
بنيان قوم تهدّما.. في رثاء الشيخ الحويني
أبريل 7, 2025
وحدة الأمة.. من ثمرات رمضان
أبريل 8, 2025كتبه: أ.د. طاهري بلخير الإدريسي الجزائري
أستاذ الفقه وأصوله بجامعة وهران – الجزائر
سفر الهيئة في الجزائر
مقدمة: الخطاب القرآني للجيل الرباني
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله،
قال تعالى: “وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلا قليلاً” (النساء: 83).
فأين كانت دار الإفتاء المصرية في المجازر المسلّطة على أهل غزة طيلة 16 شهرًا؟ وأين كانت من واقع سوريا ولبنان، وتكالُب الصهاينة والأنظمة الديكتاتورية عليهم؟ بل أين كانت المؤسسات الرسمية الدينية في سائر الأقطار؟
الاعتبار الأول: استقلالية الأقطار وإذن السلطان
هل دار الإفتاء المصرية للمصريين، أم للعالم الإسلامي؟ الجواب المنطقي: إنها للمصريين، لأنها تقرّ بأن لكل قطرٍ علماؤه، وهم أدرى بواقعهم. والسبب في ذلك أن الهيئة المشكلة من العلماء، كلهم من أهل البلد، و”أهل مكة أدرى بشعابها”.
وعلى هذا الأساس، لا يجوز شرعًا الحجر على علماء مصر المتمكنين من الإفتاء، أن يصدروا فتاوى بما يمليه عليهم ضميرهم. والأمر ذاته يقال في بقية الأقطار، فلا وصاية لقطر على آخر، ولا لعالم على عالم. ولهذا قيل: يحرم على العالم أن يقلّد عالمًا إلا إذا سقط الحافر على الحافر.
ولم يقل أحد من أهل العلم عبر التاريخ أن من شروط الاجتهاد أو الفتوى إذن السلطان، أو الانضواء تحت هيئة رسمية. وكتب الأصول بين أيدينا. ولم نسمع بذلك إلا في عهد استبداد الأنظمة المعاصرة، ونشوء فقهاء السلاطين، والفتاوى تحت الطلب، ومحاولات تحنيط العقول وتأطير الفهوم.
ولولا هذه الحرية التي تمتع بها الفقهاء عبر التاريخ، لما رأينا هذه الثروة الفقهية الهائلة في مدونات الفقه والتفسير والحديث، بين موافق ومعترض، ومفصّل ومؤصّل.
فأساس الإبداع أربعة: الحرية، والمسؤولية، والمكنة، والواقعية.
فإذا تقرر هذا، علمنا أن من شروط الاجتهاد والفتوى – بكلمة موجزة – أن يكون من أهله في محله.
فالفتوى: ملكة ودُربة وصنعة، وفتحٌ من الله. ومن عَدِم هذه الرباعية، فهو قرص مضغوط.
ولا أُخال أن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي ينتمي إليه آلاف العلماء في شتى التخصصات، ومن مختلف الكفاءات، والجهات، والمشارب، والمذاهب، والتوجهات، عاجز عن صناعة فتوى مسؤولة، مؤصلة ومفصّلة، بعيدة عن الأهواء أو الولاءات أو تصفية الحسابات.
وإن وُجد شيء من ذلك في آحاد أفراده – لأسباب أو خلفيات ما – فإننا نحسن الظن بهم، ونحسبهم على خلاف ذلك، والله حسيبهم. أما أن يُتهم الجميع باتباع الهوى، فذاك ما ننزّههم عنه. فكما قال الصادق المصدوق ﷺ: “لا تجتمع أمتي على ضلالة”.
الاعتبار الثاني: واقع ثقة الأمة بالعلماء الرسميين
الواقع يُثبت أن أغلب العلماء الرسميين الذين بلغوا المناصب العليا متّهمون عند العامة، فلا يثقون في فتاواهم، ولا يعوّلون عليها، بل لا يلتفتون إليها. وغالبًا ما يُولي الناس فقهاء يثقون في علمهم ودينهم، فيجعلونهم حجة بينهم وبين الله.
وهذا ليس افتراء، بل واقعٌ معاش، سببه تخلّي كثير من العلماء عن قول كلمة الحق، حين تتقاطع الرغبة السلطانية مع مقتضى الفتوى الشرعية.
قال تعالى: “وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا” (الأحزاب: 67).
الخلاصة: أن واقعنا يشهد بأن العلماء على دين ملوكهم، جاهزون للفتاوى تحت الطلب، والعامة على دين أتقيائهم الذين يقولون كلمة الحق، ولا يخافون في الله لومة لائم.
فالعالم الحق: دعمٌ واحتياط، وتكملة واستدراك، لا خصمٌ ولا شقاق. فالعلم رحم بين أهله، وهو قبل ذلك توقيع عن ربّ العالمين.
دعوى الفتنة والاستقرار
هذه من أبرز الفزّاعات التي تتذرع بها الأنظمة، حين تقول: إما نحن، وإما الفوضى. إما أن تصبروا على ظلمنا وجنوننا وانقلاباتنا، أو فلتتحمّلوا الفوضى الخلّاقة، حيث يُكذَّب الصادق، ويُصدَّق الكاذب، ويُخوَّن الأمين، ويُؤمَّن الخائن.
لقد سادت الدكتاتوريات على شعوبها تحت شعار “الاستقرار”، لكن بأي ثمن؟!
منذ سقوط الخلافة الإسلامية، والأمة تتقلّب بين مستعمِر مباشر، أو وكيلٍ نصّب نفسه عليها بعد تضحيات الشرفاء، تحت جنح الليل، وعلى حين غفلة من الصادقين.
ولمن قرأ التاريخ المعاصر، فقد رأى كيف تورط “الزعماء العرب” – زعماء من الزعم – في ملفات جنائية وجنسية ومالية. وهؤلاء يُقادون كالقطيع، ومن أراد أن يزيد تأملًا، فليسأل عن أصول أمهاتهم أو زوجاتهم، فعندها ينقطع العجب، وينطق العجم بلسان العرب.
الخلاصة: كم من فمٍ كُمِّم، ولسانٍ قُطع، وشخصٍ غُيِّب، باسم الاستقرار ووحدة الأوطان وشراء السلم الاجتماعي بأبخس الأثمان!
وليكن شعاركم ما قاله الأديب معروف الرصافي:
يا قوم لا تتكلّموا
إنَّ الكلامَ محرَّمُ
ناموا ولا تستيقظوا
ما فاز إلا النُوَّمُ
وتأخّروا عن كل ما
يَقضي بأن تتقدَّموا
ودَعوا التفهُّم جانبًا
فالخيرُ ألّا تفهموا
وتثبّتوا في جهلكم
فالشرّ أن تتعلّموا
أمّا السياسة فاتركوا
أبدًا وإلا تُلْعَنوا
إنّ السياسة سرّها
لو تعلمون مطلسَمُ
وإذا أفَضتم في المباحِ
من الحديث فجَمجموا
والعَدلَ لا تتوسَّموا
والظلمَ لا تتجهَّموا
من شاء منكم أن يعيشَ
اليوم وهو مكرَّمُ
فَليُمسِ لا سمعٌ ولا
بصرٌ لديه ولا فمُ
لا يستحق كرامةً
إلاّ الأصمّ الأبكمُ