هم من قَتل ونحن من استُشهد
أغسطس 24, 2024ماذا لو حكم عالمنَا اليومَ محمدٌ ﷺ؟
أغسطس 25, 2024بقلم الشيخ/ بدر المشاري (فكَّ الله أسره)
يقول الله جل وعلا: ﴿سُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِیۤ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَیۡلࣰا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِی بَـٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِیَهُۥ مِنۡ ءَایَـٰتِنَاۤ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡبَصِیرُ﴾ [الإسراء ١]، وقال رسولكم ﷺ: “لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها، وعلى أبواب بيت المقدس وما حوله، لا يضرهم من خذلهم، ظاهرين على الحق إلى أن تقوم الساعة“.
معاشر المسلمين: نظرًا للظروف الصعبة التي يمر بها أشقاؤكم في دين الله، في أرض الرباط بيت المقدس في فلسطين، والحصار الاقتصادي من البحر والبر والجو، من قِبَل أعداء الدين، وأعداء الأنبياء، وأعداء الأمة الإسلامية، في هذه الأيام تتفجر فيها الدماء على أرض الإسراء، وتُبذل فيها الأرواح رخيصة في سبيل الله، ويقف فيها إخوانكم المسلمون في فلسطين، يقفون وقفة رجلٍ واحد، في وجه استباحة الحرمات، وانتهاك المقدسات، وتُرفع آهات الثكالى، وصرخات الأيامى، ما أظن يا عباد الله إلا وقد انتهت إلى مسامعكم هذه اللوعات والصيحات، فوقعت في آذانكم، بل وفي قلوبكم موقعها.. كيف لا والدماء على أرض الإسراء؟
المسجد الأقصى دمعةٌ في عين كل مسلم، المسجد الأقصى طعنةٌ في قلب كل مؤمن، المسجد الأقصى مصيبةٌ يعيشها المسلمون العرب، والمسلمون الهنود، والمسلمون الأتراك، والمسلمون الأفغان، وكل مسلم على وجه الأرض، لأن فلسطين إسلامية النسب، وليست عربيةً فحسب، لذلك: كان صلاح الدين فاتح القدس من الأكراد، والسلطان عبد الحميد ناصر فلسطين من الأتراك الأجواد، وبعض العرب أيام الصليبيين باعوها في سوق المزاد..
كيف يهون علينا.. كيف يهون يا عباد الله أن نبيع الأقصى؟ وقد صلى فيه محمدٌ ﷺ، وفتحه عمر، وكبّر فيه صلاح الدين، المسجد الأقصى قطعة من أفئدتنا، سُلب منا يوم ضعُفت في قلوبنا، يوم ضعُفت في قلوبنا لا إله إلا الله!
قال صاحب مقامات القرني:
“زارنا رجل من فلسطين، فجلس على الطين، قلنا اجلس على السرير، قال كيف أجلس على السرير والقدس أسير بأيدي إخوان القردة والخنازير؟ قلنا هل عندك من القدس خطاب؟ قال معي من القدس سؤال يريد الجواب، قلنا ما هو السؤال؟ قال: ينادي أين الرجال؟ أين أحفاد خالد وسعد وبلال؟ أين حفّاظ سورة التوبة والأنفال؟ أين أبطال القتال؟ أين أسود النزال؟ قلنا له: هؤلاء ماتوا من زمان، وخلت منهم الأوطان، وخلف من بعدهم خلفٌ هممهم ضعيفة، واهتماماتهم سخيفة، وأحلامهم خفيفة، قال: لماذا تغيّر الأبناء على الآباء؟ قلنا الآباء كانت بيوتهم المساجد، ما بين راكعٍ وساجد، وخاشعٍ وعابد، وصائمٍ ومجاهد، أما الأبناء فبيوتهم المقاهي، ما بين مغنٍ ولاهِ، ومن بماله يباهي، ومنهم من وقع في الذنوب والدواهي، إلا من رحمه إلهي..
ثم قلنا للرجل في عجلٍ: سلم لنا على القدس، وقل نفديك بالنفس، وقل له: متى العودة إلينا والسلام علينا؟ قال ذلك الرجل: إذا عدتم إلى الله عدنا، وإذا بعدتم عنه بعدنا”.
أيها الناس: القدس تنادي:
أما ترون خدي تشوّه بالنجمة السداسية؟ داست على جبيني الدولة الإبليسية!
والأرض هناك تشهد، والجدران تنطق، والمآذن تصرخ، والمنائر تئن، والمساجد تشتكي إلى الله من تدنيس اليهود لها.
تسعة عشر مسجدًا في أنحاء فلسطين تحولت إلى حظائر للدواب والخنازير، ومخازن للأسمدة، وأندية للفنانين، ومتاحف للسياح، ومطاعم وحانات للخمور، ومراقص للهو، وخمسون مسجدًا تحولت إلى معابد لليهود يرددون فيها قولهم: “يد الله مغلولة! إن الله فقير ونحن أغنياء! وعزيرٌ ابن الله! ويقولون: تعب الإله فاستراح في اليوم السابع”! تعالى الله جل وعلا عما يقول الظالمون والمعتدون علوًا كبيرًا.
وما زالوا يرتكبون المذابح داخل المسجد الأقصى وخارجه، حيث قتلوا عددًا كبيرًا من المصلين، ولا تزال المحاولات واحدة تلو الأخرى تسيل فيها دماءٌ زكية للدفاع عن الأقصى، وما زالوا يحفرون تحت القدس الخنادق، يريدون أن يسقط وأن ينهد البنيان والأساس، حفروا حتى الآن ثلاثة عشر ألف متر تحت الأقصى..
يا مسلمون: القدس تستغيث:
أين أحفاد مصعب بن عمير؟ أين أحفاد مصعب بن عمير؟ ينقذونهم من أبناء جولدمائير، وأين أحفاد عمر بن عبد العزيز ليطلقونهم من بيرجيز؟ أين طلاب عبد الله بن مسعود يطردون إخوان القرود، ويفكون الأقصى من القيود؟
أيها المسلمون.. إلى متى واليهود ينقضون العهود، ويلعبون في الأرض ويفسدون؟
خمسون عامًا يا مسلمون ونحن نرى يتامى، ونشاهد أيامى، ونبصر آلاًما، وعن كل ذلك نتعامى، ولا يحرك فينا ذلك حتى إبهاماً..
وا أقصاه..
وا أقصاه..
أين الفاروق عمر؟ ما فارق المدينة إلا من أجل الأقصى المبارك، وما صدح بلال بن رباح بالأذان بعد وفاة الرسول إلا في بيت المقدس، وما هاجر الأصحاب الأوطان والزوجات والأبناء وما فارقوا الأحباب إلا فداءً للأقصى المبارك!
عذرًا يا إخواننا في فلسطين.. عذرًا لأمنا العجوز، عذرًا لأخينا الشاب.. عذرًا لطفلنا اليتيم، عذرًا لأختنا المسلمة.. عذرًا لك يا مسلمة، يوم انتُهِك عرضُك ونحن نتفرج.. إنك تنتظرين صلاح الدين، الشيخ المجاهد الذي أقسم وربي ألا يبتسم وألا يضحك حتى وصلت ركائب النصر إلى الأقصى المبارك، يومها فقط برق ثغره بالابتسام، بعد أن فكّ قيد الأسر عن الأقصى المبارك.
إن الشجب والاستنكار والبكاء لا يكفي وحده لنصرة المسلمين، ولو أن المسلمين الذين بكوا لما أُحرق المسجد الأقصى، ولمّا وقعت مجزرة دير ياسين، وصبرا وشاتيلا، لو أنهم عملوا عملًا جادًا، وحوّلوا عواطفهم برنامجًا عمليًا، أقله: تربية الجيل على الجدية، والشعور بالمسئولية والإنتاج، والاهتمام بمعالي الأمور، لو فعلوا ذلك لكنا نحصد اليوم ثمرة فعلهم..
لا عظّم اللهُ أجر الأفاكين، لا عظّم اللهُ أجر الكذابين، بل تبوؤا من الذلة منزلًا، ومن العار محلًا أرذلَ، وشكرًا لدموع السائحين الغالية، شكرًا للمغنين، شكرًا لأصحاب كرة القدم! شكرًا لدموع السائحين التي تكلفوا على أنفسهم وذرفوها أمام شاشات المحطات التلفازية! التي تحولت إلى حائط مبكى عربي، يعرض لقطات الألم والحزن والقهر والدموع والدماء من القدس، ما بين لقطة (فيديو كليب) ومسلسل مدبلج، فيرددون التحية دموع سخاء ساخنة ما بين وجبة طعام يلتهمونها، وحلوى يختمون بها!
يا لنا من أمة عاجزةٍ ذليلةٍ تجتر آلامها وجراحاتها، لا تمل وربي من الافتخار بالماضي المشرق، ولا تستحي من جلَد صلاح الدين كل يوم الدين في قبره بمواقفها المخزية والخانعة، كيف لا وقد تملّكها حب الدنيا، وعمّها كراهية الموت، فصغرت وحقرت وذلّت، بعد أن نكّلت بالفئة المؤمنة، واعتقلت الجهاد، وصادرت أنفاس العباد، ومهّدت لمنكر، وترصدت لمعروف.
أمة هذا حالها، لا يُرتجى منها إصلاح، ولا يُؤمّل فيها وربي فلاح، وصدق رسول الله ﷺ يوم قال: “من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه”.
يا لنا من أمة تدعو ربها بالنصر، وقد سلّمت قيادتها لمندوب سامٍ بزي وطني، أباحت فكرها لمستشرق مارق في زي مفكر، وسلّمت وسائل إعلامها في زي محطات إرسال، شعوب لاهية غافلة، كل آمالها بعد أن انتهت من التهام أفخاذ لاعبات الدورة الأولمبية، وكلٌ منها وربي خاسر، وكل همها أن تُرضي طغاتِها، الحلال ما أحلوا، والحرام ما حرموا، أصبح شعرها شعيرًا، وجهادها صفيرًا، يختفي منها أسماء عمر ومصعب وخالد، ويبقى في ذكرياتها بابل وجرس وقرطاج، مناطق ودول تمر في مخيلتنا، لم يبق منها في ذكرياتنا إلا ألم الذل والهوان والصغار، تذكر الواهمين بعولمة الجشع والاستحمار..
وتؤكد القاعدة الأبدية: أن الأمم المستعبدة تتحرر بمنطق القوة، لا بمنطق القرار، والشواهد كثيرة وفيرة، وصدق رسولنا يوم قال.. اسمعوا ماذا قال.. “وجُعل رزقي تحت ظل رمحي”، وهاكم سدنة المجتمع الدولي.. اسمعوا إلى أمريكا وإلى هيئة الأمم المتحدة.. اسمعوا إلى البيت الأسود، اسمعوا إلى الخونة واليهود ماذا يقولون.. يحلون ويحرمون كما يحلو لهم، وتلك لعمري قسمة ضيزى:
فحلالٌ على الجبل الأسود أن يتحرر، حرامٌ ذلك على البوسنة!
وحلالٌ على كرواتيا أن تعلن دولة، حرامٌ على كوسوفا!
وحلالٌ على تيمور أن تنفصل، حرامٌ على الشيشان!
وحلالٌ على الهندوس أن يمارسوا الإرهاب، حرامٌ على مسلمي كشمير أن يمارسوا الجهاد!
وحلاٌل على اليهود أن يحتلوا فلسطين، حرامٌ على الفلسطينيين أن يرموا الحجارة!
معادلات كافرة، لا تستحق الاحترام، وازدواجية مقيتة لا تستحق الالتزام، وديون متراكمة تستحق الانتقام، فكيف يمكن أن تُجمع المتفرقات، وتنسجم المتناقضات، وتُفك طلاسم المفاوضات؟
أتدافع أوهن الأمم عن نفسها، ونغفل عن أنفسنا؟!
بالله عليكم.. هل لأمة العنكبوت أن تحارب دون بيتها ولم نحارب نحن دون مقدسنا؟
يا الله لأمة الدود تدفع عن نفسها وتضحي في سبيل غيرها، وقد تقاعسنا عن أن نضحي في سبيل ديننا ومقدساتنا؟!
كدودة القز ما تبنيه يهدمها ** وغيرها بالذي تبنيه ينتفع!
يا لله لأمتنا!
ويا لله لخيبتنا!
ويا لله لنكستنا!
ـــــــــــــــــــــــ
* من خطبة للشيخ بدر المشاري، بعنوان: الأقصى والخونة، موقع إلكتروني: يوتيوب، بتاريخ: 17-4-2022م.