ميراث المرأة بين الإسلام والأديان الأخرى
أغسطس 10, 2024معالم النهوض في المجتمع النبوي
أغسطس 11, 2024بقلم د. د. أحمد شتيوي (أخصائي طب الأسنان)
بسم الله الذي أنزل الكتاب، والصلاة والسلام على رسوله خير مَن حكم بحكم الله، أما بعد:
فقال ابن إسحاق: “ولما تُوفي رسول الله ﷺ عظُمت به مصيبة المسلمين، فكانت عائشة، فيما بلغني، تقول: لما توفي رسول الله ﷺ ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، لفقد نبيهم ﷺ، حتى جمعهم الله على أبي بكر.
القارئ العزيز، تأمل معي بعض المعاني في هذا النص، ولنبدأ بمعنى عاشه المسلمون وقتها وهو حجم الفارق بين شخصية الرسول ﷺ وشخصية أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكم كانت الفجوة الكبيرة الطبيعية التي كان على المسلمين تقبلها، مع علمنا بفضل الصديق وعلو قدره، وكم كانت الصورة التي اعتادوا عليها تتغير أمامهم يومياً، كإمامة الصديق رضي الله عنه الصلاة بعد رسول الله ﷺ، ووقوفه خطيباً على منبر رسول الله ﷺ، وتأمل حجم الفارق الهائل بين شخصية سيد المرسلين ﷺ وشخصية الصديق رضي الله عنه في تسيير أمورهم.
دع هذا المعنى في ذهنك ثم انتقل معي لمعنى آخر وهو ارتداد العرب واشرئباب اليهودية والنصرانية ونجوم النفاق في جزيرة العرب، تلك الجزيرة التي لا تخضع لملك ولا تعترف إلا بالقبيلة، وهذه ردة طبيعية جداً ومتوقعة على شعب بهذه الصفات عاشت فيه النبوة ثلاثاً وعشرين سنة فقط، سادتهم فيها أقل من ثلاث سنوات، ثم تأمل معي أخيراً في استقرار المسلمين على إمامة أبي بكر، وإقرار المسلمين -وفي مقدمتهم أهل العاصمة الأنصار- بإمامته وضرورته وهو ضيف عليهم، سنفهم معاني كثيرة، منها: حجم الجهد الذي بذله رسول الله ﷺ في ترسيخه للعقيدة، وما ينبت منها من أصول؛ كأخوّة الدين، والولاء والبراء، وما ينتج عنه من قومية إسلامية، أي أن هناك رابطاً متيناً صلباً قد تكوّن منع عِقد الدولة الناشئة من الانفراط بعد موت مؤسسها الفذ، سيد المرسلين ﷺ، مع غياب مثيل له، في وسط قوم هم أقرب إلى التفرق منهم إلى الوحدة، فكانت الدولة التي تأسست على الدين وللدين وتستمر بالدين، في بيئة لا تعرف الدولة ولا المدنية ولا الشورى!
وبذلك بدأت قصة هذا الدين العظيم تنتشر في ربوع الأرض؛ حيث كانت لها دولة، أقل ما تفعله تلك الدولة أنها تحمي الفكرة، لا أقصد حمايتها بالقوة، فهذا معنى لا خلاف عليه منطقياً؛ ولكن تحميها بمجرد وجودها، فمعنى أن هناك دولة بهذه التركيبة يعني أن هذه التركيبة أو الوصفة لها ما وراءها ولها ثقل، هذا أولاً بعيداً عن الصفات الفريدة لتلك الدولة وما تسحر به القلوب، وصولاً إلى رسالتها السامية للبشرية.
فهكذا نشأ الإسلام ونشأ المسلمون، فكرة وانتماء، على مثال نادر في التاريخ، فكان الوطن والدم هو الإسلام، وكان المسجد هو المجتمع، وكانت الأعياد التالية لشعائر الدين هي الفرحة، وكانت البطولة هي نشر تلك الفكرة السامية الجميلة أو حمايتها، وظهرت للناس حقوق في تلك الدولة وأنصبة مادية ومعنوية، وعلى المعنى بأن هذا الكون له إله يُحكَم بشرعه في هذه الدنيا، وفي شئونها، فأصبح الوعي دينياً، والخيال دينياً، ولكل شيء مصير ومآل إلى الآخرة، لأن من يحكم هذا التآلف البشري يحكمه بهذه التشريعات الإلهية، فكانت مراقبة الله حاضرة رسمياً، إن صح التعبير! أي أن الدولة تراقب الله كما يراقبه المؤمن! وهكذا أو أضعاف هكذا كان الحال والشعور والتوجه، وأقل دليل على هذا هو اتساع تلك الدولة على أكتاف الشعوب الجديدة الذين سحرتهم الفكرة؛ بل استردتهم الفطرة للدين الحنيف واستقبلوا الفكرة كما استقبلها العرب أول الأمر؛ فكان استقرارهم -أعني الشعوب- عليها، واحتفاؤهم بفاتحيهم كفاتحين لا كغزاة حتى يومنا هذا.
لنعد إلى موقف الصحابة رضي الله عنهم بعد موت رسول الله ﷺ، وكيف أنهم اجتمعوا على أبي بكر، والتأملات في ذلك كثيرة، ما ذكرته وما تلاه؛ كثباتهم على ما أمر به رسول الله ﷺ؛ كإرسال بعْث أسامة وما كان فيه من مخاوف وتحديات بالغة في الخطورة، وكذلك صرامة أبي بكر في حرب مَن منَع الزكاة، وكان هذا ببساطة لأن هذه الدولة قامت على الدين وللدين وتستمر بالدين، ولذا إذا تعارض أصل الدين مع أمر ما كانت للدين السطوة، فهذه دولة قامت لتؤدي رسالة.. أي قيم ومبادئ.
لننطلق إلى نص آخر نتأمل فيه، قاله حبيبك ﷺ: ” مَن أتاكُمْ وأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ علَى رَجُلٍ واحِدٍ، يُرِيدُ أنْ يَشُقَّ عَصاكُمْ، أوْ يُفَرِّقَ جَماعَتَكُمْ، فاقْتُلُوهُ “1. وقال أيضاً ﷺ: ” إنه سَتَكُونُ هَنَاتٌ وهَنَاتٌ، فمَن أرادَ أنْ يُفَرِّقَ أمْرَ هذِه الأُمَّةِ وهي جَمِيعٌ، فاضْرِبُوهُ بالسَّيْفِ كائِنًا مَن كانَ “. وفي روايةٍ: ” فاقْتُلُوهُ “2، وأظن أن كثيراً من المسلمين سمع هذا الحديث من أفواه بعض العلماء في زماننا هذا وقت الثورات أو قبلها في المظاهرات، ولعل رؤوساً كثيرة قُطعت به ظلماً، لا حكماً كما أراد الرسول، والحديث شديد ثقيل في ألفاظه شديد ثقيل في معناه، فتعالَ نهدي هذا الحديث افتراضاً لأهل زمان ملوك الطوائف، إذا جاءهم من يقتدي بعبد الرحمن الداخل يمتلك صفاته وقدراته، وبدأ يخرج على أولهم ليوحد كلمة المسلمين في حال أنه لم ينفع معهم الوعظ، هل يجوز أن يقال على هذا الخارج إنه يستحق ضرب العنق؟ أم أن ملوك الطوائف هم من يستحقون؟ هل هو يخرج على ولي أمر أم يخرج على ولاة فرقوا الأمر؟ وهل هو يفرق أم أنه يجمع؟
لنفترض أنه رجل تتحقق فيه شروط الإمامة، فسترى أن الرجل يُرجع أًصلاً وليس العكس، ولنهدي هذا الحديث لنا في زماننا وسنفهم أن هذه الأحاديث تُفهم خطأ وتُشرح خطأ وتُستخدم على غير المراد منها، وأنه ليس هدفها هو تمجيد ولي الأمر وكأن وظيفة ولي الأمر وظيفة ملائكية ومنصب من يصله مقدس له على الناس ألا يراجعونه! وهذا يخالف الأسس التي وضعها رسول الله ﷺ أول الأمر!
وطبعا استشهادٌ كهذا له ضوابط شرعية وأصول، إنما ضربته لنعيد رؤية الأصول كما هي لا بالتدليس عليها، ولكل أمر منافعه ومضاره وراجحه ومرجوحه، وتلك أمور يحسمها العلماء أهل الحل والعقد، وإن ما يُفهم من هذا الحديث هو قدسية وحدة المسلمين وتجمعهم، لا قدسية ولاة أمورهم، قدسيتهم كجمع لا قدسية بعضهم كحكام !
وتعالَ معي أيضاً لنقرأ هذا الحديث، قال رسول الله ﷺ: “ لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة “3. وتبعاً لمقالنا فلنتأمل في آخر صنف ولنتأمل عظم المقال فيه، فإن قسناه على شبهات عصرنا وجدنا أن هذا ضد حرية الاعتقاد التي يكفلها الإسلام نفسه، ومن العلماء في زماننا من قد أشار إلى مقارنة حد الردة بحكم الخيانة العظمى الذي تحكم به الدول على من يخونها ويتعامل مع أعدائها، وحُكمه دوماً هو أقصى العقوبات في القانون، وهذا عند الدول وعند أهل الأرض جميعاً أمر طبيعي فهذا فعل مذموم مستقذر بلا خلاف، وربما كان قتل هذا الخائن على يد أبيه أو أخيه لدناسة الفعل.
وطبعاً أنا ناقل يقرّب المعنى ولا أفتي في حد من حدود الله ولا في غيره؛ فهذا شأن أهل العلم، إنما أريدك أن تتخيل لماذا يقبل الناس عقوبة الخيانة، ويحتارون في فَهم عقوبة التارك لدينه المفارق للجماعة، أتدري لم؟ لأن قومية الدم مقدسة في عصرنا وقومية الدين ضاعت وأصبحت بلا معنى، أتدري لم؟ لأنه لا قومية إسلامية رسمية! لا كيان يرفع هذه الراية ويطبقها وبالتالي فالصورة غير مكتملة؛ فهناك فقط قومية إسلامية في أذهاننا وبعض تصرفاتنا وطموحاتنا فقط، ولأن كلمة الجماعة نفسها تفتت، ومعنى الجماعة الذين لهم إمام غير متحققة في عصرنا على مرادها الشرعي الحكيم الواقعي، تلك الجماعة التي كانت تسالم أقواماً وتحارب غيرهم، وتدفع دية إن قَتل أحد منها أحداً بالخطأ، وتضع قوانين للارتباط الاجتماعي مع غيرها؛ فأنت يحل لك الزواج من تلك ولا يحل لك من تلك، بل وتفرق أحياناً بين المرء وزوجه بناء على الانتماء لها؛ كما فعل رسول الله ﷺ مع ابنته.
هذا وغيره كان من أسس البناء للوحدة التي يجتمع فيها المسلمون، ويتحقق فيها الإسلام، ومع غياب هذا الشكل في بنائه العام (البناء هو تجمع المسلمين في مجتمع يرفع راية هذا التجمع) أصبح فهم أو تصور معنى مفارقة تلك الجماعة صعباً، ويتعارض المعنى المراد منه مع معانٍ أخرى أُسست عليها دولنا التي نعيش فيها وعليها وبها، تلك المعاني التي لن تتوقف عن معارضة أسس الدين ولو بالتدريج، فالدولة الإسلامية شيء ودولنا التي نعيشها شيء آخر، ولن يجتمعا ولن يمتزجا، وهذا موضوع آخر، إلا أنه وسريعاً كمثل من غزا قوماً وأراد أن يخدعهم ويغير دولتهم فأسماها باسمهم، ثم بدأ يستبدل سكانها جيلاً بعد جيل حتى تغير الجوهر وبقيت أجزاء من الاسم، وأقلّ دليل على ذلك القوانين التي تَحكم بها دولنا المسلمة وتسيّر بها شئون حياتنا بين أوقات صلواتنا! ناهيك عن نظام الدولة نفسها، فقد سُحب الإسلام بالتدريج فأصبح الوضع كما نرى الآن.
لنجمع النقاط التي مررنا عليها، وأولها: أهمية الإمامة بعد رسول الله، وثبات المسلمين عليها مع أنه لا كفء لرسول الله، فمن العجيب هو استقرار العمل الفذ بعد ذهاب الشخص الفذ في بيئة كهذه قصر عهدها بالخضوع لملك أو ولي أمر، إلا بعِظَم معنى الولاية وخطورتها في النفوس، ثم معنى أن المسلمين لا يكون لهم إلا ولي أمر واحد لأنهم شيء واحد، ومن يهدد هذا له حكم قاسٍ، والمعنى الثالث هو قدسية جماعة المسلمين وخصوصيتها وأنها رابطة أقوى من الدم ولها يبذل الدم، ولننظر إلى تلك النقاط أين نحن منها؟ وكم للإسلام منها، الحمد لله باقٍ منها في معنى الجماعة الكثير بفضل الله وبعظم أمر الدين في نفوس المسلمين، ولكنه معنى غير تام الحضور أو مشوه في الأذهان، وغاب المعنيان الأولان عن التطبيق فلا إمام ولا وحدة! وأصبح المسلمون قوماً بلا قيادة فكان من الطبيعي أن يبدأ التآكل في أسس تجمعهم نفسه وفعلاً تم التقسيم، وعاد المسلمون لوضع هو أسوأ من لحظة وفاة رسول الله ﷺ، وإذا شبّه الصحابة المستقر عندهم تلك المعاني التي نفتقدها بالغنم المطيرة في الليلة الشاتية، فكيف بوصفنا نحن؟!
إننا كأيتام يحكى لهم عن أبيهم وهم لم يروه، يرون صورته وآثاره، ويرون تركته أمامهم يُنهب منها ويؤكل، ولضعفهم لا يستطيعون إليها سبيلاً، وهم مستضعفون بعد غياب أبيهم، يتقطعهم كل جبار في هذا الكوكب، ارتسمت على وجوههم معاني البؤس والحيرة، وابتُلوا بمن يفرقهم حتى لا يرشدوا إلى خلاص أو حيلة، إلا أن لهم عودة فقد كان أبوهم صالحاً.
ولنستكمل في عددنا القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
1 صحيح مسلم.
2 صحيح مسلم.
3 رواه البخاري ومسلم.