جدار الذل والعار
مايو 20, 2024زيارة ووداع إلى القدس
مايو 20, 2024أرض الميعاد (بالعبرية: הארץ המובטחת): «الأرض» هي المقابل العربي لكلمة «هأرص» العبرية التي ترد عادةً في صيغة «أرص يسرائيل» أي «أرض إسرائيل». فهي «أَرْض الله» (هوشع 3:9)، وهي الأرض التي يرعاها الإله (تثنية 12:11)، ثم هي الأرض المختارة، وصهيون التي يسكنها الله، والأرض المقدّسة (زكريا 12:2) التي تفوق في قدسيتها أيّ أرض أخرى لارتباطها بالشعب المختار.
وقد جاء في التلمود: “وَالآتِي عَلَيْهِ يَفْعَلُ كَإِرَادَتِهِ وَلَيْسَ مَنْ يَقِفُ أَمَامَهُ، وَيَقُومُ فِي الأَرْضِ الْبَهِيّةِ وَهِيَ بِالتّمَامِ بِيَدِهِ”. (دا 11: 16). وهي كذلك «الأَرْضِ الْبَهِيّةِ» (دانيال 16:11).
ويعتقد اليهود أنها الأرض التي وعد الله بها نبيه يعقوب (إسرائيل). الوعد كما في التوراة كان أولاً لإبراهيم، عليه السلام، وتجدد العهد بعد ذلك إلى ابنه إسحاق، وإلى يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، عليهم جميعاً الصلاة والسلام.
وأسندت أرض الميعاد لأولادهم، وكان وصفها في شروط من الأراضي من نهر النيل إلى نهر الفرات.
ويعتقد اليهود أن الله تعالى وعد إبراهيم عليه السلام، وعاهده على أن تكون هذه الأرض لنسله. فهي «أرض الميعاد» التي سيعود إليها اليهـود تحـت قيادة المشيَّح (المسيح المخلص)، أي الأرض التي سـتشهد نهاية التاريخ.
فيعتقد اليهود أن أرض إسرائيل هي مركز الدنيا لأنها توجد في وسط العالم، تماماً كما يقف اليهود في وسط الأغيار، وكما يشكل تاريخهم المقدّس حجر الزاوية في تاريخ العالم، وتماماً كما تشكل أعمالهم حجر الزاوية لخلاص العالم.
وقد ذُكر هذا في عدة مواضع من التوراة، ففي سفر التكوين 12: 1-5:
وَقَالَ الله لأَبْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. 2 فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. 3 وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ».
وفي سفر التكوين 12: 14-15:
14 وَقَالَ الله لأَبْرَامَ، بَعْدَ اعْتِزَالِ لُوطٍ عَنْهُ: «ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ شِمَالاً وَجَنُوبًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا، 15 لأَنَّ جَمِيعَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ تَرَى لَكَ أُعْطِيهَا وَلِنَسْلِكَ إِلَى الأَبَدِ.
وقال أيضاً له سفر التكوين 15: 7:
قَالَ لَهُ: «أَنَا الله الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هذِهِ الأَرْضَ لِتَرِثَهَا».
وفي سفر التكوين 15:18-21: حدود أرض الميعاد هو توضيح لأراضي الشعوب القديمة المختلفة، على النحو التالي:
“وفي ذلك اليوم قطع الله مع ابرام عهداً، وقال: “لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات-أرض القينيين، القنزيين، القدمونيين والحثيين والفرزيين والأموريين والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين”.
ويقال إن الآية لوصف ما يعرف “حدود الأرض”؛ ففي التقاليد اليهودية تحدد هذه الحدود إلى أقصى حدود الأرض الموعودة لنسل إبراهيم من خلال ابنه إسحاق وحفيده يعقوب. وأكد الوعد ليعقوب، عليه السلام، في سفر التكوين 28:12-15.
ويصدق ذلك أيضاً قول الله تعالى: ﴿وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِیكُمۡ أَنۢبِیَاۤءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكࣰا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ یُؤۡتِ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ * یَـٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ * قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّ فِیهَا قَوۡمࣰا جَبَّارِینَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَ ٰخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِینَ یَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمَا ٱدۡخُلُوا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ * قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَاۤ أَبَدࣰا مَّا دَامُوا۟ فِیهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّی لَاۤ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِی وَأَخِیۖ فَٱفۡرُقۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَیۡهِمۡۛ أَرۡبَعِینَ سَنَةࣰۛ یَتِیهُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِۚ فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ﴾ [المائدة: 20-26].
الرد على هذه الشبهات
أما أن الله تعالى وعد إبراهيم، عليه السلام، واصطفاه وجعله خليله، فهذا مما لا شك فيه، عندنا معشر المسلمين، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَـٰتࣲ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامࣰاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّیَّتِیۖ قَالَ لَا یَنَالُ عَهۡدِی ٱلظَّـٰلِمِینَ﴾ [البقرة: ١٢٤].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: “يقول تعالى منبهاً على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماماً للناس يُقتدَى به في التوحيد، حتى قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي، ولهذا قال: ﴿وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ رَبُّهُۥ﴾ أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها، وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم، أي: اختباره له بما كلّفه به من الأوامر والنواهي فأتمهن، أي: قام بهن كلهن.
كما قال تعالى: ﴿وَإِبۡرَ ٰهِیمَ ٱلَّذِی وَفَّىٰۤ﴾ [النجم: 37]، أي: وفّى جميع ما شُرع له، فعمل به صلوات الله عليه، وقال تعالى: ﴿إِنَّ إِبۡرَ ٰهِیمَ كَانَ أُمَّةࣰ قَانِتࣰا لِّلَّهِ حَنِیفࣰا وَلَمۡ یَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ * شَاكِرࣰا لِّأَنۡعُمِهِۚ ٱجۡتَبَىٰهُ وَهَدَىٰهُ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ * وَءَاتَیۡنَـٰهُ فِی ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰۖ وَإِنَّهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ * ثُمَّ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ أَنِ ٱتَّبِعۡ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ حَنِیفࣰاۖ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾ [النحل: 120-123]، وقال تعالى: ﴿قُلۡ إِنَّنِی هَدَىٰنِی رَبِّیۤ إِلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ دِینࣰا قِیَمࣰا مِّلَّةَ إِبۡرَ ٰهِیمَ حَنِیفࣰاۚ وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ﴾ [الأنعام: ١٦١]، وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ إِبۡرَ ٰهِیمُ یَهُودِیࣰّا وَلَا نَصۡرَانِیࣰّا وَلَـٰكِن كَانَ حَنِیفࣰا مُّسۡلِمࣰا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ * إِنَّ أَوۡلَى ٱلنَّاسِ بِإِبۡرَ ٰهِیمَ لَلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُ وَهَـٰذَا ٱلنَّبِیُّ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱللَّهُ وَلِیُّ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ﴾ [ آل عمران: 67، 68 ]”.
وقد اختلف العلماء في تفسير الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل، عليه السلام؛ فقال محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن سعيد أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم. ومحاجته نمرود في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه. وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم. والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له: ﴿أسلِمْ قال أسلمتُ لربّ العالمينَ﴾ على ما كان من خلاف الناس وفراقهم.
وأما أن الله اصطفى بني إسرائيل على أهل زمانهم فأيضا هو مما لا شك فيه. فقد اصطفى الله أمة بني إسرائيل على سائر الأمم المشركة القائمة حينذاك، وجعل فيهم النبوة والكتاب والملك والشريعة، وقال عنهم: ﴿وَلَقَدِ ٱخۡتَرۡنَـٰهُمۡ عَلَىٰ عِلۡمٍ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ * وَءَاتَیۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلۡـَٔایَـٰتِ مَا فِیهِ بَلَـٰۤؤࣱا۟ مُّبِینٌ﴾ [الدخان: 32]. وقال سبحانه: ﴿یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتِیَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ وَأَنِّی فَضَّلۡتُكُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [البقرة: ٤٧]. وقال تعالى: ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقۡنَـٰهُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ وَفَضَّلۡنَـٰهُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾[الجاثية: ١٦]. وقال عز من قائل سبحانه: ﴿أَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِیكُمۡ إِلَـٰهࣰا وَهُوَ فَضَّلَكُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأعراف: ١٤٠].
وقد ظهرت بركات هذا الاصطفاء والاختيار في حياة بني إسرائيل:
أ- كثُر فيهم الأنبياء المصلحون: ﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ﴾ [الجاثية: 16].
ب- العز والتمكين بعد الذل والمهانة: ﴿وَأَوۡرَثۡنَا ٱلۡقَوۡمَ ٱلَّذِینَ كَانُوا۟ یُسۡتَضۡعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلۡأَرۡضِ وَمَغَـٰرِبَهَا ٱلَّتِی بَـٰرَكۡنَا فِیهَاۖ وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلۡحُسۡنَىٰ عَلَىٰ بَنِیۤ إِسۡرَ ٰءِیلَ بِمَا صَبَرُوا۟﴾ [الأعراف: ١٣٧]. ﴿وَإِذۡ نَجَّیۡنَـٰكُم مِّنۡ ءَالِ فِرۡعَوۡنَ یَسُومُونَكُمۡ سُوۤءَ ٱلۡعَذَابِ یُذَبِّحُونَ أَبۡنَاۤءَكُمۡ وَیَسۡتَحۡیُونَ نِسَاۤءَكُمۡۚ وَفِی ذَ ٰلِكُم بَلَاۤءࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ عَظِیمࣱ﴾ [البقرة: ٤٩].
ت- كثرة النعم عليهم. ﴿وَأَنزَلۡنَا عَلَیۡكُمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُوا۟ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ﴾ [البقرة: ٥٧]. ﴿وَإِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ فَقُلۡنَا ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنفَجَرَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَیۡنࣰاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسࣲ مَّشۡرَبَهُمۡۖ﴾ [البقرة: ٦٠].
ويزعم اليهود أنهم شعب الله المختار إلى الأبد، وأن هذا الاختيار قائم على حسن حسبهم ونسبهم ولا علاقة له بالإيمان والعمل، ويحتجون بقول التوراة: “ولكن عهدي أقيمه مع إسحاق الذي تلده لك سارة في هذا الوقت من السنة الآتية”1.
ويعتبرون هذا العهد والاصطفاء ماضياً فيهم إلى قيام الساعة. ففي نص آخر تقول التوراة: “يدعو اسمه إسحاق، وأقيم معه عهداً وأبدياً لنسله من بعده”2.
غير أن هذه الدعوى تتساقط بالحجج التالية:
هذا الوعد لذرية إبراهيم، عليه السلام، وليس فقط لذرية إسرائيل:
فإن إسماعيل، عليه السلام، سيكون أيضاً أمة عظيمة مباركة كما في التوراة: “أَمَّا إِسْمَاعِيلُ، فَقَدِ اسْتَجَبْتُ لِطِلْبَتِكَ مِنْ أَجْلِهِ. سَأُبَارِكُهُ حَقّاً، وَأَجْعَلُهُ مُثْمِراً، وَأُكَثِّرُ ذُرِّيَّتَهُ جِدّاً فَيَكُونُ أَباً لاثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً، وَيُصْبِحُ أُمَّةً كَبِيرَةً”3.
ويؤكد هذا حديث الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: “إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم”4.
لقد أوضح الله سبحانه وتعالى لإبراهيم عليه السلام أنه بنسله ستتبارك جميع أمم الأرض فقال له: “.. أباركك مباركة، وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء.. ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض”. [تك 22: 18]، وكان الله، تعالى، أيضاً قد وعد إبراهيم قبل ذلك كما في [تك 15: 1 – 6] بأن من يخرج من أحشائه هو من سيرثه، أي أن وارثه سيكون من صلبه.
لقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يظل اسم إبراهيم مباركاً إلى الأبد وأن يكون العهد بالنبوة والبركة محصوراً في ولديه إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام- لذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى لإسماعيل -كما تقول التوراة- بركة ووعوداً عظيمة، لا تقل أهمية عن الوعود التي أعطاها لإسحاق كما في النصوص التالية من التوراة:
– في سفر التكوين [17: 15]: “15وَقَالَ اللهُ لإِبْرَاهِيمَ: «سَارَايُ امْرَأَتُكَ لاَ تَدْعُو اسْمَهَا سَارَايَ بَلِ اسْمُهَا سَارَةُ. 16وَأُبَارِكُهَا وَأُعْطِيكَ أَيْضاً مِنْهَا ابْناً. أُبَارِكُهَا فَتَكُونُ أُمَماً وَمُلُوكُ شُعُوبٍ مِنْهَا يَكُونُونَ». 17فَسَقَطَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ وَضَحِكَ وَقَالَ فِي قَلْبِهِ: «هَلْ يُولَدُ لِابْنِ مِئَةِ سَنَةٍ؟ وَهَلْ تَلِدُ سَارَةُ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِينَ سَنَةً؟». 18وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلَّهِ: «لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!» 19فَقَالَ اللهُ بَلْ سَارَةُ امْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْناً وَتَدْعُو اسْمَهُ إِسْحَاقَ. وَأُقِيمُ عَهْدِي مَعَهُ عَهْداً أَبَدِيّاً لِنَسْلِهِ مِنْ بَعْدِهِ. 20وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيراً جِدّاً. اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً يَلِدُ وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً. 21وَلَكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ”.
ففي هذا الكلام نلاحظ أن إبراهيم، عليه السلام، في الفقرة 18 يطلب من الله أن يبارك إسماعيل، عليه السلام، كذلك فهو يقول لله تعالى: “لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ!” فاستجاب له تعالى، كما في الفقرة 20: “وَأَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَقَدْ سَمِعْتُ لَكَ فِيهِ. هَا أَنَا أُبَارِكُهُ وَأُثْمِرُهُ وَأُكَثِّرُهُ كَثِيراً جِدّاً. اثْنَيْ عَشَرَ رَئِيساً يَلِدُ وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً”.
إلا أن الله سبحانه، أراد أن تبدأ البركة في إسحاق، عليه السلام، أولاً، فقال لإبراهيم عليه السلام: “وَلَكِنْ عَهْدِي أُقِيمُهُ مَعَ إِسْحَاقَ الَّذِي تَلِدُهُ لَكَ سَارَةُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ”، أي أن البركة ستظهر وستبدأ مع إسحاق، لا كما فهم البعض بأن إسماعيل سيكون محروماً من الوعد والنبوة.
لذلك نجد أنه بعد ولادة إسحاق، عليه السلام، بدأت الغيرة تدب في قلب سارة، وبدأت تؤثِرُ ابنها إسحاق على إسماعيل، وتطلب من إبراهيم أن يعزل هاجر وابنها عن المشاركة في البيت.
تقول التوراة [التكوين 21: 9]: “وَرَأَتْ سَارَةُ أَنَّ ابْنَ هَاجَرَ الْمِصْرِيَّةِ الَّذِي أَنْجَبَتْهُ لإِبْرَاهِيمَ يمزح فَقَالَتْ لإِبْراهِيمَ: اطْرُدْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ وَابْنَهَا، لأن ابْنَ الْجَارِيَةِ لا يَرِثَ مَعَ ابْنِي إِسْحقَ. فَقَبُحَ الكلام جداً فِي عيني إِبْرَاهِيمَ مِنْ أَجْلِ ابْنِهِ. فَقَال اللهُ لَهُ: لاَ يَسُوءُ فِي نَفْسِكَ أَمْرُ الصَّبِيِّ أَوْ أَمْرُ جَارِيَتِكَ، وَاسْمَعْ لِكَلاَمِ سَارَةَ فِي كُلِّ مَا تُشِيرُ بِهِ عَلَيْكَ لأَنَّهُ بِإِسْحقَ يُدْعَى لَكَ نَسْلٌ. وابْن الْجَارِيَةِ أَيْضاً سأجعله أمّة لأَنَّهُ نسلك.
وهذا يصدقه ما جاء في القرآن الكريم على لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿رَّبَّنَاۤ إِنِّیۤ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیۡرِ ذِی زَرۡعٍ عِندَ بَیۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم: ٣٧].
وتقول التوراة إن إسماعيل سكن في برية فاران، إذ يقول سفر التكوين [21: 17-21]: “وَسَمِعَ اللهُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: مَا الَّذِي يُزْعِجُكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ بُكَاءَ الصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ مُلْقًى. قُومِي وَاحْمِلِي الصَّبِيَّ، وَتَشَبَّثِي بِهِ لأَنَّنِي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً. ثُمَّ فَتَحَ عَيْنَيْهَا فَأَبْصَرَتْ بِئْرَ مَاءٍ، فَذَهَبَتْ وَمَلأَتِ الْقِرْبَةَ وَسَقَتِ الصَّبِيَّ. وَكَانَ اللهُ مَعَ الصَّبِيِّ فَكَبُرَ، وَسَكَنَ فِي صَحْرَاءِ فَارَانَ، وَبَرَعَ فِي رَمْيِ الْقَوْسِ. وَاتَّخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ مِصْرَ”.
وبذلك يظهر لنا بطلان تمسك أهل الكتاب بقول سارة: (اطرد هذه الجارية وابنها..)، دليلاً على أن إسماعيل، عليه السلام، لا يرث النبوة.
وبحسب ما ورد في تكوين [21: 17] فإن إسماعيل قد تميز بأن الله قد سمع صوته فيعتبر إسماعيل ابن الصلاة: “فسمع الله صوت الغلام”، وبحسب ما ورد في تكوين [21: 18] فإن الله تعالى قال لهاجر: “قومي احملي الغلام وشدي يدك به، لأني سأجعله أمة عظيمة”.
لقد ولد إسماعيل بحسب التوراة عندما بلغ إبراهيم من العمر ستة وثمانين سنة (تك 16:16) وعندما بلغ إسماعيل سن الثالثة عشر خُتن (تكوين 17: 10- 25) وبهذا الختان يكون إسماعيل قد اشترك في العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم أبيه: “هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك: يُختن منكم كل ذكر فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم”. (تكوين 17: 10) وقد زاد من أهمية إسماعيل أن إبراهيم اختتن معه في يوم واحد (تكوين 17: 26) وأنه بإسماعيل قد تم تنفيذ عهد الختان.
لقد بات واضحاً الآن بأن إسماعيل عليه السلام موعود من الله بالآتي:
1- البركة [17: 20]: “هَا أَنَا أُبَارِكُهُ”. مع تذكرنا قول الرب لإبراهيم: “ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض” [تك 22: 18] وقوله: “وابْنِ الْجَارِيَةِ أَيْضاً سأجعله أمة لأَنَّهُ نسلك” [تك 21: 13].
2 – سيجعله أمة كبيرة [تك 17: 20]: “وَأَجْعَلُهُ أُمَّةً كَبِيرَةً”.
3 – سيجعله أمة عظيمة [تك 21: 18]: “لأَنَّنِي سَأَجْعَلُهُ أُمَّةً عَظِيمَةً”.
إن أمة إسماعيل عليه السلام هي أمة العرب وتُسمى العرب المستعربة، وتُسمى بالعرب العدنانية، ولم تعرف أمة إسماعيل هذه العظمة إلا عندما جاء الإسلام فباركها، فهذا التعظيم وهذه الأمة الكبيرة لم يظهرا إلا من محمد ﷺ، فإنه به بدأت بركة إسماعيل عليه السلام في الأمم، وبه تحققت الوعود الإلهية السابقة لإسماعيل.. ولا ينكر هذا إلا مكابر.
ومن المعلوم بدهياً أن أبناء إسماعيل لم يكونوا سوى قبائل قليلة متناحرة بينها بالجزيرة العربية، ويعبد غالبيتها الأصنام. وقد أهمل ذكر العرب على مدى التاريخ، وأصبحوا موضع احتقار من اليهود من أبناء يعقوب وإسحاق، عليهما السلام، ومن الأمم الأخرى.
فهم الأمة المشركة الجاهلة، ولم يتحقق لأبناء إسماعيل ذكر ولم يصيروا أمة عظيمة غالبة على أعدائها إلا بظهور رسول الله محمد ﷺ بينهم.
ومن هنا نرى أيضاً أن الذي تكلم عنه موسى عليه السلام في سفر التثنية [33: 1- 2] إذ قال: “وتلألأ من جبل فاران” إنما هو إشارة إلى إسماعيل عليه السلام والنبي الخاتم محمد ﷺ الذي سيكون من نسله، والذي تأكدت فيه الوعود الإلهية السابقة.
إن أمة إسماعيل العربية لم تعرف هذه العظمة إلا عندما جاء الإسلام فباركها، ولم تكن لها يد على أحد إلا عندما قادها محمد ﷺ. ولم تكن أيدي الغير عليها إلا عندما تبنوا البعد عما أنزله الله سبحانه وتعالى.
ونستكمل في المقال القادم، إن شاء الله تعالى..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سفر التكوين/الإصحاح 17.
2 سفر التكوين/الإصحاح 17.
3 سفر التكوين 17: 20.
4 رواه مسلم (4/1782) حديث رقم (2276).