معالم النهوض في المجتمع النبوي
أغسطس 11, 2024القفزة العلمية للحضارة الإنسانية
أغسطس 12, 2024بقلم أ. عماد إبراهيم (مدير مشروع بَصِيرَة الدعوي)
جعل الله عز وجل رسالة نبيه محمد ﷺ وسيرته العطرة مثالاً وقدوة للبشرية جمعاء؛ فهي سيرة مثالية متفردة ورسالة خاتمة، خصّها الله سبحانه وتعالى بالعديد من الخصائص التي لم تُكتب لغيرها من الرسالات التي جاء بها الرسل؛ فالرسالات السابقة للرسل لم تُحفظ من التحريف والتبديل؛ فضاعت أُصولها، وتشتّت أحكامها، وهذا دليل على أنّ تلك الرسالات كانت لوقت معيّن ولِأمَّةٍ خاصّة، حتى أتت الرسالة الخاتمة رحمة للعالمين والتي أغنى الله تعالى بها العالم عن غيرها من الرسالات، فقد ميّزها وأثراها بالأحكام التي تنظم جميع مناحي الحياة؛ قال تعالى: ﴿ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ ﴾ [الأنبياء: ١٠٧].
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال: “ أُعطيت خمساً، لم يُعطَهنّ أحدٌ من الأنبياء قبلي، نُصرت بالرعب مسيرة شهر، وجُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليُصَلّ، وأحِلّت لي المغانم، ولم تحلّ لأحد قبلي، وأُعطيتُ الشفاعة، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصةً، وبُعثت إلى الناس عامةً “. فالرسالة المحمدية وما جاءت به من الشرائع هي رحمة للعالمين في دنياهم وأخراهم، ودونها يحل بالعالم الخراب ويسود فيه الخلل والاضطراب. قال الله تعالى: ﴿ وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا كَاۤفَّةࣰ لِّلنَّاسِ بَشِیرࣰا وَنَذِیرࣰا وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ ﴾ [سبأ: ٢٨].
يقول الإمام ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين): ” إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث.. فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ﷺ أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي أبصر المبصرون، وهداه الذي اهتدى به المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل، فهي قرة العيون وحياة القلوب ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة. وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل شر ونقص في الوجود فسببه إضاعتها. ولولا رسوم قد بقيتْ لخربت الدنيا وطوي العالم. وهي عصمة للناس وقوام للعالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا. فإذا أراد الله خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقى من رسومها؛ فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي قطب العالم وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة “.
فهل من المعقول أو المقبول لأمة تحمل رسالة سماوية كرسالة الإسلام أن تعيش لنفسها؟! أو تَحْيا منكفئةً على شئونها ومصالحها! لقد أخرجها الله تعالى للناس؛ لتكون هاديةً للخلق إلى طريق الحق، وسائقةً للعباد إلى سبل الرشاد، وحاملةً رسالةَ ربِّ الناس إلى الناس، قال تعالى: ﴿ كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ ﴾ [آل عمران: ١١٠]، فهذه الأمّة ليست كسائر الأمم؛ إنّها أمّة صاحبة رسالة عالمية، ودينها ليس كسائر الملل والنحل، وإنّما هو الرسالة الخاتمة؛ قال تعالى: ﴿ قُلۡ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّی رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَیۡكُمۡ جَمِیعًا ﴾ [الأعراف: ١٥٨].
حقوق الإنسان في الفكر الغربي
تظفر قضية حقوق الإنسان بأهمية كبرى في العصر الحديث، على مستوى الشعوب والدول والمنظمات الدولية، فقد سبقت مواثيق كثيرة، الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، الذي يعد خطوة هامة وحاسمة، بعد جهود المفكرين والفلاسفة الأوروبيين لعدة قرون، والتي استهدفت حماية الشعوب من المعاناة والآلام، التي كانت ترزأ تحتها من السلطات الإدارية والدينية في أوروبا، خلال عصور الظلام، وبدايات عصر النهضة الأوروبية. تلك المعاناة التي ترجع إلى استبداد الحكم الإقطاعي ورجال الكنيسة، واندفاع الكنيسة إلى محاربة كل الاتجاهات الفكرية، التي تسعى إلى تحرير عقل الإنسان ونفسه. وهذه العوامل كلها، لم يكن لها وجود في الإسلام، عقيدة وشريعة، أو حضارة. وهنا ثمة مسألة هامة، وجب الإشارة إليها، وهي: أن فكرة حقوق الإنسان هذه التي نشأت داخل القارة الأوروبية، استخدمت في تحرير الإنسان الأوروبي من طغيان السلطة ورجال الكنيسة، ولم تمتد هذه الفكرة لتشمل بالحماية شعوباً بأكملها خضعت للاستعمار الأوروبي في العصر الحديث، بل لاقت منه من المظالم والاستبداد كل ما يتعارض مع مبادئ حقوق الإنسان.
حماية الحقوق والحريات وظيفة رسالية في دولة الإسلام
ليس من المبالغة ولا التهويل أن نقول: إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لم يكن سوى ترديداً عادياً لبعض ما جاء به القرآن الكريم وقرره دين الإسلام، وطبقتْه الأمة الإسلامية في أزهى عصورها، وإنَّ ما تفتخر به أوروبا وأمريكا اليوم وتزعم أنه وليد حضارتها وربيب مدنيتها قد جاء به الإسلام بأوسع وأعمق منه منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان.
بل ليس ادعاءً ولا تمحلاً أن نقرر أن ما وصلت إليه أوروبا وأمريكا في كل ما يتعلق بإنسانية الإنسان، ليس إلا نفحة من روح الإسلام وقبسًا من نوره الوضّاء، وأن “ما حفل به الإسلام من حريات وما شرعه من عدالة ومساواة، وما ضمنه للجماهير من حقوق وكرامة لم يكن يدرس في عواصم الأمة الإسلامية وحدها، وإنما عبر إلى أوروبا مع شتى الثقافات الأخرى، وظل يحرك الحياة الأوروبية حتى انفجرت ثورات التحرر تهتف بمبادئ ما كانت معروفة في أرضها خلال القرون الماضية”1.
هذا هو الحق -وإن أنكره الذين يريدون أن يَحُولوا بين الناس وبين الدين الحقّ- هذا هو الحق الذي قرره كثير من المنصفين من علماء أوروبا، مثل المسيو (سيديو) الوزير الفرنسي الأسبق وأحد العلماء المشهورين، الذي قال “لقد كان المسلمون منفردين بالعلم في تلك القرون المظلمة، فنشروه حيث وطِئَتْ أقدامُهم، وكانوا السبب في خروج أوروبا من الظلمات إلى النور”2.
لم تأتِ حقوق الإنسان في القرآن في شكل تعاليم متناثرة أو إرشادات وتوصيات مبثوثة هنا وهناك دون أن يكون بينها رابط، وإنما جاءت -برغم كونها مبثوثة في أنحاء القرآن والسنة- في شكل نظرية متكاملة لها أصول وقواعد تقوم عليها ولها أسس عريقة وجذور عميقة تثبتها في ضمير المجتمع.
إن حماية حقوق الإنسان الفطرية الطبيعية الشرعية من الوظائف الرسالية لدولة الإسلام، والظلم هو مكمن الخطر على حقوق الإنسان: ” يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا “3. والعدل هو منبع الرعاية لحقوق الإنسان؛ لذلك فإن قيام حقوق الإنسان في الإسلام على أساس العدل شاهدٌ على أن هذا الدين العظيم لا يمكن أن يهدر شيئًا من حقوق الإنسان. هذه هي أهمّ الأسس التي تُبنى عليها نظرية حقوق الإنسان في القرآن. وهذا يعد من أهم خصائص الدولة الإسلامية التي بنيت على قيم الرسالة المحمدية، أنّها ترعى مصالح الناس الحقيقية، بعد أن تقيم العدل فيهم، ومصالح الناس الحقيقية تعني حفظ الدين والنفس وما اقترن بهما من عقل وعِرض ومال.
كما تعد حقوق الإنسان من مقاصد الشريعة؛ لذا فإنّ من أهم وظائف الدولة الإسلامية حماية هذه الحقوق، والشريعة الإسلامية توفر لحقوق الإنسان الحماية والضمان أكثر مما توفره المنظمات الدولية التي تتبنى حقوق الإنسان، فليس خافياً على أحد أن المشكلة الكبرى لدى هذه المنظمات أنها لم تستطع إلى الآن توفير الحمايات اللازمة التي ترغم الأنظمة والدول على رعاية حقوق الإنسان، ولا يزال الأمر لا يتعدّى محاولات لم تصل إلى حد التنفيذ، وضغوطاً لم يظهر لها آثار معتبرة.
أما في الشريعة الإسلامية فهناك الحدود والقصاص والعقوبات الشرعية والتعزير، وهناك تطبيق الشريعة الذي يضمن العدالة المطلقة، ويضمن المساواة في أداء الواجبات والتمتّع بالحقوق، وهناك المسئولية الدنيوية والأخروية وهي مسئولية يشارك فيها الحاكم والمحكوم، والسيد والمسود، وكل نفس تملأ رئتيها من هواء المجتمع المسلم. قال رسول الله ﷺ: “ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ في أَهْلِهِ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهْىَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ “4، ورعية الإمام هم رعايا الدولة الإسلامية من المسلمين ومن غير المسلمين.
هذه المسئولية المشتركة يلقّنها الصدّيق أبو بكر للأمة في أول خطبة له بعد تولّيه الخلافة، حيث قال: ” أيها الناس: إني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه -إن شاء الله- والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه -إن شاء الله- لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولم تظهر الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم “. وقد اعتبر عمر من واقع المسئولية أن المظلمة الواقعة من أحد عماله على أحد رعيته واقعة منه شخصيًا؛ لذلك قال: “ أيما عامل ظلم أحداً فبلغني مظلمته فلم أغيرها فأنا ظلمته “5. وقال: ” إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إليّ “6.
وحقوق الإنسان في الإسلام تتمتع بالعمق التشريعي، فكل حق من هذه الحقوق بإزائه واجب أو واجبات ترعاه وتحافظ عليه، فمثلاً:
حق الحياة يقوم بإزائه واجب القصاص العادل: ﴿ وَلَكُمۡ فِی ٱلۡقِصَاصِ حَیَوٰةࣱ ﴾ [البقرة:١٨٠]. ووراء الواجبات هناك الحدود والعقوبات الشرعية، كحد القذف الذي يحمي أعراض الناس من ألسنة الأفّاكين، وحد السرقة الذي يحمي أموال الناس من خطر السطو والنَّهب، ووراء الحدود الحرمات، فالإنسان له حرمة يجب أن تُرعى، وكذلك ماله وعرضه؛ لذلك قال رسول الله في خطبة الوداع: ” فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، في بَلَدِكُمْ هَذَا في شَهْرِكُمْ هَذَا “7. وطاف بالكعبة فقال: “ مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ، مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ، مَالِهِ وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا “8. ومرّت به جنازة فقام لها، فقيل إنه يهودي. فَقَالَ: ” أَلَيْسَتْ نَفْسًا “9.
خاتمة
لقد أعطى الله تعالى العديد من الحضارات والأمم على مر العصور كل ما أرادت من الفتح العلمي والتقدّم الصناعي والإبداع التكنولوجي، ولعل ما تعيشه أوروبا وأمريكا من حال، على مدار قرن من الزمان خير شاهد، ذلك لأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهي أمم بالفعل أحسنت العمل وأجادت وأتقنت، أما في مجال سعادة الإنسانية وأمْنها وما يستلزمه ذلك من حقوق الإنسان فلم يُعطِها كل ما أرادت؛ لأنها لم تحسن -برغم جهودها- إذْ أساءت الظن في عناية الله لبني الإنسان، وأشاحت عن الدين الحق الذي يشتمل على كل ما يسعد الإنسان ويحفظ له كرامته وحقوقه.
هذا هو السبب الجوهري لِتعوّق مسيرة حقوق الإنسان في ظل الحضارة الغربية وتحت عناية الدول العظمى المتحضرة، السر هو تنكرها للدين الحق الذي جاء بالشريعة الغراء العصماء المشتملة على حقوق الإنسان بأكمل وأوسع وأعمق مما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ذاك، والمشتملة كذلك على كل ضمانات تحقيق وحماية هذه الحقوق، ولا يمكن أن تستقيم المسيرة تحت قيادة تلك الدول حتى تثوب إلى رشدها وترجع إلى ربها وتستظل بشريعة الإسلام التي سبقت كل الهيئات والمنظمات والجمعيات والإعلانات المهتمة بحقوق الإنسان إلى تقرير كل المبادئ الإنسانية، والنظريات العلمية والاجتماعية التي لم يعرفها العالم، ولم يهتد إليها سبيلاً.
وذلك كله لضعف ومحدودية ونقصان الأفكار البشرية؛ إذ إن القوانين والمواثيق المعروفة في العالم المعاصر من وضع البشر، والبشر يُقدمون ويُؤخرون ويُبدلون ما يشاءون وقتما وكيفما شاءوا. بخلاف ما جاء في الشريعة الإسلامية حيث إن منشأه ومبدأه ومصدره من خالق الخلق عز وجل، فهو تشريع ديني رباني لا يملك أحد من البشر أن يغيره أو يبدله، وكل ذلك يحمل دلالة قاطعة شافية جليّة على أن الإسلام هو الحارس الناظم الأكبر لحماية حقوق الإنسان.
والحمد لله رب العالمين
__________________
1 الشيخ محمد الغزالي، حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة.
2 الإسلام دين عام خالد، محمد فريد وجدي.
3 رواه مسلم عَنْ أَبِي ذَرّ.
4 رواه البخاري.
5 الطبقات الكبرى.
6 رواه أبوداود، والبيهقي في السنن.
7 صحيح البخاري.
8 رواه ابن ماجه.
9 رواه البخاري ومسلم.