الحياة في سبيل الله
سبتمبر 8, 2024الأثر العميق للحضارة الإسلامية في شبه القارة الهندية
سبتمبر 10, 2024بقلم د. حسن سلمان (عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ)
ثانياً: الرؤية العقدية والفلسفية للسياسة الدولية في الإسلام
ترتكز المنظومات السياسية المحلية والدولية على منظور فلسفي وتصور عقائدي يحكم حركتها ويحدد قيمها ويضبط مسارات عملها، حتى ولو ادعت بأنها متحررة من قيود الأيدولوجيا وأحكام الأديان، ومحكومة بمنطق المصالح المحضة، وإذا كان الأمر كذلك فإن العلاقات الدولية أو الكونية والإنسانية في الإسلام ترتكز على تصور عقدي عمادُه الرسالة الهادية المعبرة عن مراد الله تعالى في الوجود البشري والطبيعي والذي هو: (حاكمية الكتاب).
فهو خطاب يحمل رؤية متعالية خارج منظومة الصراعات والحظوظ البينية للخلق ليفصل بين النزاعات ويقسم الحقوق بعيداً عن منطق الأقوياء والضعفاء، والأقليات والأكثريات، أو الانتماءات الأرضية المختلفة، وترتكز الرؤية الإسلامية للعلاقات الدولية على ثلاثة مرتكزات أساسية تحكمها، وهي:
1- وحدة الدين وحرية العقائد
الإسلام ينطلق في رؤيته للوجود بأن لهذا الكون خالقاً مدبراً مريداً حاكماً، وله غاية وحكمة من خلقه للوجود، وهذه الغاية هي التعرف عليه والخضوع لأمره وعبادته، الواحد الأحد دون شريك، وأنه لا مجال للعبثية والعدمية والجهالة في المسيرة والمصير، ولأجل ذلك بعث الله الرسل وأنزل الكتب هادية للناس ومبينة لهم طرائق العيش في الدنيا وسبيل الفوز في الآخرة، وعليه فإن التوحيد هو الفكرة المركزية في طبيعة الدين المنزل، وهي الجامعة بين الرسالات كافة وموحدة لأصولها ومصدرها.
وهذا الدين الواحد هو الإسلام الذي يدعو الناس جميعاً إلى توحيد الخالق ووحدة الأصل البشري، وإن تعددت شرائعه ونِحَله، وفي أي علاقة خاصة أو عامة يُراعَى هذا الأصل العظيم الذي يخاطب البشرية كافة دون حواجز مانعة من التوحد تحت راية التوحيد، التي تتلاشى معها كافة أشكال الطبقية والتفاوت والاستعلاء والاستكبار في الأرض.. قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلدِّینَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَـٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۗ وَمَن یَكۡفُرۡ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ﴾ [آل عمران: ١٩]، وقال تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحࣰا وَٱلَّذِیۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ وَمَا وَصَّیۡنَا بِهِۦۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَمُوسَىٰ وَعِیسَىٰۤ أَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِیهِۚ كَبُرَ عَلَى ٱلۡمُشۡرِكِینَ مَا تَدۡعُوهُمۡ إِلَیۡهِۚ ٱللَّهُ یَجۡتَبِیۤ إِلَیۡهِ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَن یُنِیبُ﴾ [الشورى: 13].
وهذا يعني الالتقاء على كلمة سواء وهي كلمة التوحيد والإيمان ومفارقة الشرك والكفر، وترك كافة أشكال العلو في الأرض المانعة من الاستخلاف وعمارة الأرض، والمناقضة لمقصود الشارع في الوجود.. قال تعالى: ﴿قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ كَلِمَةࣲ سَوَاۤءِۭ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمۡ أَلَّا نَعۡبُدَ إِلَّا ٱللَّهَ وَلَا نُشۡرِكَ بِهِۦ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَتَّخِذَ بَعۡضُنَا بَعۡضًا أَرۡبَابࣰا مِّن دُونِ ٱللَّهِۚ فَإِن تَوَلَّوۡا۟ فَقُولُوا۟ ٱشۡهَدُوا۟ بِأَنَّا مُسۡلِمُونَ﴾ [آل عمران: ٦٤].
ولكن الواقع البشري نجده بخلاف ذلك؛ فالناس عملياً لا يتفقون على توحيد الله تعالى والتزام شرعه، وبهذا يحصل التفرق في الدين، وبالتبع التفرق في السياسة داخلياً وخارجياً، ومع ذلك يظل الإسلام متمسكاً بوحدة الدين الرباني المقبول (دين الحق) ولكنه يقر بتعددية العقائد والأفكار وتعددية الأمم كذلك، لأنه لا يحمل الناس على الإكراه في الدين، وتنشأ بذلك رؤيته القائمة على الأمة ذات الرسالة الواحدة وهي الأمة المسلمة وولايتها على نفسها في الأرض التي تخضع لسلطانها، وتحكم فيها شريعتها وتسمى دار الإسلام، وفي مقابلها تكون دور الكفر بغض النظر عن موقفها من الإسلام والمسلمين حرباً وسلماً.
وهنا نشير إلى أن الإسلام يعتمد منظور الأمة باعتبارها الوحدة التي يدرس من خلالها السياسة الداخلية والعلاقات الخارجية، ولا يعتمد منظور الدولة القطرية أو القومية، حتى ولو تعامل معها اضطراراً في طريق الانتقال للمنظور الأممي في العلاقات الدولية أو الكونية، ويتعامل مع هذا التعدد الديني والتنوع العقدي بأنه ابتلاء يجب تجاوزه نحو التوحيد والوحدة والإخاء الإيماني المحقِّق للاستخلاف والعمران، من خلال التعارف والتعاون على الخير العام والمدافعة لمنع الشر والعدوان.
2- وحدة الجنس البشري
الإسلام يقرر بأن البشرية كلها من أصل واحد، وهو آدم عليه السلام الكائن من طين وتراب، وهذا الأصل تفرع عنه زوجه، ومن الزوجين تكاثرت البشرية شعوباً وقبائل، ووحدة الأصل الإنساني يلغي كافة نظريات النقاء والاستعلاء العرقي والاستحقاق المبني على ذلك، فلا تفاضل بين الشعوب والأفراد إلا بمعيار شرعي، وهو التقوى، الذي يمكن لكل مكلف السباق في مضمارها من خلال الصلاح الذاتي والإصلاح المجتمعي، قال تعالى: ﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُوا۟ رَبَّكُمُ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسࣲ وَ ٰحِدَةࣲ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالࣰا كَثِیرࣰا وَنِسَاۤءࣰۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ٱلَّذِی تَسَاۤءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَیۡكُمۡ رَقِیبࣰا﴾ [النساء: 1].
والنص القرآني يقرر وحدة الأصل البشري ووحدة الخالق الذي ينتمي إليه الخلق جميعاً، ولزوم تقواه برعاية الحقوق والتزام الحدود وترك البغي والعدوان، مهما تنوعت دوافعه، وبما أنهم جاؤوا إلى الوجود والحياة على وجه هذه الأرض بإرادة الله تعالى الكونية والخلقية فإنه يجب عليهم التزام إرادته الشرعية في كيفية العيش لتحقيق الاستخلاف المراد، وبهذا يتجاوز كافة النظريات السائدة في العلاقات الدولية والمنطلقة من المنطلقات القومية والعنصرية والمصلحية؛ لأنها تهدم وحدة الأصل البشري وتغيب معها المسؤولية الأخلاقية تجاه خالق الوجود، ومع غياب هذا المنطلق تنحرف العلاقات الإنسانية وتؤسس على مفاهيم وقيم بعيدة عن الهدي الراشد والفطرة السليمة التي فطر الله تعالى الناس عليها.
وبالتالي فإن الوضع الطبيعي للإنسان هو الاعتراف بالخالق وهداياته للبشرية، والتفاعل معه توحيداً لله تعالى ووحدة مع سائر البشر، خلافاً للنظريات الوضعية التي تعتبر الوضع الطبيعي هي حالة الجهالة والقطيعة مع الله والوحي المنزل، مخالِفةً بذلك فطرة الله التي فطر الناس عليها. ولهذا فالتاريخ البشري بحسب السردية القرآنية هو تاريخ أديان اتفاقاً واختلافاً، وأن الاختلاف في أصله مع العلم المنزل من الله تعالى بغياً بين الناس واتباعاً للأهواء البشرية.. قال تعالى: ﴿كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مُبَشِّرِینَ وَمُنذِرِینَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ فِیمَا ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِیهِ إِلَّا ٱلَّذِینَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُ بَغۡیَۢا بَیۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَا ٱخۡتَلَفُوا۟ فِیهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمٍ﴾ [البقرة: 213].
وخلاصة القول: إن وحدة الأصل البشري تعد من أهم أصول ومرتكزات العلاقات الدولية، والسياسة الخارجية هي امتداد للسياسة الداخلية، والتي مبناها على السلوك الإنساني صلاحاً وفساداً، وإن الصراعات الخارجية في أساسها تعود للنفس البشرية وما فيها من خير أو شر، وبالتالي فصلاح العلاقات واستقامتها يعود لصلاح الإنسان القائم عليها، ولذا فالسياسة الإسلامية داخلية كانت أم خارجية قوامها الأخلاق؛ فهي سياسة أخلاقية، وتصادِم بطبيعة الحال السياسة غير الأخلاقية ذات الطابع العرقي العنصري المصلحي، وتنشأ بالتالي الصراعات الدولية العدوانية الباغية.
3- الانتفاع بخيرات الأرض المشتركة
يقرر الإسلام وحدة الوظيفة الإنسانية وغاية وجود الكائن البشري على وجه الأرض، وهي الاستخلاف.. قال تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ إِنِّی جَاعِلࣱ فِی ٱلۡأَرۡضِ خَلِیفَةࣰۖ قَالُوۤا۟ أَتَجۡعَلُ فِیهَا مَن یُفۡسِدُ فِیهَا وَیَسۡفِكُ ٱلدِّمَاۤءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّیۤ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ﴾ [البقرة:٣٠]، ودلالات الخليفة تأتي بمعنى النيابة عن الغير أو الوكالة عنه، وجمْعها خلائف أو خلفاء، وهم مَن يتلو بعضهم بعضاً، أي التالي واللاحق الذي يأتي بعد آخر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَـٰكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ لِنَنظُرَ كَیۡفَ تَعۡمَلُونَ﴾ [يونس: ١٤].
والتأسيس المعرفي لهذا الأمر بهذه الصورة يعيدنا للرؤية الغيبية، والاستناد على الوحي في معالجة العلاقات الإنسانية، وأن العقل والعلم وحده لن يقيم علاقات راشدة وحاسمة للنزاعات؛ لأن تحديد الخير والشر والصلاح والفساد لا يدخل تحتهما، بل هو مما تتفاوت فيه الأنظار وتتباين فيه الرؤى والأفكار، فكان لا بد من منظور متعالٍ يفصل بين الناس ويحكم بينهم باليقين لا بالظن والوهم، ولن يمتلك الإنسان اليقين في الأحكام الخارجة عن مجال العلم والعقل إلا بالوحي وهداياته المنزلة، لأن الله تعالى كلي العلم وكلي الخير؛ فشريعته صادرة عن علم وحكمة ومريدة للخير ومصالح العباد في العاجل والآجل.
ولكن ثبت بالتجربة والواقع بأن الناس لا يسلمون بالوحي بل يختلفون حوله كثيراً بين مؤمن به وكافر، وبطبيعة الحال سيكون الاختلاف حول أنماط الاستخلاف البشري، بين استخلاف قائم على الحق والعدل والهدي الرباني وبين استخلاف قائم على الهوى والنظر الوضعي بدوافعه المختلفة، كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِی جَعَلَكُمۡ خَلَـٰۤىِٕفَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ فَمَن كَفَرَ فَعَلَیۡهِ كُفۡرُهُۥۖ وَلَا یَزِیدُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ كُفۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡ إِلَّا مَقۡتࣰاۖ وَلَا یَزِیدُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ كُفۡرُهُمۡ إِلَّا خَسَارࣰا﴾ [فاطر: 39].
والإسلام وهو ينطلق من وحدة الأصل البشري ووحدة وظيفته في الاستخلاف والعمران انطلاقاً من الوحي والهدايات الربانية، يتعامل مع التباينات والاختلافات الفردية والمجتمعية والأممية، وينظمها تنظيماً يحقق المصالح المشتركة بين البشر، وهذه الشراكة الكونية لإعمار الأرض ينطلق فيها الإسلام من منظور قيمي يتيح للإنسان السعي لصلاح حاله في دينه ودنياه، وفي حالة خروج البعض وانحرافه عن الاجتماع الإنساني الراشد المؤسس على الهدايات الرسالية يبقى منطق المدافعة الكونية بين الأمم، تدافعاً يمنع التهارج والفساد، ويحقق صلاح العمران والإنسان بحسب الإمكان، ابتداءً من الكلمة والجدال بالحسنى والمتاركة والصبر والعفو والهجر الجميل، وانتهاءً بالحرب والقتال المانع من الإثم والعدوان وفساد العمران.. قال تعالى: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِیهَا فَٱسۡتَغۡفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوۤا۟ إِلَیۡهِۚ إِنَّ رَبِّی قَرِیبࣱ مُّجِیبࣱ﴾ [هود: 61].
وخلاصة القول فإن الشراكة الكونية التي يسعى لها الإسلام لكافة البشرية، ترتكز على منظومة قيم الحق والعدل والخير والجمال، بما يؤدي لصلاح الإنسان والعمران موصولاً بالله تعالى، ومتعاوناً مع بقية البشر على ما ينفعهم ويحقق لهم الحياة الطيبة.