها ويعطيها ميزتها وطابعها الاجتماعي التاريخي الحضاري.. فبقدر الاستمرار الحضاري التاريخي لشخصية الأسرة تظهر الدلالة القاطعة على توازنها وبالتالي واقعيتها وصلاحيتها.
هذه الظاهرة نجدها في الأسرة الإسلامية التي تنطبع بطابع واحد: عام، شامل، ثابت، دائم، في كل بيئة، وكل شعب. ولذلك ينبغي علينا معرفة ميزات الأسرة المسلمة، وذلك بتلخيصها في النقاط التالية:
عموم الأسرة الإسلامية
ونقصد بذلك أن الأسرة الإسلامية رغم وجودها في بيئات وظروف متباينة، وشعوب مختلفة، فإن مظاهرها ومميزاتها عامة. مميزاتها واحدة ومظاهرها واحدة، وطابعها واحد؛ فقد أكد الإسلام على بداية التكوين الأسري ووحدة البناء الاجتماعي في قوله جل وعلا: ﴿يٰٓأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنٰكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقٰكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].
وأكّد القرآن الكريم على أهمية الأسرة من خلال عرضه للعلاقات الأسرية: حيث نبّه إلى العلاقة الأسرية الوالدية من خلال التوصية بالإحسان إلى الوالدين: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسٰنَ بِوٰلِدَيْهِ إِحْسٰنًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصٰلُهُ ثَلـٰثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وٰلِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صٰلِحًا تَرْضٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ﴾ [الأحقاف: 15].
كما نبّه إلى العلاقة الأسرية الأخوية من خلال قصة كليم الله موسى مع أخيه هارون عليهما السلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي* هٰرُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا﴾ [طه: 29-35].
كما نبَّه إلى أهمية الأسرة من خلال العلاقة الأسرية الزوجية: حيث وصف الزواج بالميثاق الغليظ في قوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضٰى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيْثٰقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21]، ليبين قداسة عقد الزواج الذي يتمخض عنه تأسيس أسرة. كما جعل أهم مقصد للزواج تحقيق السكن النفسي الوجداني والمودة والرحمة بين الزوجين، مما ينتج عنه أسرة مستقيمة يسودها الاستقرار والطمأنينة والسكينة، ومن ثم تلقي بظلالها على المجتمع كله: ﴿وَمِنْ آَيٰتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوٰجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيٰتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: 21].
كما نبّه القرآن الكريم إلى أهمية الأسرة من خلال العلاقة الولدية (البنوة) في قوله جلّ شأنه: ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمٰنُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الْإِنْسٰنَ بِوٰلِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصٰلُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوٰلِدَيْكَ إِلَيَّ الْـمَصِيرُ* وَإِنْ جٰهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * يٰٓبُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمٰوٰتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يٰٓبُنَيَّ أَقِمِ الصَّلوٰةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوٰتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾[سورة لقمان:13-19].
وفي قوله عز من قائل: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يٰٓبُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْـمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰٓأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصّٰبِرِينَ﴾ [سورة الصافات:102].
كما نبّه على العلاقة الأسرية الممتدة التي تشمل الآباء والإخوة والأعمام والعمات والأخوال والخالات والأصدقاء، في قوله جلّ ذكره: ﴿لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْـمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰٓ أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آَبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خٰلٰتِكُـمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبٰرَكَةً طَيِّبَـةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآَيٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [النور: 61].
شمولية الأسرة الإسلامية
ونقصد بها أن شمولية الأبعاد والمميزات والمظاهر في الأسرة ببقعة معينة، هي نفس الشمولية أن الأولى تدل على الانتشار في المكان رغم اختلاف البيئة والأقوام، والثانية تدل على الانتشار من حيث نطاق الأسرة فحسب.
وتبدأ الأسرة بذلك الرباط الوثيق والميثاق الغليظ بين الرجل والمرأة عن طريق الزواج الشرعي، و«الأسرة في الإسلام لا تقتصر على الزوجين والأولاد فقط، وإنما تمتد إلى شبكة واسعة من ذوي القربى من الأجداد والجدات والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، وغيرهم ممن تجمعهم رابطة النسب والمصاهرة أو الرضاع أينما كان مكانهم، وتتسع حتى تشمل المجتمع كله”1.
وتتخذ الأسرة أشكالًا متنوعة يمكن إجمالها في الآتي:
- الأسرة النواة: وتضم الزوج والزوجة والأبناء، وتضم جيلين، وتنتهي باستقلال الأبناء ووفاة الأبوين.
- والأسرة الممتدة: هي الأسرة التي تقوم على عدة وحدات أسرية تجمعها الإقامة المشتركة والقرابة الدموية، وتضم الأجداد والأبناء والأحفاد وزوجاتهم، ومن لهم علاقة بهم من الأعمام وأبنائهم والأصهار وغيرهم.. وهي تعتبر وحدة اجتماعية مستمرة لما لا نهاية حيث تتكون من ثلاثة أجيال وأكثر.
- والأسرة المشتركة: هي الأسرة التي تقوم على عدة وحدات أسرية ترتبط من خلال خط الأب أو الأم أو الأخ والأخت، وتجمعهم الإقامة المشتركة والالتزامات الاجتماعية والاقتصادية.
- أسرة المجتمع المسلم: وتشمل كل الأسر المسلمة المكونة للمجتمع المسلم، ويجمعها رابط واحد هو دين الإسلام، تتعاون فيما بينها على البر والتقوى والخير والفضيلة والقيم الخلقية، والتكامل الاجتماعي…
- أسرة الإنسانية: وتشمل كل المجتمعات بمختلف معتقداتها وانتماءاتها وتوجهاتها، ويجمعها: خالق واحد، وأصل واحد أبوهم آدم والأم حواء… تتعاون فيما بينها لتحقيق الأمن والأمان والطمأنينة والسلام.
دوام الأسرة الإسلامية
ونقصد بها استمرارها التاريخي، اجتماعياً وحضارياً.. فالأسرة الإسلامية تحمل في عمرها أربعة عشر قرناً، وذلك ليس متجلياً في مرور الزمن المجرد فحسب، بل وفي الاستمرار الاجتماعي والحضاري للإسلام. قال تعالى: ﴿وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُوا۟ فِی ٱلۡیَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُوا۟ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَـٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ فَوَ ٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُمۡۚ ذَ ٰلِكَ أَدۡنَىٰۤ أَلَّا تَعُولُوا۟﴾ [النساء: ٣].
فبهذه الآية الكريمة تحدد شكل الزواج الإسلامي، وتقررت للأسرة الإسلامية ميزة أولية دائمة لا تتغير ولا تتبدل على مر الزمان؛ فقد أصبحت شرعة نافذة. لكن القال والقيل كثر حول تعدد الزوجات في الإسلام بغية الفساد في الأرض، فقام مدافعون يبررون هذا التعدد ويحصرونه في ظروف ثانوية اجتماعية قد تتعرض لها الأمة. ثم يبرزون شكل الزواج الثنائي (أي واحدية الزوج والزوجة) ويجعلونه الشكل الإسلامي للزواج، وهم يفعلون ذلك تحت تأثير المستشرقين وما آلت إليه الأسرة في الغرب، بجانب أن أغلبية الأسر الإسلامية الحديثة قد اتخذت شكل الزواج الثنائي لسبب من الأسباب.. إلا أن هذا ليس كافياً ليعكس شكل الزواج الإسلامي المرن الذي يحد بواحدة فعلاً ويمتد إلى أربعة أو ما ملكت اليمين.
وهذا ما يبدو من ظاهر الآية الكريمة. أما أشكال الزواج في المجتمعات الجاهلية فقد تعددت كما يُثبت ذلك علم الاجتماع، ولم تنضبط جميعها في قانون، ولم تتوحد في شكل قار؛ فالجاهلية تاهت في ذلك عبر الزمان؛ فمرّة تجعل الزواج شيوعية جنسية حيث الرجال في مجتمع ما حق مشاع لنسائه دون قيود زواجية، ومرة تجعله زواجاً جمعياً يتيح لعدد من الرجال أن يتزوجوا عدداً من النساء، وذلك كالزواج الأخوي الذي بمقتضاه يتعاشر الإخوة والأخوات معاشرة زواجية في نطاق الأسرة، وكزواج الأقارب وبمقتضاه يتعاشر بعض الأقارب بطائفة من أقاربهن، ومرة تجعله وحدانية الزوجة مع تعدد الأزواج، ومرة تجعله وحدانية الزوج مع تعدد الزوجات، ومرة تجعله وحدانية الزوج والزوجة.
(يُستكمل في العدد القادم إن شاء الله تعالى).
ــــــــــــــ
1 ميثاق الأسرة في الإسلام، اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفولة بالمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، ص30.