هكذا أصبحنا جميعاً يتامى!
أغسطس 11, 2024رسالة الإسلام.. وصيانة حقوق الإنسان
أغسطس 12, 2024بقلم الدكتور علي العمري فك الله أسره
لقد أفلح النبي ﷺ في تحويل مجتمع المدينة من مجتمع متنافر تسوده الفوضى وتحكمه الحروب وتعلو فيه راية الشرك، إلى مجتمع عماده التوحيد، وسِمته الألفة، وعنوانه الانضباط.. كيف فعل ذلك كله في عشر سنوات؟ وكيف استطاع أن يُخرج للدنيا أشرف جيل تَمثّل الإنسانية في أعلى صورها، ومثّل الحضارة في أسنى دررها؟ وأية أسس دعوية وتربوية اتكأ عليها فبلغ بفضل الله ما بلغ من إصلاح وتوجيه؟
سنحاول أن نجيب على هذه الأسئلة، ونحاول أن نبين معالم الخطوط العريضة التي سار عليها النبي ﷺ، ليكون ذلك معياراً لنا نقابل بينه وبين واقعنا، ونزن به مسيرتنا فنتبين وجوه الخلل، ونتهدّى إلى مواطن النقص. فإلى معالم النهوض أو الإصلاح النبوي في المجتمع المدني:
المعلم الأول: تحقيق الإخاء وحضارة البناء
أول خطوة صنعها النبي ﷺ في المدينة المنورة هي تحقيق الإخاء، حيث آخى بين المهاجرين والأنصار. وكانت هذه الأخوّة أخوّةً صادقةً عميقة، ولم تكن مجرد مظهر أجوف، وبلغ من قوتها أن كان الأخ ينزل لأخيه عن ماله وداره، ويتحدث في خاصة أمره، ويأمره وينهاه، ويتابعه في دقيق أمره وجليله، فيعظه بالقيام إذا رأى تقصيراً، ويلح عليه في الفطر إذا رآه أثقل على نفسه بالصيام! وهكذا يتعامل كل واحد منهم مع أخيه وكأنه يتعامل مع نفسه!
وإنما بلغت هذه الأخوة هذا المبلغ بأمرين اثنين هما: تحقيق الألفة وإزالة الكلفة. أما الألفة فعلامتها أن يكون بين الأخوين أنس ومودة وأكل وشرب وعبادات مشتركة وزيارات خاصة، وهلم جراً من علائم الحب الصادق، والألفة العميقة. وأما زوال الكلفة فآيتُهُ أن ينظر المرء لأخيه كما ينظر لنفسه حتى كأنهما روحان في بدن، فلا يستحيي من نصحه، ولا يبالي أن يشتد عليه إذا كان في ذلك مصلحتُهُ، ويرى مالَهُ كمالِهِ يأخذ منه ويذر، ويحوطه في أهله وملكه كما يحوط نفسه.. إلى غير ذلك من علامات الانسجام الروحي، والتوافق النفسي.
ولما صح للنبي ﷺ ما أراد من تحقيق الإخاء كمل ذلك بحضارة البناء، إذ بناء الأخيار يعقبه بناء الديار. ولاحِظ أنني ما قلتُ هنا: (تشييد) البناء، بل قلت: (حضارة) البناء، لأن البناء وحده لا يعني شيئاً ما لم يكن مقترناً بالقيم الحضارية الأخلاقية. لقد شيد النبي ﷺ مسجده ولم يكن أكثر من بناء بسيط عماده اللين وجذوع النخل، ولكنه كان موئل الحضارة، ومنبع الإنسانية، وعنوان التربية، ومعهد التعليم، ومُنْطَلَق الجيوش، كان صورة مثلى لحضارة البناء، وإن كان دون غيره في زخرف البناء.
وحين جاء الهرمزان إلى المدينة زمن عمر بن الخطاب ذُهل مرتين، مرة حين رأى البناء المتواضع للمسجد النبوي، ومرة حين رأى عُمرَ رضي الله عنه نائماً تحت ظل شجرة قد توسّد إحدى يديه! عُمَر الذي كان ذكره يعطر الآفاق، ويملأ قلوب الملوك رعباً لا يملك قصوراً ولا ضِياعاً! وما ثَم إلا دار من طينٍ يتركها أحياناً ليقيل في ظل شجرة! والمسجد النبوي الذي كان منبعث الجيوش الفاتحة ليس أكثر من بناء سقفه من جريد النخل، ولكنه تضمن من اليقين والإيمان ما جعل عمر يضع فيه كنوز كسرى فلا يمسها أحد!
وحين رأى الهرمزان ما رأى من (حضارة البناء).. بناء الأخيار والديار، قال قولته الشهيرة: “عدلتَ فأمنتَ فنمتَ”1. وصدَق، فكيف لا يكون عادلاً من قال: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!».
فلنتعلم ذلك.. ولتكن عنايتنا بحضارة البناء أكثر من عنايتنا بزخرفته وتجميله، إننا معاشر المسلمين لا نبني ليقول الناس: ما أحسن هذه المباني والمصانع والدور! لا، بل نبني ليكون ذلك البنيان رافداً من روافد الحضارة الإنسانية، ومشعلاً من مشاعل القيم، ولا يتحقق ذلك إلا بوسيلتين اثنتين:
- الوسيلة الأولى: صحة العَرض.
- والوسيلة الثانية: عمارة الأرض.
وأعني بصحة العرض أن يكون العلم الذي نحمله للناس فيه صلاح لهم، وخير، وموظفاً لترشيد الإنسانية وهدايتها، أو بعبارة أخرى: أن نكون ممثلين لمظاهر الحضارة لا لحضارة المظاهر. ما فائدة التقنية والعلوم والمعارف إذا أفضت إلى إفساد حياة الناس؟! ألم يقل سبحانه وتعالى عن الكافرين: ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ [الروم: ٧]؟ إن هذه الآية تصور لنا ما نريد أحسن تصوير، إنها تتحدث عن قوم عندهم حضارة في الدنيا، عندهم معلومات وتقنيات وتطورات، ولكنها خاوية الجوهر، غارقة في الدنيوية المادية، منقطعة عن أنوار الآخرة. عندهم الآن الأموال والفنادق والعمائر وعجائب الصناعات، ولكن ذلك كله لا بركة فيه، تأتيهم الأمراض والأوجاع والفيضانات فتقضي على مليارات الدولارات!
وصدق الله إذ يقول: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: ٩٦].
المعلم الثاني: الجمع بين مطالب الدنيا وأشواق الآخرة
كان النبي ﷺ يحب أن يجمع أصحابه بين الدنيا والآخرة، وكان يربيهم على ألا يجور أحد منهما على قسيمه، وها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يتناوب هو وأخٌ له أنصاريّ على حضور مجلس النبي ﷺ؛ فكان أحدهما يذهب لرعي الغنم والآخر يحضر المجلس ثم يلتقيان فيحدث هذا أخاه بما سمع، فإذا كان الغد جلس الأول ورعى الثاني وهكذا2.
وكان ﷺ يدخل إلى المسجد أحياناً فيرى بعض الصحابة في غير وقت صلاة، فينكر عليه جلوسه في المسجد في هذا الوقت؛ لأن هذا الوقت في الحقيقة هو وقت العمل والنزول إلى الميدان. وقد صح أنه ﷺ كان يكون في حاجة أهله ويتناول معهم طعامهم وشرابهم؛ فهذا هو الجمع بين مطالب الدنيا وأشواق الآخرة.
المعلم الثالث: العناية بالمظهر وصلاح المخبر
وذلك تكاملٌ جميل رسّخه النبي ﷺ في أصحابه، فكان أحدهم جميل المنظر حسن الثياب، نقي المخبر مخموم القلب. واستمع إلى وصف عثمان بن عفان رضي الله عنه لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في قوله: ” اللهم عِلْمي به أن سريرته خير من علانيته »3.
وانظر إليه ﷺ يعظ صحبه في حسن المظهر فيقول: « إنكم قادمون على إخوانكم، فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم؛ حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس 4″. ويقول ﷺ: ” حُبب إليّ من دنياكم النساء والطيب »5. ويقول ﷺ: « إن الله جميلٌ يحبّ الجمال »، وكان ﷺ يستقبل الوفود في لباس خاص، ويجعل لمنبر الجمعة لباساً خاصاً.
وكان الشافعي رحمه الله وهو مَن هو في إمامته ينفق ثلث ماله في الطِّيب. وهذا كله يؤكد عناية الإسلام بمسألة الجمال.. جمال المظهر، ولكنه لا يكتفي بها بل يدعو المسلم إلى العناية بمخبره، وتنقية سريرته. وقد سُئل أحد أئمة السلف فقيل له: ما ترى في الرجل يلبس الجميل ويستجيد النعال؟ فقال له: “إذا اتقى الله فليلبس ما شاء”.
ولا شكّ أن للإسلام ضوابط في باب اللباس، ولكن ذلك لا يحجر على الناس أن يلبسوا جميلاً ويتخذوا جديداً، ما اتقوا واجتنبوا المحذور.
ومن لطيف الأخبار في هذا المعنى ما رُوي عن الحافظ الإمام ابن حجر رحمه الله، فقد ذُكر أنه ركب يوماً مركباً حسناً، ولبس حُلة فاخرة، فلقيه رجل فقير من يهود فقال له: أو لم يقل نبيكم: الدنيا سجن المؤمن وجَنة الكافر6؟ قال: بلى. قال اليهودي: أفهذا الذي أنت فيه سجن؟ أوَ هذا الذي أنا فيه جنة؟ فقال ابن حجر: “إنّ الدنيا سجن للمؤمن إذا قاسها بنعيم الآخرة الذي ينتظره، وإن الدنيا جنة للكافر إذا قاسها بعذاب الآخرة الذي ينتظره”!
ويا لها من نظرة فقيه! فمهما كان نعيم المؤمن في الدنيا.. فهو سجن إذا قيس بموعود الله للمؤمنين من نعيم الجنان. ومهما كان بؤس الكافر في الدنيا.. فهو جنة إذا قيس بعذاب جهنم والعياذ بالله.
المعلم الرابع الإيمان بشمولية العقيدة والعبادة
الإيمان في المنهج النبوي ليس ألفاظاً تُقال فحسب، بل هو قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجَنان. قال ﷺ: “ والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن.. من لا يأمَن جاره بوائقه “7. وقال ﷺ: ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه “8. وقال ﷺ: ” الإِيمَانُ بِضْعُ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ “9.
هذه النصوص صريحة الدلالة في أنّ الإيمان ليس اعتقاداً قلبياً فحسب، بل هو ممارسة يومية حياتية، وتعامل إنساني راق مع البشر، وبهذا يظهر أثر إيمان المؤمن في عمله وبيته وحيه وشارعه، وفي كل تصرف من تصرفاته.
هناك إذن شمول في مفهوم العقيدة، ويقابله أيضاً شمول في مفهوم العبادة؛ فليست العبادة في المنهج النبوي المدني طقوساً وشعائر تؤدى فحسب، بل هي شاملة لكل فعل صالح من أفعال الإنسان ما دام يحتسب فيه النية ويبتغي مرضاة الله. إن المؤمن ليتعبد بأكل طعامه، وراحة منامه، ودرس علمه، وإنجاز عمله، والجد في وظيفته، والنفقة على أهله، وإدخال السرور على من حوله، والاستماع إلى المباح من الإنشاد ومشاهدة الجائز من البرامج المسلية.. كل هذه مع حسن القصد عبادات يؤجر عليها الإنسان، وترتفع بها درجته. وهل أبلغ من قوله ﷺ: ” وَإِنَّكَ مَهْمَا أَنْفَقْتَ مِنْ نَفَقَةٍ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ حَتَّى اللُّقْمَةُ الَّتِي تَرْفَعُهَا إِلَى فِي امْرَأَتِكَ؟ “10.
وهذه العبودية الشاملة تقوم على أمرين اثنين: إرساء المنهج وجودة المنتَج؛ فلا بد أن تكون العبادة على منهج الكتاب والسنة، ولابد كذلك أن تكون متقنة، فليست العبرة بكثرة التعبد فحسب، بل العبرة بالخشوع والإتقان وحضور القلب، وركعتان في سكينة وإقبال خير من عشرة في غفلة وسهو. وقل مثل ذلك في جوانب العبادة الأخرى، فالتفرغ لوظيفة وإتقانها بنية التعبد خير من مزاحمة الوظائف والمهام دون إتقان وتجويد. وفي الحديث: “ إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه “11.
المعلم الخامس: تحقيق العدل وكثرة البذل
أتى عباد بن شرحبيل رضي الله عنه إلى المدينة، فدخل حائطاً من حيطانها، فأخذ سنبلاً ففركه فأكل منه، وجعل منه في ثوبه، فجاء صاحب الحائط فضربه وأخذ ثوبه، فأتى عباد النبي ﷺ، فقال ﷺ: « ما علّمته إذ كان جاهلاً، ولا أطعمته إذ كان جائعاً »، فردّ عليه الثوب وأمر له بنصف وسق أو وسق12.
في هذه القصة صورة مشرقةٌ من (معلم العدل) الذي أقامه النبي ﷺ، العدل الذي ينظر للمسألة من كافة جوانبها قبل أن يصدر حكمه؛ فالنبي ﷺ لم يعجل بعقوبة عبّاد، بل التفت إلى ما كان عليه من شدة الجوع والحاجة والفاقة؛ فراعى ذلك مع أنه هو الذي قال ﷺ: ” والذي نفس محمد بيده لو أنَّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها “13.
وانظر كذلك إلى موقف النبي ﷺ من أبي ذر لما قال لرجل: يا ابن السوداء، فقد غضب ﷺ وقال لأبي ذر: « أعيّرته بأمه؟! »14.
وأما البذل فقد ربى النبي ﷺ أصحابه عليه، فهم يبذلون الغالي والنفيس نصرة لدينهم، ويبذلون من أوقاتهم وأموالهم وخبراتهم كل ما يستطيعون، خدمةً لنبيهم وتعريفاً بإسلامهم.
وكان من ثمرة التربية النبوية على كثرة البذل أن صار كل إنسان في ذلك المجتمع الراشد يعطي ويبذل، فكل بيت من بيوت المسلمين بالمدينة كانت له إسهامات في نصرة الدين، إما بمال أو بنفس أو بقول أو بجُهد. وليس هناك بيت عاطل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. علي العمري، أيام في المدينة، ط١ (الرياض: الأمة للنشر والتوزيع، ٢٠٠٩م)، ص١٥ وما بعدها.
1 انظر: فضائح الباطنية للغزالي (ص٢١٢)، وفيض القدير (٣٧٨/٤).
2 رواه البخاري ومسلم، عن عمر رضي الله عنه.
3 أخرجه ابن سعد في الطبقات، ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
4 رواه أحمد، وأبو داود واللفظ له، والطبراني في الكبير، من حديث سهل بن الحنظلية رضي الله عنه، وصححه الحاكم، وأقره الذهبي، وحسّن إسناده النووي في رياض الصالحين، ورمز له السيوطي بالصحة.
5 أخرجه أحمد، والنسائي في عشرة النساء، وغيرهما وصححه الحاكم.
6 رواه مسلم عن أبي هريرة له.
7 رواه البخاري في الأدب من حديث أبي شريح الله.
8 رواه البخاري في الأدب، ومسلم في الإيمان، من حديث أبي هريرة له.
9 رواه مسلم في الإيمان، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
10 رواه البخاري.
11 رواه البيهقي في الشعب، وصححه الألباني.
12 رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وهو في السلسلة الصحيحة.
13 رواه البخاري، ومسلم، من حديث عائشة رضي الله عنها.
14 رواه البخاري، من حديث أبي ذر له.