
معركة الولاء والبراء
أغسطس 13, 2024
الشريعة الإسلامية أعدل الشرائع وأحكمها
أغسطس 13, 2024بقلم الكاتبة/ بادية شكاط (كاتبة جزائرية)
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وقرة أعيننا الهادي إلى صراطه المستقيم ودينه القويم، عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى السلام، أما بعد:
فالآن وقد بات العالم يترنّح كالسكران بين قرون الشيطان، ألم يئنِ الأوان بأصحاب الضمائر وكل الأحرار الذين يمتلكون نواصي العلم والفهم، أن يَهدموا ما شُيِّد لنا مِن محمِيّات؟ تلك التي ضمنت لغيرنا السيادة وحفظت لنا العبادة؟
ألم يصدر في 26 أوت/أغسطس 1876م إعلان حقوق الإنسان، الذي نصّ على أنّ السيادة للأمة غير قابلة للانقسام، وأنّ مرجعية السلطة هي للشعب وحده؟ ثم ظهرت تبعًا لذلك فكرة الرقابة السياسية والقضائية على السلطة التنفيذية، وتقرّر مبدأ المساواة في السيادة لدى جميع الأمم في الحقوق والواجبات، من غير اعتبار لأصل تلك الدول ولا مساحاتها ولا شكل الحكومات؟
فأين كل ذلك ممّا يحدث اليوم في غزة؟ أليس ما يحدث هو خرق صارخ لكل تلك الشعارات؟
لقد بات لزامًا علينا وضع مفهوم للسيادة ينطق به لسان الحال لتغيير المآل، فكل ما وُضع من مفاهيم لها في الغرب هي مفاهيم توثّق لهم عروة التحكم بمقاليد السيادة على الدول العربية، فإن تتبّعنا مسارات تلك المفاهيم ابتداءً من جان بودان (1530ـ1569) ومن خلال كتابه (ستة كتب عن الجمهورية) نجده قد عرّف السيادة بأنها عبارة عن: “السلطة العليا على المواطنين والرعايا”. ثم بكونها سلطة دائمة غير مؤقتة ولا تخضع للتقادم، ومطلقة لا تخضع للقوانين، فصاحب السلطة العليا برأي بودان هو واضع القوانين، وهو غير مسؤول أمام أي أحد بتنفيذها.
فكان بودان ممّن وضعوا أسسًا للسيادة داخل الدولة، أمّا خارجها فقد ظهر غروسيوس، الذي رأى أنها سلطة سياسية يمتلكها شخص تجعل أفعاله غير قابلة للنقد، ليعقبه هوبز، والذي اعتبرها أولاً وأخيرًا حفاظًا على بقاء المجتمعات، حتى لا يأكل القوي فيها الضعيف، وبرأيه حين يتفق الجميع على شخص بعينه ليكون صاحب السلطة فهم يمنحونه بموجب ذلك حق التصرف في ممتلكات الدولة، وبالتالي في أموالهم تبعًا لذلك، فتكون أموالهم –حسبه- مجرّد امتيازات يقرّرها الحاكم على الرعية كما يشاء، والحاكم -حسبه أيضًا- غير ملزم باتباع القانون؛ لأنه هو واضعه، وله مطلق الحرية في سنّه أو إلغائه، فكفّتا العدالة بين يديه لوحده، وطبعًا في ثنايا تلك النظريات غثاء من النقيض لا بد له من معاول تقويم.
فجان بودان مثلاً، وهو يخلق السيادة من خلال ثالوث: (السيادة، والمواطن، والدولة) جعل بدايةً صاحب السلطة هو من يصوغ القوانين داخل الدولة، ليجعل بعدها الشعب هو من يُلزم الحاكم بتطبيقها..
فهنا يستوجب علينا حسب رأينا طرح الإشكال الآتي:
إذا كان الشعب يملك حق إلزام صاحب السيادة بتطبيق القوانين، فهو إذن صاحب السيادة الحقيقية، وليس الحاكم كما أراد له أن يكون جان بودان.
وهذا ما يبيّن استحالة أن تكون السيادة مطلقة لدى الحاكم بإبعاد كامل للشعب.
والأمر ذاته بالنسبة لغروسيوس الذي نقد نظرته بنفسه حين راح يضع ضوابط لتلك الهيئات التي تُخوّل لنفسها سلطة إعلان الحروب، بعد أن جعل السيادة مفهوماً بموجبه لا يجوز نقد أفعال صاحب السلطة مهما كانت، فكان بوضعه لتلك الضوابط هو أول من انتقدها، لِما لاحظ من عنجهية الطغاة، واستبداد الحكم الذي طفح به كيل العدالة.
أما هوبز وهو يضع السيادة المطلقة للحاكم حفاظاً على بقاء المجتمعات؛ فهو يعمل بدل ذلك على إفنائها، لأن الحاكم لايُبسَط له الكمال بسطًا لمجرد حيازته على السلطة، وبما أنه بشر فقد يصيب وقد يخطئ في حكمه، فإذا حدث وأخطأ ولم يكن مِن معارضة يجابهها، فسيحدث الفناء الجماعي بدل البقاء الذي تحدّث عنه، وهذا ما نلحظه من خلال الممارسات الديكتاتورية للحكام في البلدان العربية، أو حتى من خلال ما تمارسه دول تريد أن تكون لها بدل السيادة الدولية سيادة إقليمية؛ كأمريكا وروسيا.
ولذلك فإنّ السيادة -وحتى تكون حقيقية- ينبغي أن تُبنى على أساس البحث عن المصلحة العامة وليس المصلحة الخاصة، فتكون كلمة الحق هي العليا وإن كانت من فرد لا يساوي أبخس بضاعة، وكلمة الباطل هي السفلى وإن كانت ممّن لا تُشق له عصا طاعة، ثم إنّ السيادة في مرجعيتها القانونية هي دليل نقصانها في ذاتها، فلو كان الكمال في ذاتها لما كانت بحاجة لِما يُسمّى بالقوانين الدستورية،كما أنّ تلك القوانين قد يطغى ويستبد من خلالها واضعها كما نلحظ في كثير من الدول، خاصة في عدم فصله بين السلطات، حتى صارت السلطة العسكرية هي الآمرة الناهية، وباتت طوقًا يلُف عنق الديمقراطية، فعمّ الفساد والاستبداد، وأصبحت تلك الدول أحوج ما تكون لمرجعية يكون فيها الكمال جوهرًا لا عارضًا، والسيادة فيها خاضعة لحتمية السماء لا لشطحات الأهواء، فيتساوى أمام كمالها وفي حكمتها وسمو غاياتها جميع البشر فقراء وأغنياء، حكّاماً أقوياء، أو رعية ضعفاء.
يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: “تعاليم الدين المنوعة في كل شؤون الحياة هي نداء الطبائع السليمة والأفكار الصحيحة، وتوجيهاته المبثوثة في أصوله متنفس طلق لما تنشده النفوس من كمال”.
فيكون الحاكم هو هيئة تنفيذية لهيئة تشريعية هي الرعية أو الشعب، فتتبلور السيادة من وجهة نظرنا على صعيدين:
الصعيد الداخلي
بطاعة الله ورسوله ﷺ وولاة الأمر، قال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡءࣲ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ ذَ ٰلِكَ خَیۡرࣱ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلًا﴾ [النساء: ٥٩].
غير أنّ لذلك ضوابط وأطراً، ذكر منها التاريخ ما لا يمكن حصره في بضعة أسطر، فهذا الصحابي الجليل أبو بكر الصديق t، حين ولي الخلافة قال: “أيها الناس إني قد ولّيت عليكم، ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني”.
وكذلك فعل الخليفة عمر بن الخطاب يوم استلامه لمقاليد الحكم، راح يبيّن للرعية حدود هاته الطاعة في خطبته فقال: “مَن رأى منكم فيّ إعوجاجاً فليُقَوِّمني”.
وأمّا على الصعيد الخارجي
فمن خلال قوله عز وجل: ﴿وَلَن یَجۡعَلَ ٱللَّهُ لِلۡكَـٰفِرِینَ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ سَبِیلًا﴾ [النساء: ١٤١].
أي: في الدنيا بأن يبسطوا سيطرتهم عليهم.
إنّ على الدول الإسلامية الإيمان بأنّ وحدتها هي الخلاص من كل ذاك الخنوع والإذعان، وأما الخشية من إصابة بنيان الوحدة بسبب الدين بالانهيار فهُوَ أشبه بمن يخاف أن تكون الشمس كوكبًا مشتركًا تحدّد للجميع اللّيل من النهار.