السيادة الغربية ومقاليد الحكم الإسلامية
أغسطس 13, 2024الشريعة الإسلامية هي الحل لمشاكل البشرية
أغسطس 13, 2024بقلم الشيخ/ حسن أحمد الخطيب (رحمه الله)
الشريعة الإسلامية أعدل الشرائع وأحكمها، أساسها رعاية المصالح ودرء المفاسد، وغايتها إسعاد البشر في معاشهم ومعادهم، ولا غرو.. فهي قبس من نور هداية الله ومشتقة من سنا وحيه، ومرآة مجلوة انعكست فيها سمات الرسالة وإرشاد النبوة، ثم هي إلى ذلك مجلى آراء العلماء المجتهدين، وميدان لذوي الأفكار الحرة المخلصة لله وللحق، استهدوا بهديه ومشوا وفي يدهم مصباح هدايته؛ فعرفوا منه وجوه المصالح العامة والحِكم التشريعية السامية، وبها حكموا على الحادثات الجزئية والمسائل الفرعية؛ فاستقام لهم من ذلك كله تشريع قيم، واستوى منه قانون سماوي سداه جلب المصالح ولحُمته درء المفاسد.
انتظم جميع ما يحتاج إليه الأفراد والأمم؛ من عبادات ومسائل مدنية وتجارية وشئون جنائية وأحكام سياسية واجتماعية، فقد نظم علاقة العبد بربه، وحدد علاقة الفرد بأسرته ومجتمعه، وبيّن علاقة المجتمع بالفرد، ووضع أساس النظم والعلاقات بين الأمم بعضها وبعض، ورائده في ذلك كله تحقيق العدل المطلق والمساواة التامة بين الناس كافة، لا فرق بين عربى وعجمي، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين ملك وسوقة، ولا بين ضعيف وقوي.. لا مقصد له إلا إقرار الحق والمعدلة..
ألا ترى إلى قوله تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُونُوا۟ قَوَّ ٰمِینَ لِلَّهِ شُهَدَاۤءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰۤ أَلَّا تَعۡدِلُوا۟ ٱعۡدِلُوا۟ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ﴾ [المائدة: ٨]. وكان على رسول ﷺ وسق من تمر لرجل من بني ساعدة فأتاه يقتضيه، فأمر رسول الله ﷺ رجلاً من الأنصار أن يقتضيه فقضاه تمراً دون تمره، فأبى أن يقبله، فقال: أترد على رسول الله ﷺ؟ قال: “نعم، ومن أحق بالعدل من رسول الله”؟ فاكتحلت عينا رسول الله ﷺ بدموعه ثم قال: “صدقَ، ومَن أحق بالعدل مني؟ لا قدّس الله أمة لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها ولا يتعتعه“… إلخ1.
وجاء في كتاب عمر رضى الله عنه إلى أبي موسى الأشعرى: “آسِ بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك، حتى لا ييأس الضعيف من عدلك ولا يطمع الشريف في حيفك“. وفسّر الميزان بالعدل في قوله تعالى: ﴿ٱللَّهُ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ وَٱلۡمِیزَانَۗ﴾ [الشورى: ١٧]، وقوله: ﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾ [الحديد: ٢٥].
أصول التشريع الإسلامي
استنبط جمهرة فقهاء السلف من الصحابة والتابعين ومَن تلاهم من علماء التشريع الإسلامي المجتهدين، ما ذهبوا إليه من الآراء والأحكام من أصول أربعة:
الأول: القرآن المجيد
ولا شك أن الآيات القانونية أو كما يسميها الفقهاء “آيات الأحكام” ليست كثيرة في القرآن؛ إذ فيه نحو ستة آلاف آية ليس فيها من الأحكام العملية من دينية وقضائية وسياسية ما يبلغ عُشر آياته. ورأى بعضهم أنها لا تكاد تزيد على مائتين2، وعدّها بعضهم خمسمائة3.
تعرّض القرآن فيها لجميع ما يصدر عن الإنسان من العبادات، من صلاة وصوم وحج وزكاة، إلى الأمور الجنائية مِن قتل وسرقة وقطع طريق وزنا، إلى ما يتعلق بالأسرة من زواج وطلاق وميراث، إلى الأمور المدنيّة من إجارة وبيع وربا، إلى الشئون الدولية كالقتال وبيان علاقة الأمة الإسلامية بغيرها من الأمم وما يتصل بذلك من العهود وغنائم الحرب.
وأنت إذا نظرت إلى الصفة الغالبة في تشريع القرآن وجدته لا يتعرض كثيراً للتفاصيل الجزئية، وإنما يتعرض غالباً للأمور الكلية، كما أنك تجده في تشريعه كله مصلحاً مجدداً، هدم كثيراً من عادات الجاهلية وتقاليدها في زواجهم وطلاقهم وإرثهم ومبايعاتهم الربوية، وحسبك أنه لاحظ في كل ما جاء به إقرار العدالة والمساواة، والوفاء بما يلزم للجسم والروح معاً في حدود الاعتدال لا إفراط ولا تفريط، وفي دائرة المبادئ السامية والفضائل الروحية. وحجيّة القرآن مُجمع عليها، لم يخالف في ذلك مخالف من المسلمين.
الأصل الثاني: السُّنة
وهي ما صح عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، وهي شارحة للقرآن تُبين مجملة وتُقيد مُطلقه وتُؤوّل مُشكَله، قال الله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَیِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَیۡهِمۡ وَلَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: ٤٤]. وكان ﷺ يقول: “صلّوا كما رأيتموني أصلي“. ويقول ﷺ: “خذوا عني مناسككم“.
وهي إلى هذا قد تأتي بما لم يَرِد في القرآن بنص صريح، وإن كانت راجعة إليه، وقد اختلف العلماء في طريقة رجوع السنة إلى القرآن، وبسط الكلام في ذلك بسطاً أبو إسحاق الشاطبي في الجزء الرابع من كتاب (الموافقات)، ومما جاء فيه: أن التشريع القرآني يرجع إلى معانٍ كلية، وأن ما في السُّنة من أحكام لا يعدو هذه المعاني، وذلك أن القرآن جاء معرفاً لطريق السعادة في الدارَين لنسلكه، ولطريق الشقاوة فيهما لنحذره، والسعادة في الدارين إنما تتوفر للمرء بثلاثة أشياء:
1- بالمحافظة على الدين والنفس والنسل والمال والعقل.. وهي الضروريات الخمس.
٢– وبتشريع ما يؤدي إلى التوسعة ورفع الضيق والحرج؛ كإباحة الفِطر في السفر والمرض.. وذلك قسم الحاجيات.
3- وبالتحلي بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وهي المعروفة بالتحسينيات.
فالكتاب أتى بهذه الأمور الثلاثة أصولاً يُرجع إليها، والسُّنة أتت بها تفريعاً على الكتاب وتفصيلاً لما ورد فيه منها؛ فليس في السُّنة إذا حللتها ما لا يرجع إلى هذه العناصر الثلاثة؛ فالكتاب والسنة بعد التحليل يرجعان إلى أصول واحدة4، وذلك مصداق قوله ﷺ: “شيئان لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسُنة رسوله“. وكون السُّنة أصلاً من أصول التشريع الإسلامي مكملاً للقرآن الكريم رأي الجمهرة الغالبة بل هو رأي من يُعتد به من علماء المسلمين، وكنا نظن أن ذلك مُجمع عليه وإنما الخلاف بينهم في طريقة ثبوتها وشروط قبولها.
ولكن الشافعي رضي الله تعالى عنه ذكر في الجزء السابع من كتابه المرسوم بـ(الأم)5 أن طائفة رأتْ رفض السُّنة كلها وعدم العمل بالحديث واقتصرت على القرآن وحده، قالوا: “لأنكم تروون الحديث عن رجل عن آخر وليس أحد إلا وهو عُرضة للخطأ أو النسيان، فلسنا نقبل منها شيئاً إذا كانت عرضة للوهم، ولا نقبل إلا كتاب الله الذي لا يسع أحداً الشك في حرف منه”!
وحكى في (الأم) أن هذه الطائفة انقسمت قسمين:
أحدهما: لا يقبل خبراً وفي كتاب الله البيان، وقال: “مَن جاء بما يقع عليه اسم صلاة وأقلّ ما يقع عليه اسم زكاة فقد أدى ما عليه، وما لم يكن في كتاب الله تعالى فليس على أحد فيه فرض”!
والفريق الآخر يقول: “يُقبل الحديث إذا كان فيه قرآن”!
ومما يؤسف له أن الشافعي لم يُسمّ هذه الجماعة بقسميها، ولا ذكر زعيماً من زعمائها، وإن كان (الخضري بك) يظن أن القائل بهذا الرأي بعض علماء الكلام على مذهب المعتزلة6.
ولا شك أن مذهب الضلال -كما قال الشافعي- في هذين المذهبين واضح، ولذلك اختفى بما صُدم به من قوة أصحاب الحديث، وانتصر مذهب الاعتماد على السُّنة كأصل من أصول التشريع الإسلامي بعد القرآن، فإن الشك في بعض الأحاديث أو الاستيقان بكذب بعضها، لا يوجب رفض ما يَثبُت منها بطريق التواتر العملي أو القولي أو بطريق الشهرة والقبول من الأمة.
وقد أفنى العلماء المخلصون لدينهم وربهم أعمارهم وتجشموا الصعاب واقتحموا العقاب، في سبيل تخليص الآثار الصحيحة من باطلها وزيفها، حتى سلم لنا منها الجم الغفير؛ فكيف نترك هذا التراث العظيم وفيه من الجوهر الغالي والدر الثمين ما لا يصح أن ينزل بقيمته أو يصدفنا عن النظر إلى حر جوهره، بعضُ ما علَق به من الترب أو تخلله من الشوك؟!
بل الواجب علينا أن ننفض عنه ذلك التراب ونعضد عنه تلك الأشواك؛ ليظل الباقي بوجه مشرق وصفحة ناصعة البياض، قال تعالى: ﴿وَمَاۤ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَىٰكُمۡ عَنۡهُ فَٱنتَهُوا۟﴾ [الحشر: ٧] وقال: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِی یُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَیَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ * قُلۡ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَۖ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡكَـٰفِرِینَ ﴾ [آل عمران: 31-23].
الأصل الثالث: الإجماع
وهو اتفاق المجتهدين وأهل الرأي في عصر من العصور على حكم شرعى.
أخرج البغوي عن ميمون بن مهران قال: “كان أبو بكر إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله ﷺ في ذلك الأمر سُنة قضى بها، فإن أعياه خرج فسأل المسلمين وقال: “أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله ﷺ قضى في ذلك بقضاء؟” فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر فيه عن رسول الله قضاء، فإن أعياه أن يجد فيه سُنة عن رسول الله ﷺ جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإن أجمع رأيهم على شيء قضى به. وكان عمر يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد ذلك في القرآن والسُّنة سأل: “هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟” فإن كان لأبي بكر فضاء قضى به، وإلا دعا رءوس الناس فإذا اجتمعوا على أمر قضى به”.
وروي عن سعيد بن المسيب عن علي قال: “قلت: يا رسول الله، الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه القرآن ولم تمضِ فيه منك سُنة”. قال ﷺ: “اجمعوا له العالمين” أو قال: “العابدين من المؤمنين، فاجعلوه شورى بينكم ولا تقضوا فيه برأي واحد“7.
والإجماع بالمعنى المتقدم في عصر الصحابة ميسور؛ لأن عدد المجتهدين منهم إذ ذاك محصور فيمكن استشارتهم والاطلاع على ما يتفقون عليه من رأي، ويعتبر بذلك أصلاً من أصول التشريع. وقد رأى جمهور الفقهاء أنه إذا لم يكن في نازلةٍ كتابٌ ولا سُنةٌ وأتى فيها السلف بفتوى ولم يُعلَم عن أحد منهم خلاف في تلك الفتوى.. رأوا ذلك حجة في الدين، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَمَن یُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَیَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَیَتَّبِعۡ غَیۡرَ سَبِیلِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَاۤءَتۡ مَصِیرًا﴾ [النساء: ١١٥]، وقالوا: إن اتباع غير سبيل المؤمنين هو مخالفة الإجماع.
والشافعي بعد أن سلم بالإجماع وكونه حجة في التشريع عاد في مناظرته فأنكر واستبعد وجود الإجماع وطريقة نقله. كما روي عن الإمام أحمد أنه قال: “من ادعى الإجماع فهو كاذب”8. والشيعة الإمامية لم يروا الإجماع أصلاً من أصول التشريع؛ لأن مذهبهم مبني على القول بعصمة الأئمة وأن آراءهم كنصوص من قِبل الشارع فلا أثر لقول من ليس من الأئمة”9.
وفي العصر الحاضر الذي ارتبطت فيه الأمم وسهلت فيه المواصلات، يمكن اتصال العلماء المجتهدين بعضهم ببعض، إما بالمراسلة أو بالاجتماع في هيئة مؤتمرات، وعلى هذا فالإجماع ميسور متى فُتح باب الاجتهاد، والعمل به واجب وبخاصة في المسائل الكبرى التي تهم العالم الإسلامي.
الرابع: الرأى والقياس
هو أصل من أصول التشريع إذا لم نجد نصاً في كتاب ولا سُنة، وقد كان يُراد به في العصر الأول الفتوى بناء على القواعد العامة للدين، أو بناء على تحقيق العدالة، أو هو كما فسره ابن القيم: “ما يراه القلب بعد فكر وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب“.
ثم نُظم بعدُ وصار يُعرف بالقياس، وقد وردت أحاديث وآثار تدل على العمل به في عهد النبي ﷺ والصحابة والتابعين، وأنه في المنزلة الثالثة من أصول التشريع؛ فمن ذلك ما ورد أن النبي ﷺ لما أرسل معاذ بن جبل إلى اليمن قال له: “وكيف تصنع إذا عرض لك قضاء؟” قال: “أقضى بما في كتاب الله”. قال ﷺ: “فإن لم يكن في كتاب الله؟” قال: “فبسُنة رسول الله ﷺ”. قال: “فإن لم يكن في سُنة رسول الله؟” قال: “أجتهد رأيي لا آلو”. قال معاذ: فضرب رسول الله ﷺ صدري ثم قال: “الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله“.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* الشيخ حسن أحمد الخطيب، المدرس بكلية دار العلوم العليا، كتاب: التشريع الإسلامي، ط: مطبعة العلوم بشارع الخليج بجنينة لاظ، 1936م، ص3-10.
1 رواه الطبراني في الأوسط والكبير.
2 تاريخ التشريع، للخضري، ص٤٥.
3 الوحي المحمدي، ص٢٢٥.
4 مفتاح السنة، ص۱۲.
5 ص٢٥٠، وما بعدها، وانظر: ضحى الإسلام، من٢٤٠ من الجزء الثاني.
6 تاريخ التشريع، ص١٩٧.
7 تاريخ التشريع، من١٢٩، وفجر الإسلام، من۲۸۱، ۲۸۲.
8 تاريخ التشريع، ص218-220.
9 تاريخ التشريع ص ٢٧٦.