الشريعة الإسلامية هي الحل لمشاكل البشرية
أغسطس 13, 2024كيف تميّز الحُكم الإسلامي عن غيره؟
أغسطس 15, 2024بقلم الدكتور/ توفيق الشاوي (رحمه الله)
عندما نتكلم عن سيادة الشريعة، فإن المقصود بالسيادة هي السلطة العليا، وقد حفلت كتب القانون العصري بتعريفات متعددة تؤدي إلى هذا المعنى؛ فالجهة أو الهيئة التي يعترفون لها بالسيادة هي التي يكون لها الكلمة العليا والأخيرة، وتخضع غيرها من الجهات أو الهيئات لأوامرها وتوجيهاتها، ولا يجوز لها الخروج على ما تفرضه من مبادئ وما تضعه من قيود وحدود.
السيادة المطلقة
معنى ذلك أن السيادة تكون لمن يعتبر المرجع الأخير والسلطة العليا في المجتمع البشري، وبذلك يكون لصاحب السيادة سلطة مطلقة لا تملك أية جهة أو هيئة أخرى أن تعقّب عليها أو تخرج عن حدودها، وإلا كان شريكاً لها في سيادتها، وهذا يتعارض مع السيادة التي يجب أن تكون كاملة لا تتجزأ ولا تتعدد، وبذلك لا يمكن الاعتراف بها إلا لجهة واحدة لا شريك لها، وكل سلطة تمنح لغير هذه الجهة لا بد أن تكون محدودة ومقيدة.
ويُلاحَظ أن بعض الكتب المعاصرة وخاصة ما كتبه بعض المؤلفين من المسلمين غير العرب، يعبرون عن السيادة المطلقة بالحاكمية، لتمييزها عن السيادة النسبية التي نتكلم عنها فيما يلي:
السيادة النسبية
رغم إشارة الفقه الحديث إلى أن السيادة يُقصد بها السلطة العليا أو المطلقة، فإننا نجد في كتب القانون العصري، وفي لغة الإعلام والثقافة والصحافة كذلك كلاماً كثيراً عن السيادة التي تنسب إلى جهات متعددة لا جهة واحدة، مما يتنافى مع الزعم بأنها سيادة مطلقة، ويوجب علينا المقارنة بينها للبحث عما يمكن أن يكون منها سيادة مطلقة، وتمييزه عن غيره مما يدخل في نطاق نوع آخر هو السيادة النسبية؛ فهناك سيادة الدولة، ويجب أن نفرق بين السيادة الخارجية، والسيادة الداخلية لكل دولة من الدول، وهناك أيضاً سيادتها الإقليمية، والسيادة الوطنية… إلخ. ويكثر الكلام عن سيادة الشعب، أو سيادة الأمة، وإلى جانب ذلك يتكلم الناس عن سيادة القانون، وسيادة الدستور.
وفوق ذلك نتكلم عن سيادة الشريعة، ومع ذلك لا ننكر سيادة القانون، إذا كانت خاضعة لسيادة الشريعة، بل اعتبرناها خطوة ضرورية وعملية لتطبيق سيادة الشريعة بإخضاع القوانين الوضعية لها واستمدادها من أصولها ومبادئها والتزامها بقيودها وأحكامها. وعندما يكون مصدر القانون هو الشريعة فإنه يكتسب صفة شرعية رغم أنه قد يوصف بأنه قانون وضعي، ولا ضرر بعد ذلك أن يصدره برلمان أو تصدره دولة أو حكومة، ما دامت تستمده من مصادر الشريعة وتلتزم بأحكامها، وهنا يتضح من كل ذلك أن سيادة الشريعة أعلى من سيادة القانون ومهيمنة عليها، بل هي مصدرها في المجتمع الإسلامي.
بل في فقه القوانين الوضعية تكون سيادة القانون نسبية لسببين:
أولهما: أنها تهيمن على أعمال الأفراد والهيئات التنفيذية والقضائية، ولكن يصعب القول بأنها تهيمن على السلطة التي تباشر التشريع؛ لأن لها الحق في تعديله وإلغائه وإصداره.
والسبب الثاني: أنه فى كثير من الدول يوجد هناك قانون أعلى يُسمى الدستور أو القانون الأساسي، الذي يُعتبر مصدر السلطات، ويهيمن على جميع أجهزة الدولة بما في ذلك الهيئة التشريعية، التي يجب أن تلتزم به لأنه هو أساس وجودها ومصدر شرعية قوانينها بالمعنى الوضعي.
وقد نتج عن ذلك أن قال البعض بأن سيادة الدستور هي السيادة المطلقة، لأنه يصدر مباشرة عن السلطة الدستورية التي تنسب إلى الشعب بطريق الاستفتاء، أو بطريق جمعية تأسيسية منتخبة. ومع ذلك فيوجد فقهاء كثيرون ينكرون على الدساتير سيادتها المطلقة لأنها يجب أن تتقيد بالمبادئ العليا الأساسية التي تحمي حريات الأفراد وحقوق الإنسان. والتي تستمَد مما يسمونه القانون الطبيعي أو المبادئ الإنسانية العليا، وما نسميه نحن (الشريعة الإسلامية).
سيادة الشعب
كثيرون هم الذين يتكلمون عن سيادة الشعب، ولكنهم لا يتفقون في أهدافهم ولا في الأسس التي يبنون عليها ادعاءهم؛ فالأفراد الذين يشكون من استبداد الحكام أو طغيانهم يريدون أن تكون هناك سلطة أعلى من سلطة الدولة والحكومة.. تقيد من سلطاتها وتحكم تصرفاتها، فيلجأون للسيادة الشعبية لتقوم بدور حماية الحريات الفردية والحقوق الإنسانية من الاستبداد والطغيان. لكن هذا الهدف السامي يضيع في زحمة المزايدات التي يلجأ إليها كثير من الحكام الذين يرفعون أصواتهم بالمناداة بالسيادة الشعبية لأنهم يعتبرون أنفسهم متكلمين باسم الشعب، ويمارسون سيادته ويفرضون بها كل ما يريدون من أسباب الفساد والعبث والطغيان، حتى اشتهر المثل القائل: كم من الجرائم تُرتكب باسم الشعب، وكم من جرائم تُرتكب باسم الدفاع عن حقوق الشعب أو مصالحه ممن ينصبون أنفسهم متكلمين باسمه ويدّعون أنهم مفوضون لممارسة سيادته.
إن الذين يلحون فى القول بأن سيادة الشعب أو الأمة مطلقة، يهدفون بذلك إلى جعلها فوق سيادة الدولة وسلطة الحكومات وتمكين الشعوب بها من تقييد صلاحيات الدولة وسلطاتها بحدود دستورية صادرة عن إرادة الشعب أو الأمة، ومعنى ذلك أن البحث فى سيادة الشعب والأمة هو نفس البحث في سيادة الدستور. ولكن هناك دولاً كثيرة لا تكون لها دساتير أو قوانين أساسية، ويرى البعض أن أشهر نموذج لها هو بريطانيا العظمى لأنها ليس لها دستور مكتوب، فالذى يمثل الشعب أو الأمة هو البرلمان، ولم توجد بها هيئة تأسيسية ولا سلطة دستورية غيره، ولذلك وجد المثل السائر الذي يقول بأن البرلمان الإنجليزي يملك أن يقرر بطريق التشريع كل شيء إلا شيئاً واحداً، هو أن يحول الرجل إلى امرأة. ومن الناس من أصبح يشك فى هذا الاستثناء أيضاً بعد ما قيل عن إباحة اللواط والزواج المزعوم بين المصابين بالشذوذ الجنسي.
ولا شك أن الجميع يسلّمون بأن التشريع هو التعبير الأساسي عن السيادة، وكل ما هنالك أن البعض يحاول أن يفرق بين التشريع الأعلى -أي القانون الأساسي أو الدستوري- الذي يعتقدون أنه يعبر عن السيادة المطلقة، والتشريع العادي أو الأدنى الذي يعبر عن السيادة المحدودة، ولكن وصف سيادة الدستور بأنها مطلقة يقوم على الظن بأنه لا توجد سلطة أعلى من الهيئة الدستورية، وهو ظن لا يسلّم به كثير من العلماء المعاصرين، فضلاً عن فقهاء الشريعة الإسلامية.
سيادة الشريعة ومصدرها السماوي
إن الذين يتكلمون عن سيادة الشريعة يضعونها فوق التشريع الوضعي، سواء كان في صورة قوانين أساسية أو دستورية أو قوانين عادية، أو نُظم، وبذلك تكون هي صاحبة السيادة المطلقة، ويصبح الدستور كأي تشريع وضعي آخر في مرتبة أدنى، وتكون سيادته -إن وُجدت- نسبية محدودة بحدود الشريعة.
وبما أن الشريعة ذات مصدر سماوي -لأنها شريعة الله سبحانه وتعالى- فإنها تصبح مظهر السيادة الإلهية، وبذلك نصل إلى ما قاله كثير من العلماء، من أن السيادة لله وحده. ويقصد بذلك أن الله سبحانه هو وحده صاحب السيادة المطلقة والكلمة العليا، وإرادته هي المرجع الأسمى.
أما ما يُنسب إلى البشر من أي صنف كانوا، وبأى صفة عملوا، فلا يمكن أن يكون سيادة مطلقة بأي حال من الأحوال، وإذا كان لابد من نسبة السيادة إلى جماعة أو هيئة من البشر، فلابد من التأكيد على أنها سيادة نسبية محدودة بحدود الشريعة الإلهية، ولا يمكن بحال من الأحول أن تكون بغير حدود ولا قيود، ولا يمكن أن يُعنى بها السلطة المطلقة.
وبذلك نصل إلى الغاية التي يسعى لها العالم في العصر القديم والحديث، وهي سدّ الطريق أمام السلطة المطلقة التي يدعيها فرد أو هيئة إنسانية في هذا العالم، وحماية الشعوب والأفراد من طغيان الحكام واستبدادهم، وذلك بإعمال المبدأ الذي قرره فقهاؤنا، وهو أن السلطة المطلقة والسيادة المطلقة تتركز في يد الله سبحانه وتعالى، خالق الكون وبارئه ومدبره ومسيره، وخالق البشر ومصورهم ومعبودهم، لا إله إلا هو، وبذلك يكون فقهاء الإسلام قد حرموا نسبة السلطة المطلقة لأي مخلوق لأنها من مستلزمات الألوهية وخصائصها، وادعاؤها هو ادعاء للألوهية، والتسليم بها نوع من الشرك أو الوثنية التي جاء الإسلام لتحرير البشر منها، فأخرج الناس بذلك من عبادة البشر إلى عبادة الله وحده لا إله إلا هو.
ولقد أشار إلى هذا المبدأ أستاذنا السنهوري في بحثه عن الخلافة (بند ٦ ص۱۸) مستشهداً بأقوال كثير من علماء الإسلام، وخاصة السيد عبد الرحيم في كتابه (مبادئ الفقه الإسلامي) وعبر بما يأتي:
“إن روح التشريع الإسلامى تؤكد أن السيادة بمعنى السلطة المطُلَقة غير المحدودة لا يملكها أحد من البشر. وكل سلطة إنسانية محدودة بالحدود التي فرضها الله لأنه وحده صاحب السيادة العليا ومالك الملك.. ومظهر السيادة الإلهية والتعبير عنها هو كلام الله المنزل في القرآن الكريم وسنة الرسول المعصوم الملهم”.
والتوضيح الأخير يشير إلى مبدأ ختم الرسالة الذي يعتبر أهم ركائز العقيدة الإسلامية، ويقفل الباب نهائياً أمام كل مَن يزعم لنفسه الحق في التعبير عن السيادة الإلهية أو السلطة المطلقة بعد وفاة خاتم الأنبياء والمرسلين. وهو أكبر سلاح زود به الإسلام أمته لمقاومة أدعياء الألوهية أو النبوة أو السيادة بعد محمد ﷺ؛ لأن وفاته قطعت عن العالم خبر السماء كما قال عمر بن الخطاب، وأصبح القرآن الكريم والسنة المحمدية هما التعبير الوحيد الخالد عن إرادة الله وشريعته، وكل ما يكملهما من اجتهادات بشرية أو إجماع أو ما يماثل ذلك، إنما يكون علماً وفقهاً أو تشريعاً ثانوياً خاضعاً للأصول والمبادئ والقيود والحدود المستمدة من القرآن الكريم وأوضحتها السنة المطهرة.
من أجل ذلك كان حفظ القرآن وخلوده من أهم الأصول الإسلامية التي تعهّد بها الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَـٰفِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
وكان من أهم أصول التربية والثقافة الإسلامية هو حفظ القرآن الكريم وتلاوته؛ لأنه الدستور الأسمى للبشرية، الصادر عن صاحب السيادة العليا سبحانه وتعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. توفيق الشاوي، سيادة الشريعة الإسلامية في مصر، ط1 (القاهرة: الزهراء للإعلام العربي، 1987م)، ص81 وما بعدها.