(قصيدة) أصداء الخواطر
فبراير 28, 2024العدد الثاني والعشرون
مارس 1, 2024يجب على الداعية أن يحذر من الأحاديث الواهية والمنكرة، بل والموضوعة. وقد حذر رواة السُّنة من رواية الحديث الموضوع، إلا مع التنبيه عليه وبيان أنه موضوع ليحذر منه قارئه أو سامعه، قال النووي: “تحرم روايته مع العلم به في أي معنى كان -سواء الأحكام والقصص والترغيب وغيرها- إلا مبيَّناً، أي مقروناً ببيان وضعه. وذلك لما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن سمرة بن جندب مرفوعاً:
“من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين”.
وقد تخصص لهذه الأحاديث مِن علماء الأمة مَن كشف عوارها، ووضح باطلها، وفضح عورات الوضاعين والمزيفين. وقد قيل للإمام عبدالله بن المبارك هذه الأحاديث الموضوعة! قال: “تعيش لها الجهابذة”.
وقال الإمام أبو الفرج الجوزي: “لما لم يمكن أحد أن يُدخل في القرآن ما ليس منه، أخذ أقوام يزيدون في حديث رسول الله، ويضعون عليه ما لم يقل، فأنشأ الله علماء يذبون عن النقل، ويوضحون الصحيح، ويفضحون القبيح، وما يخلي الله منهم عصراً من الأعصار، غير أن هذا الضرب قد قلّ في هذا الزمان، فصار أعز من عَنقاء مُغرِب!
وقد كانوا إذا عُدوا قليلاً فقد صاروا أعز من القليل
هذا كلام ابن الجوزي وقد تُوفي في أواخر القرن السادس سنة 597هـ فماذا يقول لو أنه عاش حتى شاهد عصرنا؟!
على أية حال لا ريب أن الأحاديث الواهية والموضوعة قد كدرت صفاء الثقافة الإسلامية، ودخلت كثيراً من فروعها، وتسللت إلى كثير من الكتب في مختلف الفنون، من التفسير والتصوف والرقائق، حتى كُتب الفقه والأحكام، وكثير من كُتب الحديث نفسها، ومن ثم دخلت على كثير من الدعاة -وبخاصة ذوو الطابع الشعبي منهم- آفة الاستشهاد بهذا النوع من الأحاديث، لما فيها من الغرائب والمبالغات التي تُرضي أذواق العوام، وتستل إعجابهم، وقلّ ما أسمع خطيباً من خطباء الجُمع، أو مدرساً يدرّس في مسجد، أو متحدّثاً يُحدّث في الإذاعة، إلا يروي حديثاً أو أكثر من هذه الأحاديث المردودة، بل كثيراً ما أقرأ فيما تكتبه بعض المجلات بل فيما تحويه بطون بعض الكتب العصرية، أحاديث تخالف العقول أو تباين المنقول أو تناقض الأصول، وإذا لم تكن الأحاديث موضوعة وجدتها واهية واهنة كبيت العنكبوت.
وكثيراً ما يستند هؤلاء إلى ما اشتُهر من أن الحديث الضعيف تجوز روايته في فضائل الأعمال والقصص والترغيب والترهيب ونحو ذلك.
ويجب أن ننبه هنا إلى عد أمور:
الأول: أن هذا الرأي غير متفق عليه؛ فهناك من الأئمة المعتبرين من رفض الأخذ بالحديث الضعيف في كل مجال، سواء فضائل الأعمال وغيرها، وهو مذهب يحيى بن معين، وجماعة من الأئمة، والظاهر أنه مذهب البخاري الذي دقق أبلغ التدقيق في شرائط قبول الحديث، ومسلم الذي شنّع في مقدمة صحيحه على رواة الأحاديث الضعيفة والمنكرة وترْكهم الأخبار الصحيحة، وهو الذي مال إليه القاضي أبو بكر بن العربي رأس المالكية في عصره، وأبو شامة رأس الشافعية في عصره أيضاً، وهو مذهب ابن حزم وغيره.
الثاني: أنه إذا وُجد في الصحيح والحسَن ما يتضمن المعنى المراد تعليمه أو التذكير به، فلا معنى للجوء للحديث الضعيف والواهي، فقد أغنى الله بالجيد عن الرديء، وقلّ ما يوجد معنى ديني أو خُلقي أو توجيهي لا يوجد في الصِحاح والحِسان ما يوفيه، ولكن قصور الهمم وضيق العطن وأخذ أي شيء يجيء في اليد دون معاناة البحث والمراجعة، جعل الناس يستسهلون رواية الضعيف بإطلاق.
الثالث: أن الحديث الضعيف لا يجوز أن يضاف إلى النبي ﷺ بصيغة الجزم ، قال في التقريب وشرحه: “وإذا أردت رواية الضعيف بغير إسناد فلا تقل قال رسول الله ﷺ كذا، وما أشبهه من صيغ الجزم، بل قل رُوي عنه كذا، أو بلغنا عنه كذا، أو ورد عنه، أو جاء، أو نُقل عنه، وما أشبهه من صيغ التمريض؛ كروى بعضهم، فما اعتاده كثير من الخطباء والوعاظ بتصدير الأحاديث الضعيفة بقولهم “قال رسول الله” أمر مردود”.
الرابع: أن العلماء الذين أجازوا العمل بالضعيف في مثل الترغيب والترهيب، لم يفتحوا الباب على مصراعيه لكل ضعيف، وإنما اشترطوا لذلك شروطاً ثلاثة:
1- ألا يكون الحديث شديد الضعف.
2- أن يندرج تحت أصل شرعي معمول به، ثابت بالقرآن أو السنة الصحيحة.
3- ألا يعتقد عند العمل به ثبوته عن النبي ﷺ، بل يعتقد الاحتياط.
ومن هذا يتبين أن أحداً من علماء الأمة لم يفتح الباب على مصراعيه لرواية الأحاديث الضعيفة بلا قيد ولا شرط، بل اشترطوا الشروط الثلاثة المذكورة، فضلاً عن الشرط الأساسي وهو أن يكون في فضائل الأعمال ونحوها، مما لا يترتب عليه حُكم شرعي.
وينبغي في رأيي أن يضاف إلى هذه الشروط شرطان آخران:
1- ألا يشتمل على مبالغات وتهويلات يمجُّها العقل أو الشرع أو اللغة
وقد نصّ أئمة الحديث أنفسهم أن الحديث الموضوع يُعرف بقرائن في الراوي أو المروي.
فمن القرائن في المروي، بل من جملة دلائل الوضع، أن يكون مخالفاً للعقل، بحيث لا يقبل التأويل، ويُلحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة، أو يكون منافيا لدلالة الكتاب القطعية، أو السنة المتواترة، أو الإجماع القطعي -أما المعارضة مع إمكان الجمع فلا- أو يكون خبراً عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع ثم لا ينقله منهم إلا واحد! ومنها: الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير، أو الوعيد العظيم على الأمر الحقير، وهذا كثير في أحاديث القصاص.
ومما يؤسف له أن كثيراً من المحّدثين لا يطبقون هذه القواعد عندما يروون في الترغيب والترهيب ونحوه، وربما كان لهم عذر من طبيعة عصرهم، أما عقلية عصرنا فلا تقبل المبالغات، ولا تهضمها، وربما تتهم الدين ذاته إذا ألقي عليها مثل هذه الأحاديث.
ومما تمجه اللغة: كثير من الأحاديث التي رواها بعض القصاص، مثل دراج أبي السمح في تفسير كلمات من القرآن الكريم لها مدلولاتها الواضحة في اللغة، فروى لها تفسيرات هي غاية في الغرابة، والبعد عن المدلول اللغوي.
فمن حديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد مرفوعا: “ويلٌ: وادٍ في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره”. رواه أحمد والترمذي بنحوه إلا أنه قال “سبعين خريفاً”، مع أن كلمة “ويل” وعيد بالهلاك معروفة قبل الإسلام وبعده.
ومثل ذلك ما جاء عند الطبراني والبيهقي عن ابن مسعود من تفسير “الغي” في قوله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾ [مريم: 59]، قال: وادٍ في جهنم. وفي رواية: ” نهر في جهنم”.
وكذلك ما رواه البيهقي وغيره عن أنس بن مالك في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا﴾ [الكهف: 52]، قال: وادٍ من قيح ودم.
وأغرب منه ما رواه ابن أبي الدنيا عن شفي بن مانع، أن في جهنم وادياً يُدعى “أثاماً” فيه حيات وعقارب، إلى آخره. يشير إلى قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾ [الفرقان: 68].
وقد ذكر هذه الأحاديث الحافظ المنذري في كتابه “الترغيب والترهيب”.
2- ألا تعارض دليلاً شرعياً آخر أقوى منها
مثال ذلك الأحاديث الضعيفة التي رُويت في شأن عبد الرحمن بن عوف أنه يدخل الجنة حبواً بسبب غناه.
فقد يقال إن مثل هذه الأحاديث يندرج تحت أصل التحذير من فتنة المال وطغيان الغِنى، ولكن يجب أن نذكر أنها تعارض أحاديث صحيحة جعلت عبد الرحمن بن عوف من العشرة المبشرين بالجنة، فضلاً عن وقائع ثابتة وروايات مستفيضة تثبت أنه كان من خيار المسلمين، وكبار المتقين، وأنه يمثل الغنيّ الشاكر حقاً، ولهذا تُوفي رسول الله ﷺ وهو عنه راضٍ، وجعله عمر في الستة أصحاب الشورى، وجعل لصوته ميزةً ترجيحية على غيره عند تساوي الأصوات.
ولهذا قال الحافظ المنذري في “الترغيب والترهيب”: وقد ورد من غير ما وجه ومن حديث جماعة من الصحابة عن النبي ﷺ، “أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يدخل الجنة حبواً لكثرة ماله”، ولا يسلم أجودها من مقال ولا يبلغ منها شيء بانفراده درجة الحسن، ولقد كان ماله بالصّفة التي ذكر رسول الله ﷺ: “نعم المال الصالح للرجل الصالح”، فأنّى تنقص درجاته في الآخرة، أو يقصر به دون غيره من أغنياء هذه الأمة؟ فإنه لم يرد هذا في حق غيره، إنما صح سبق فقراء هذه الأمة أغنياءها على الإطلاق والله أعلم(1).
من أين تتسرب الأحاديث الضعيفة إلى الدعاة؟
وإنما تتسرب الأحاديث الموضوعة الساقطة إلى الدعاة، لاعتمادهم على كتب لا تعني بانتقاء الأحاديث التي توردها وغربلتها، وربما لا تعزوها مجرد عزو إلى من خرجّها من أصحاب الكتب الحديثية، مع أن هذا العزو لو حصل لا يكفي في معظم الكتب، حيث لا يلتزم مؤلفوها الاقتصار على الصحيح أو الحسن.
فنرى الأكثرين ينقلون من كتب الوعظ والتصوف والتفسير ونحوها، ظانين أن هذا يعفيهم من البحث في درجاتها، والاطمئنان إليها، بأن تكون على الأقل في أدنى درجات القبول، أما كتب الوعظ والرقائق فأنصح لقارئها ألا يعتمد عليها في نقل الحديث، لأنها تجمع السمين والغث، والجديد الرث، ولا تدقق فيما تروي من أحاديث أو آثار، أو قصص وأخبار، بدعوى أنه لا يتعلق بها حكم شرعي.
حتى حُفّاظ الحديث الناقدون إذا ألفّوا في الوعظ وما يتعلق به، ترخصوا وتساهلوا إلى حد التفريط فيما يروونه في بعض الأحيان.
هكذا وجدنا الإمام ابن الجوزي صاحب “الموضوعات” و”العلل المتناهية”، وغيرها يرخي لنفسه العنان في كتاب “ذم الهوى”، وغلبت فيه عاطفة الواعظ على عقلية الناقد الحافظ، وكذلك الحافظ الذهبي رأيناه يتساهل في كتابه “الكبائر”.
ونصيحتي لمن أراد أن يأخذ الحديث من كتب التفسير أن يرجع إلى ابن كثير، فهو حافظ متقن ناقد، يُعنى بتخريج ما يورده والتعقيب عليه غالباً بالتوثيق أو التضعيف.
ومن أخذ عن “إحياء” الغزالي عليه أن يرجع إلى تخريج الحافظ العراقي لأحاديثه، وهو مطبوع مع الإحياء، ومراجعته ضرورية لكل قارئ للكتاب، أو ناقل عنه بعض ما أورد من حديث، وبذلك يعرف قيمة ما يأخذ من أحاديث.
ومن أخذ من “الترغيب والترهيب” للمنذري يجب عليه أن يقرأ مقدمته التي يبين فيها أنواع الأحاديث التي يذكرها، والمصطلحات التي يستخدمها، لبيان درجاتها قوةً وضعفاً، حتى لا ينقل الضعيف شديد الضعف، وهو يحسب أنه حسن أو صحيح لجهله باصطلاح صاحب الكتاب.
ومن أخذ عن “الجامع الصغير” للسيوطي أنصحه أن يراجع شرحه الكبير “فيض القدير” أو المختصر “التيسير” للمناوي، ولا يكتفي بإشارات الجامع: (ص) للصحيح، و(ح) للحسن، و(ض) للضعيف، لكثرة ما أصابها من التحريف على يد النساخ، أو الطابعين، ولأن للشارح تعقيبات واستدراكات على صاحب الجامع ينبغي أن يُنتفع بها.
وقد قام العلامة محمد ناصر الألباني بفصل صحيح “الجامع الصغير” وزيادته “الفتح الكبير” عن ضعيفه، وصدر كل منهما في عدة أجزاء، فخدم بذلك الكتاب وطالبي الحديث أيما خدمة.
ومن كُتب السُّنة التي ينبغي الاستفادة بها في هذا المقام، ما أُلف لتخريج أحاديث بعض الكتب المشهورة في فنونها ممن لا يلزم أصحابها تخريج ما يروونه، سواء كانت كتب تفسير، مثل تخريج أحاديث “الكشاف” للحافظ ابن حجر، أو كتب تصوف مثل “تخريج أحاديث الإحياء” للحافظ العراقي، أو كتب فقه مثل تخريج أحاديث “الهداية” للحافظ الزيلعي، وأحاديث “الأخبار” للعلامة قاسم، وأحاديث شرح الرافعي الكبير لابن حجر المسمى “تلخيص الحبير”.
ومن كُتب السُّنة المهمة ما يتعلق بالأحاديث الشائعة المشتهرة على ألسن الناس، وبيان مَن أخرجها، ودرجتها من الصحة، أو الحُسن، أو الضَّعف، أو الوضع، مثل “المقاصد الحسنة” للسخاوي، “وتمييز الطيب من الخبيث فيما يدور على ألسنة الناس من الحديث” لابن الديبع الشيباني، “وكشف الخفاء ومزيل الإلباس فيما اشتُهر من الحديث على ألسنة الناس” للعجلوني، وهو أجمعها وأوفاها، وهو مرتب على حروف المعجم.
ومن الكتب التي لا يُستغنى عنها كتب “الموضوعات” أي الأحاديث المختلقة المفتراة على رسول الله ﷺ لابن الجوزي، “واللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة” للسيوطي، “وتحذير الخواص من أكاذيب القُصاص” له، “والمنار المنيف في الصحيح والضعيف” لابن القيم، “والموضوعات الكبرى” للشيخ علي القاري، “والموضوعات الصغرى” له أيضاً، وهو المسمى “المصنوع في معرفة الموضوع”، و”تنزيه الشريعة المرفوعة من الأحاديث الشنيعة الموضوعة” لابن عراق، “والفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة” للشوكاني، “والأسرار المرفوعة” للكنوي، و”الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها في الأمة” للألباني.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* د. يوسف القرضاوي، ثقافة الداعية، ص62، وما بعدها.
(1) الترغيب والترهيب، ج5 صـ 308، ط: السعادة.