
إنما النصرُ صَبرُ ساعةٍ – وتحررت أرض الشام المباركة
يناير 14, 2025
منهج النسبية في الدعوة
يناير 14, 2025الشيخ حسن شباني – سفير هيئة أنصار النبي ﷺ في كندا
الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين وبعد:
فقصة هذه الأرض المباركة في السُنّة النبويّة بدأت في عهدِ رسُولِ الله ﷺ، عندما كان المسلمُون محاصرين من جميع الجهات داخل مدينتهم في السنة الخامسة بعد الهجرة النبويّة.
في شهر شوّال من ذلك العام، اجتمعت قبائل الجزيرة العربية وأحزابها للقضاء على الدّولة الإسلامية الوليدة، فقرّرَ المسلمُون حفرَ خندقٍ حول المدينة لمنع الأعداء من دخولها بسهولة ويسر. فقد روى البراء بنُ عازب رضي الله عنه قال: لما كان حيث أمَر النبيّ ﷺ بحفر الخندق، عرضت لنا صخرة في بعض الخندقِ، لا تأخذُ فيها المَعَاول، فاشتكينا إلى رسُولِ الله ﷺ، فجاءنا فأخذ المعول فقال: “بسم الله”، فضربها ضربة فكسر ثلثها وقال: “الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشّام، والله إنّي لأبصرُ قصورها الحمر السّاعة…”.
والناظرُ في هذا الحديث قد يستغربُ كلام الرسُول ﷺ عن فتُوحات الشّام وغيرها من البلدان وهو يواجه مع أصحابه حصاراً شديداً، لا يستطيع الواحد منهم بسببه أن يتنقل بحريّة ليقضيَ حاجته أو يحصل على طعام يسدُّ به رمقه، ولكنَّ الحبيب ﷺ أرادَ أن يبشِّرَ المسلمين بفتوحاتهم في المستقبل القريب لكي يزرع الأمل في قلوبهم، ويحثّهم على التفاؤل بالخير في أصعب الأوقات وأشدّها حلكة، فصدَّقهُ المؤمنون وسخِرَ من بشاراته المنافقون، ثم استمرَّ على هذا النّهجِ يبشِّرُ بفتح بيت المقدس تارةً أو دمشق تارةً أخرى، وأكثَرَ ﷺ من الحديث عن الشّام وأهله، حتى أنَّ الواحد إذا لم يكن عارفاً بتاريخ الفتوحات أو تسلسل الأحداث قد يظنُّ أنَّ الشام في ذلك الوقت كانت أرضاً مسلمة أو أنّ أهلها كانوا مسلمين. والحقيقة أنّ المسلمين لم يتمكنّوا من فتح بلاد الشّام إلا في عهد عمر بن الخطّاب رضي الله عنه.
فكيف يتحدّثُ نبيُّ الإسلام ﷺ بهذه الثقة العالية والقناعة المتناهية عن أخبار الشّام وأهلها في ذلك الزمن وهم لم يدخلوا في الإسلام بعد؟ والجواب: واحدٌ لا ثاني له، إنّها النبوّة. فأخبار الشام وأحاديثها من أعظم دلائل نبوّتِهِ وصحة رسالته ﷺ.
ولأحاديث الشام دلالات أخرى ينبغي أن ينتبه إليها أهل الشام خاصة والدّارسون للسنّة عامةً.
فهي تبشّرُ أهل الشّام بالظهور والثباتِ على الحقِ خاصّة في آخر الزمان ببقاء الطائفة المنصورة إلى قيام السّاعة، إذ يكاد علماء الإسلام أن يُجمِعُوا على أنَّ هذه الطائفة سوف توجد في أرض الشام آخر الزّمان.
فمن هذه الأحاديثُ قوله ﷺ في آخر حديث طويل رواه سلمةُ بن نفيل رضي الله عنه: “وعقرُ دار المؤمنين الشام”.
والعُقرُ أصلُ كلِّ شيء، والعقرُ من الدار وسطها، ومن معانيه أنّه محلّةُ القوم ودارهُم التي يُقيمُون فيها.
ومنها أيضا: أنَّ فسطاط المسلمين وقتَ الملاحم سوف يكُونُ بأرضٍ يقالُ لها (الغوطة) في أرض الشام. فقد روى أبوداود في سننه أنّ أبا الدرداء رضي الله عنه قال: قال النبيُّ ﷺ: “إنّ فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقالُ لها دمشق، من خير مدائن الشّام”.
والعجيبُ فيه هذه الرواية أنّ الرّسُول ﷺ لم يكتفِ بذكر منطقة الشام عامةً، ولكنّهُ تجاوزها إلى ذكر المدُنِ وما حولها من المناطق، وبذلك تكُونُ هذه التفاصيلُ الدّقيقة دليلاً قاطعاً على صدق نبُوَّتِهِ ﷺ.
ومن هذه الأحاديث ما رواه التّرمذي وأحمد من حديث قرة بن إيّاس المزني رضي الله عنه أنّ النبيَّ ﷺ قال: “إذا فسد أهلُ الشّام فلا خيرَ فيكم. لا تزَالُ طائفةٌ من أُمّتي منصورين لا يضُرُّهم من خذلهم حتّى تقوم السّاعة”.
وهذا الحديثُ يحملُ دلالاتٍ عظيمة لأهل الشّام، فمثلُ هذه النُصوص قد منحت أهل الشام شرفا عظيما ومنقبة عالية، فهي تدلُّ بمنطوقها على أنَّ فساد أهل الشّام علامةٌ على فسادِ أُمّةِ محمد ﷺ ولكن تدُلُّ بمفهومها على أنّ صلاح أهل الشام دليل على كثرة الصلاح والخيرية في أمة محمد (ﷺ) وبالتّالي فهم يتحمّلون مسؤولية عظيمة بالمقارنة مع بقية شُعوبِ الأمّة المسلمة. وينبغي لعقلاء الشّام وصالحيهم أن ينتبهوا إلى هذه المسؤولية العظيمة الملقاة على عاتقهم، فبصلاحهم تصلحُ الأمّةُ ويزدادُ منسوبُ الخيرية فيها.
إضافةً إلى هذه الدلالات، تضمن الحديث بشارة عظيمة وهي أنّه مهما كثر الفساد واستفحل في هذه الأمة، فستبقى طائفة منصورة تدَافعُ عن الحق، ترفع رايته وتحمي حياضه، لا يضرُها كيد الأعداء ولا تخاذل الأصدقاء، ماضية في سبيل نصرة الدّين والحفاظ على سننه وشرائعه، لا تتنازل عن المقدسات ولا تتاجر بمصالح الأمة الحيوية حتّى تقوم الساعة.
وبشارات النّصر والتمكين والثبات، قد يشتركُ فيها كثيرٌ من المسلمين، إلا أنّ لأهل الشام الحظ الأوفر والنصيبَ الأوفى منها، وهذا ما أكدّت عليه نصوصُ السنّةِ النبويّة، منها ما رواه مسلم في صحيحه من حديث سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ ﷺ قال: “لا يزالُ أهلُ الغربِ ظاهرين على الحقّ حتى تقوم السّاعة”.
لقد تعددت تفاسيرُ لفظ “الغرب” في هذا الحديث، ولكنَّ أقربها إلى الصّوابِ أنّهم أهل الشام، فالغربُ يُقصدُ به غربُ (المدينة النبويّة)، والعلماء المتقدّمُون قديماً كانُوا يقولُون: كل ما هو غرب الفراتِ هو واقعٌ غرب (المدينة)، وما هو شرقُ الفراتِ يقعُ شرق المدينة النبويّة.
وينسبُ هذا القول إلى الإمام أحمد رحمه الله، ووافقه شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذلك العلامة ابن حجر العسقلاني، وغيرهم.
والخلاصة
أن أحاديث الشام في مجملها تدل على المعاني التالية:
رغم انتشار الفساد داخل أوساط المسلمين في آخر الزمان، سوف تبقى طائفة منصورة على الحق إلى قيام الساعة، وأن هذه الطائفة ستكون في الشام في آخر الزمان، وهذا فيه تشريف لأهل الشام وفي الوقت نفسه تحمّلهم هذه الأحاديث مسؤولية كبيرة في القيام بالإصلاح والثبات على الدين؛ حتى يكونوا قدوة لغيرهم من أبناء الأمّة الإسلامية.