صرخة الإنسان
مايو 18, 2024دعوة الإسلام صالحة ومصلحة في كل زمان ومكان
مايو 18, 2024الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين..
اليوم أحدثكم باللغة التي أحبها، وبالحوار الذي نفهمه.. لن أقول القدس عربية، فليس المطلوب مني أن أحدث نفسي عن بيتي وداري وغيطي وحقلي وحماري.. لا أقول القدس عربية، فهذه يشهد بها العدو قبل الصديق، فليس هذا مقامها، لكننا نقولها على أصولها الصحيحة، لمن أراد أن ينكر الشمس وهي ساطعة في كبد السماء وقت الظهيرة.
لكنني أقول: بل القدس قضية، فإذا كانت القدس قضية، فلغتنا فيها لغة المرافعة، والمقام مقامه، والحديث حديثه، وأنت بالمرافعة قدير.. القدس قضية، وعندما نتناول القضية لا بد أن تمسك بملف القضية بشكل صحيح، حتى تستطيع أن تلم بالوقائع على نحو صحيح، حتى يصح منك إنزال حكم القانون على صحيح الواقع، عندئذ تدرك الحل.
الوجه الأول
إذن، القيد والوصف: وهو الورقة الأولى في كل قضية، ما هو التوصيف الصحيح لقضية القدس؟ هل هي قضية قومية؟ فيخرج منها المسلمون كافة ونختزل القضية في قوم دون قوم؟ فتصبح أنت المحامي أنت الذي ضيعت القضية يوم اختزلتها واختصرتها، فهل هذا فن مرافعة؟ القدس ليست قضية قومية: لأن القدس هي محراب وعقيدة لكل نصارى العالم، ولكل مسلمي العالم.. ليست القدس قضية قوم دون قوم، بل هي قضية كل أصحاب ديانات الأرض، وهي قضية كل أحرار الأرض.
لا أتكلم عن موقع القدس عند النصارى، وقد تكلم ممثل الكنيسة خير كلام، ولا أتكلم عن موقع القدس في الإسلام فهذا كلام غني عن البيان.. لكنني أقول: إن حصر القضية في نطاق قومي هو اختزال للقضية، وتسطيح للتفكير.
ولا أستطيع أن أختزل القضية من وجه ثانٍ من زاوية جغرافية، فإن ذلك يحصر الصراع على صراع حدود، بل القضية وجود، قضية قرآن وتلمود.
كما أنني لا أستطيع أن أختزل القضية في حراس البيت، ولا أقول القضية فلسطينية، فليس فلسطينو العالم كياناً في جزيرة منعزلة لا قوم لهم ولا حراس ولا امتداد ولا دم ولا أواصر ولا أديان، فإن ذلك مسخ للقضية، بل أقول بلا مواربة: خيانة للقضية، وبيع القضية للخصوم.
القضية ليست صراع حدود وإنما صراع وجود.
شواهد هذا التوصيف:
أولاً: الكيان المعتدي اسمه (دولة إسرائيل)، و”إسرائيل” يعني يعقوب، والتصوير تصوير عقائدي، لا قومي ولا جغرافي ولا تاريخي.
ثانياً: يتخذون لأنفسهم شعار (نجمة داود)، وداود نبي، والتصور عقائدي، والنجمة تمثل قاعدة الهيكل التي من أجله يسعون.
جغرافيا، تاريخ، عروبة، أم عقيدة ودين؟ هم يحملون عقيدة، وأنتم تحملون عقيدة، والبقاء لمن كان مخلصًا لديانته!
ومن زاوية ثالثة: إن هذا الكيان المسمى (إسرائيل) نحن لا نسميه إسرائيل عودة إلى مصطلحات الحرب، فإن تجار السلام سماسرة القضايا لا يعملون إلا مع محامي الصالة ولسنا كذلك.
ثقافة محامي التلبسات هي التي تروج لهذا المشروع الصهيوني الاستيطاني، مع تحديد طبيعة العدو أنه: عدو صهيوني، عنصري عقائدي استيطاني سرطاني، لا يعرف السلام ولا يفهم سوى لغة القوة، والبقاء على هذه الأرض للأقوياء، هذا هو وصف القضية، ومن صوّرها على غير ذلك فقد ترافع خطأ، وإذا كانت المرافعة خطأ أنت عليم بالحكم ولا وجه للطعن.
الوجه الثاني: الصفة والمصلحة والاختصاص
ثم دعوني أقول: وجه ثانٍ مع القيد والوصف، الصفة والمصلحة والاختصاص..
السؤال: من الذي يملك الحديث عن القدس؟
الرئيس الفلسطيني، الرئيس المصري، جامعة الدول العربية؟ القدس أمانة المسلمين جميعًا، فمن يتحدث باسم المسلمين اليوم؟ لابد أن نواجه أنفسنا بأخطائنا وتقصيرنا لنعرف من أين نبدأ.
توقيع اتفاقية من غير مختص أو غير مفوَّض في الوكالة، لا ينفذ توقيعه في حق صاحب الحق الأصيل متى كان خارج نطاق الوكالة.
وإذا قلنا إن المتحدث باسم القضية الفلسطينية هو الرئيس ياسر عرفات، فإن ذلك في حكم اللزوم الحتمي والعقلي والمنطق القانوني التبعي -الذي لا يحتاج إلى دليل أو إثبات- أن الكعبة المشرفة وبيت النبي ﷺ ومسجده أصبحوا ملك آل سعود، فهل القدس ملك عرفات؟ والكعبة ملك آل سعود؟ ماتت الأمة وباطن الأرض أولى بها من ظاهرها قبل أن يحدث! أنتم أصحاب الحق، أنتم أصحاب القضية، أنتم طلاب الحق فيه، أنتم أصحاب الأمر، لا يمثلكم أحد ما لم يكن ممثلًا عنكم تمثيلًا قانونيًا صحيحًا في حدود هذه الوكالة.
أما محل الحق المتنازع عليه، فالمقرر في التاريخ -وعلماء الدين والتاريخ يحضرون- والكلام على مرأى ومسمع، وأتحسب لنفسي خشية الخطأ أو الزلل أو الالتباس: أرض القدس وقف، أرض القدس وقف، فمن يملك التصرف في الوقف؟ هل يجوز بيع الوقف أو التنازل عنه؟ فلا الطرف مختص، ولا هو أهل لذلك، ولا العين تصلح أن تكون محلًا للتعاقد.
الوجه الثالث
الذين بدأوا القضية وهم يتنازلون عن الجزء الأعظم منها لا يصلحون أن يتكلموا عن الجزء الباقي فيها! فإن المفرط أولًا خائن أخيرًا، المفرط أولًا لا يمكن أن يكون حريصًا آخرًا.
ذهب العرب جميعًا في أكتوبر 1991م (مؤتمر مدريد) يقولون: الأرض مقابل السلام. وأي سلام؟ أي أرض وأي سلام؟ القدس عاصمة لدولة، فلا تأخذكم الجزئيات من الكليات، والكلام عن العواصم يشمل بالضرورة الكلام عن الدولة بأكملها، أنتم طلاب فلسطين أم طلاب قطعة من الأرض 1 كيلو متر؟
بل فلسطين، فلسطين بالكامل من البحر إلى النهر عربية إسلامية، إشارة تاريخية محددة منضبطة، قبل 4 يونيو 1964م كان العرب يتكلمون عن إزالة الكيان الصهيوني المعتدي من الوجود، وبعد 5 يونيو تحول الخطاب من إزالة الكيان الصهيوني، إلى إزالة آثار العدوان، ثم تحول من إزالة آثار العدوان إلى الشرعية الدولية 242!
مسخٌ وخيانة وتضييع وإهدار وإفساد وتشويه للعقول وطمس للحقيقة وتفريط في العقائد!
قل لي لماذا؟ أقول لك:
القبول بـ 242 في مدريد يشمل:
- حق إسرائيل في الوجود.
- ويشمل الاعتراف بحقوق آمنة لإسرائيل.
- وينطوي على المطالبة بالأراضي التي احتُلت بعد الخامس من يونيو 1967م، ومجموع هذه الأرض محل المطالبة 22 % من إجمالي المساحة.
إذن نحن نبدأ على مسار المفاوضات متخلين ابتداءً عن 80% من إجمالي المساحة، فهل هذه مرافعة جيدة؟
أبدأ وأنا مُسلِّم 80% من الحق؟ المحامي الذي يبدأ مسلّماً بالطلبات للخصوم بـ80 % من إجمالي الحق محامٍ أم خائن؟
لا نسلّم بالحق للعدو، والحق حقي، من يملك التنازل عن هذا الحق؟ يطالبون بـ22 % من إجمالي الحق بعد التسليم بـ80 % ، مما دعا الطرف الآخر -اليهود عليهم لعنة الله إلى يوم الدين- يساومون في الـ22 %! إذا كنت أنت سلمت بـ 80 % من غير تفاوض، فماذا عساك أن تأخذ من الـ 20%؟
ثم يتفاوضون مع اليهود، جميل، وكأن اليهود حدث جديد في التاريخ، التفاوض العقيم والمماطلة والتسويف سمت أصيل في التكوين اليهودي في التوراة والإنجيل والقرآن.. اليهود تفاوضوا مع الله عز وجل عن طريق الوسيط الدولي موسى عليه السلام في قضية بقرة، فاوضوا الله في بقرة، فهل يعطونكم دولة وقدساً ومسجداً وقبلة ومحراباً؟! ﴿لَأَنتُمۡ أَشَدُّ رَهۡبَةࣰ فِی صُدُورِهِم مِّنَ ٱللَّهِۚ﴾ [الحشر: ١٣]. أم أن دولتكم أهم من البقرة؟
ومن عجب أن يكون الحوار الطويل عن البقرة ليس هو القضية المطروحة على النزاع أصلاً، لكن القضية: ﴿وَإِذۡ قَتَلۡتُمۡ نَفۡسࣰا فَٱدَّ ٰرَ ٰٔۡ تُمۡ فِیهَاۖ…﴾ [البقرة: ٧٢]، ﴿فَقُلۡنَا ٱضۡرِبُوهُ بِبَعۡضِهَاۚ…﴾ [البقرة: ٧٣]، يعني: أصل القضية قتيل لم يُعرف مَن القاتل، وكان المطلوب معرفة هذا القاتل، فدلهم موسى على دليل الإثبات: اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها، فجادلوا في دليل الإثبات، وتركوا أصل الحق! وهؤلاء هم اليهود.
بعض من المنطق، وقليل من الحياء، وشيء من الفهم، التضليل والتدليس والخلط المتعمد للأوراق خيانة للقضية أو جهل بها، والجاهل لا يقود والخائن ليس أهلًا للأمانة.
حُمى الحروب الصليبية
اليهود يعانون من حُمى دراسة الحروب الصليبية، فإذا لم تكن تعلم فاعلم، اليهود جميعًا مصابون بحمّى الحروب الصليبية، ونحن أصحاب القضية لا ندرس القضية. اليهود اخترقوا مئات الجماعات المسيحية -لا سيما في أمريكا- والذي أريد أن أستدل به عليه هو: أن تاريخ أمريكا وأوروبا وجزء عظيم من الشرق من المذهب البروستانتي خصيصًا يؤمنون عقائدياً بضرورة إقامة الهيكل حتى ينزل المسيح المنتظر عندهم؛ لأنهم -أي اليهود- لا يؤمنون لا بعيسى ولا بمحمد، ولذلك فالتأييد تأييد عقائدي، فالذين يقولون “شرعية دولية” ما فهموا ديناً، ولا تاريخاً، ولا أدباً، ولا حقاً، ولا قانوناً، ولا سياسة!
تريدون من عدوكم أن يترك عقيدته من أجلكم!؟ فبم؟ ولماذا؟
وهذا شيء مستفز، شيء يدعو إلى الاشمئزاز، أن تجد أناسًا ماتوا وتأخر دفنهم حتى فاحت رائحتهم، وهم يتسكعون على الطرقات، وينامون كجثث الموتى والقبور، ويطالبون المجتمع الدولي بالتدخل لإنقاذ فلسطين، وأين ذهبت أنت يا صاحب فلسطين؟ لا أقول شيء مستفز، بل شيء مقزز أن ينام صاحب الحق ويطلب من العدو أن يعطيه له طواعية! منطق سقيم، أم خلط للأوراق، أما خيانة، أم بيع للقضية، أم هذا كله تجسد في كيان واحد؟
الشرعية الدولية لا تصلح لأن هناك تأييداً عقائدياً، هؤلاء يؤمنون بضرورة إقامة (دولة إسرائيل)، ولا تقوم (دولة إسرائيل) إلا بتوحيد القدس، ولابد من بناء الهيكل، إذن لابد من احتلال فلسطين، وتوحيد القدس، وهدم المسجد الأقصى، وإقامة المعبد، هذه عقيدة مشتركة، فممن تطلبون؟
أما عن الشرعية الدولية: فإن الشرعية الدولية هي التي أوجدت (دولة إسرائيل)، وأما الدور الأوروبي: فإن الذي مكّن لليهود في فلسطين هو الدور الأوروبي قبل أن يكون لأمريكا دور، إذ أن الثابت تاريخيًا أن أمريكا لم تدخل مسرح أحداث هذه الجريمة إلا بعد سنة 1942م، وأنتم أعلم من كان قبل ذلك؟
بلفور.. بريطانيا هي التي أصدرت الوعد، بريطانيا هي التي أمنت الهجرة إلى فلسطين، بريطانيا هي التي سلحت الفيلق اليهودي، بريطانيا هي التي سلمت الأسلحة لليهود، بريطانيا هي التي مكنت لإسرائيل، بريطانيا لم تنسحب إلا بعد إعلان قيام (دولة إسرائيل)، فهل بريطانيا تطرد إسرائيل؟ فلم كان السعي إذن؟
أما ألمانيا: فقد أنفقت على إسرائيل 90 مليار مارك. وأما أمريكا: فقد سلّحت إسرائيل حتى الآن بأحدث التسليح، ومتكفلة بها وجوديًا، ولا يظن أحدكم أن المعسكر الشرقي فيه الخير، فإن روسيا قد أعطت العرب مسلميهم ومسيحيهم أعظم صفعة على الوجه في الوجود، إذ أمدت (إسرائيل) بأخطر عناصر القوة، العنصر البشري، مليون ونصف شرقًا وغربًا، شرِّق وغرِّب فالخراب من طرف إلى طرف، والأمر كله خراب.
فما الحل؟
الحل: فلسطين ليست أول مرة تُحتل، الذي يسأل عن الحل يسأل فلسطين، كم مرة احتُلت وكم مرة حُرّرت، وما الطريق إليها، ومن القادر على حمل مفاتيحها؟
اسألوا القدس التي احتلها الحيثيون، اسألوا القدس يوم احتلها الهكسوس، اسألوا القدس يوم احتلها التتار وهدموا المسجد وحرقوه وخرّبوا كل شيء فيه، واسألوا القدس يوم احتلها الصليبيون وظلوا فيها 198 سنة واحتلوا القدس 97 سنة.. ولذلك اليهود عندهم حمى دراسة التاريخ، لأن التاريخ يقول: البقاء بالقوة أمر مستحيل لا سيما لو كان عدوك أمة أصيلة لها عقيدة، ولها أصول ولها تصور ولها منهج، أمة أجادت في الوجود كله صناعة يخاف منها الجميع: ألا وهي صناعة فن الموت.
اسألوا الصبي الذي حمل في يده الحجر: ماذا فعل في الكيان الذي يحارب صبيًا بحجر بالـ إف 16؟ أليس ذلك إفلاسًا؟ صبي بحجر يواجه الـ إف 16!
باسمكم جميعًا أحيّي كل صبي، باسمكم جميعًا أحيّي كل شهيد بطل، باسمكم جميعًا أحيّي كل أم معطاءة، لم تعط المال وإنما أعطت الكبد والعيال، باسمكم جميعًا أحيّي كل مواطن على أرض فلسطين الطاهرة، باسمكم جميعاً أقول لهم: معاشر الأبطال أنتم معقد الأمل والرجاء.. أنتم لواء النصر.. أنتم خلفاء صلاح الدين.. أنتم أولاد أبي عبيدة.. أنتم تلامذة عمر بن الخطاب.
الطريق معروف، ولئن بقي اليهود فيها أربعين سنة أو خمسين، فقد بقي الصليبيون فيها من قبل قرنين من الزمان، وإن الله كان ولا يزال وسيظل هو الأول والآخر والظاهر والباطن.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محاضرة بمكتبة الإسكندرية في تسعينيات القرن الماضي، موقع إلكتروني (يوتيوب)، بعنوان: صبحي صالح في مكتبة الإسكندرية ومحاضرة عن القدس الجريحة.