هل استفادت ثورة بنجلاديش من الثورات العربية؟
سبتمبر 8, 2024الحياة في سبيل الله
سبتمبر 8, 2024بقلم م. خالد حربي (فكّ الله أسره)
النجوم ذلك النور العلوي وتلك القناديل المعلقة في سمائنا، وهذه المصابيح المنيرة في ليلنا، إنها دائماً رمز الهداية ومنارات السبيل في حياتنا، ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام:97]. هكذا وصفها الله العلي في كتابه واستضاء أئمتنا بهذا الوصف الإلهي فشبهوا مَن حملوا مشعلاً في مسيرة هذه الأمة، وعلى رأسهم الصحابة والعلماء العاملون ثم الأمثل فالأمثل.
وكلما أظلم الطريق وتعذّر السير على السائرين تلفت الناس إلى نجم يهديهم وقائد يعبر بهم. وكما يلمع بريق النجوم ويظهر كلما اشتدت الظلمة وادلهمت العتمة وفشت الحالكة على الرؤوس، هكذا أيضاً نجوم أمتنا العظام، يعظم قدرهم ويتوهج بريقهم وتشتد الحاجة إليهم كلما جثمت المحنة على صدرها واشتدت في الظلمة مسيرتها.
وهنا أذكر رؤيا عجيبة ما تذكرتها إلا وسرت القشعريرة في جسدي وأخذتني الخشية فانهمرت دموعي لا أملكها. أتذكرها وأهديها إلى الراحلين عن الحياة وهم أبهى ما بها إلى الذين رحلوا عنا وظلت أعمالهم رمزاً يُقتدى ونبراساً يُهتدى إلى من صمدوا في زمان الخذلان وقبضوا على الجمر في زمن الهوان إلى الذين أناروا لنا الطريق بأرواحهم وعطروا لنا المسير بدمائهم إلى النور الباهر في هذا الليل البهيم والنجم اللامع في تلك الظلمة العاتية، إلى شهدائنا الأبرار الذين قضوا في ساحات الوغى وقد بذلوا أرواحهم فداء أرواحنا ونفوسهم الغالية نظير نفوسنا، هذه البشرى إلى أرواح هؤلاء الأماجد ولا أراها تصدق إلا في حقهم وحدهم:
في يوم من أيام محنة كان الكرب قد اشتد علينا حتى لم يبقَ لنا متنفس، ثم أعلن البعض تراجعه وتخليه عن الطريق وارتمى يستجير من الرمضاء بالنار، فركبَنا الهم وعظم بنا الخطب ولفحتنا رياح الوحشة والغربة، وكنت أنا وأخ لي نتناوب صلاة الليل، وفي ليلة مباركة وبعد أن صلينا غلبنا النعاس قبيل الفجر بقليل، وإذا بأخي يوقظني وهو ينتفض وعيناه مغرورقة بالدموع ليقصّ عليّ ما رأى؛ فقال:
“رأيتني جالساً تحت قدم شيخ لا أعرفه، وكان الشيخ حسن الهيئة طيب السمت، وبجواره طاقة في الحائط يطل منها النبي ﷺ وإذا برجل كئيب الهيئة فظ الملمح يدخل علينا وقد اتشح بالسواد القاتم فسأله الشيخ: من أين الرجل؟ فقال: من مصر، فسأله النبي ﷺ: وما حال مصر وأهل مصر ونيل مصر؟ فتجهم الرجل وظل يلقي بكلمات قاسية يتحدث فيها عن الخراب والدمار والضياع وقال كلاماً كثيراً وآخر ما قاله: “وهناك نجوم ستموت”. تملكني الخوف والفزع واختنقت من كلمات هذا الرجل لكن النبي ﷺ أجابه سريعاً وهو يبتسم قائلاً: “لكن النجوم لا تموت، بل تتكاثر وتتوالد ويكثر عددها”. ونزلت كلماته ﷺ على قلبي برداً وسلاماً وبشرى وطمأنينة، وإذا بالشيخ يردد كلمات النبي ﷺ نفسها وهو يبتسم: لكن النجوم لا تموت؛ بل تتكاثر وتتوالد ويكثر عددها”.
راحت دموعي تنهمر من عيني وأنا أسمع هذه الرؤيا الصالحة، وعدت لا أسيطر على جسدي بأكمله وفقدت نصف وعيي وكأني لا زلت بين يدي النبي الكريم ﷺ. الذي نزلت كلماته في الرؤيا علينا برداً وسلاماً فشدت العزائم وأقامت الهمم وداوت الجراح، لقد أدركت على الفور أن بعض الساقطين الذين كنا نحسبهم نجوماً في سمائنا لكنهم في الحقيقة غير هذا، إنهم كالشهب والنيازك تلمع لحظة احتراقها لتسقط فتصيب وتقتل لكنها لا تضيء أو تهدي، أما النجوم الحقيقية فهي أبداً لا تموت.
وكنت كلما اشتدت بنا المحنة وخنق صوتنا البلاء أردد بيني وبين نفسي: “لكن النجوم لا تموت”، حتى أحسن الله إلينا فكشف البلاء وانجلت عنا المحنة وتسارعت الأحداث وعاث العدو بأرض المسلمين وحرماتهم، ورأى الناس ما كانوا يقرؤون عنه في كتب التاريخ من المذابح والمجازر واقعاً أمام أعينهم وبين أيديهم.
وهنا وفي هذا الليل البهيم والظلام الحالك ظهرت نجوم سمائنا الحقيقة وشاء الله أن يلمع ضياؤها فوق رؤوسنا، وذلك حين قام خير هذه الأرض قاطبة وأطهرهم يداً وأشجعهم قلباً وأنقاهم سريرة فذبوا عن الأمة، وذادوا عن الحرمة، وبذلوا الأرواح والمهَج رخيصةً لله تعالى، وكما رأينا ما كنا نسمع عنه من مذابح ومجازر رأينا أيضاً ما كنا نسمع ونقرأ عنه من الملاحم والبطولات، وعادت رياح الجهاد تنفض الرمال عن هذه الأمة وتنسمها رياح العزة من جديد، وعادت تهب علينا نسائم العظماء التي كانت قد انقطعت طويلاً عن أمتنا، عادت تهب نسائم نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، وسيف الدين قطز، والشيخ المجاهد ابن تيمية، وابن حزم، وألب أرسلان، ويوسف بن تاشفين، وطارق بن زياد، وغيرهم من عظماء المجاهدين والشهداء.
واصطفي الله تعالى من هولاء المجاهدين الراشدين شهداء في سبيله، وكما أن شجرة الإسلام طيبة وعظيمة وكريمة كذلك لم يدخر الله لها رياً إلا أطهر الدماء وأعظم الأرواح وأكرم النفوس؛ لتنبت الثمرة الطيبة النافعة النقية السوية ﴿وَٱلشُّهَدَاۤءُ عِندَ رَبِّهِمۡ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ وَنُورُهُمۡۖ﴾ [الحديد: ١٩].
وكما كانوا كالنجوم في حياتهم مناراً للهدي ونبراساً للفداء صاروا بعد رحيلهم مثلاً يُحتذى ومنهجاً يُقتدى به ونوراً يضيء الدرب للسائرين..
مَن قال إن الشهداء سقطوا؟ مَن قال إنهم رحلوا؟! مَن قال إن حياتهم وأعمالهم انتهت؟!
إن الوجود الحقيقي يكون بوقعه في النفس لا بثقله على الأرض، ولا شك أن النبي ﷺ كان موجوداً وحياً وفاعلاً في نفوس التابعين الذين آمنوا به ولم يروه أضعاف أضعاف ما كان موجوداً في نفوس المشركين والمنافقين الذين عايشوه وخالطوه. وهكذا قد يرحل مجاهد عن عالمنا فلا نراه ولا نخالطه، لكنه قد يكون أكثر أثراً وفاعلية في النفوس مما كان وهو حياً بيننا.
إن ما يجسده رحيل هؤلاء العظماء أكبر بكثير مما كانت تمثله حياتهم:
وكانت في حياتك لي عظات *** فأنت اليوم أوعظ منك حياً
يقولون إن ضياء النجم يظل يلمع في مكانه لسنوات عديدة بينما يكون النجم حقيقة قد غادر منزله منذ سنين، وهذا أصدق الأوصاف على شهدائنا.. إن نورهم لا يزال يتلألأ فوق رؤوسنا حتى بعد رحيلهم، وإن حياة شهدائنا أطول من حياة قاتليهم.. ونظرة سريعة على تاريخ هذه الأمة تزرع اليقين بهذا.
ويقال إن النجوم تتحول في آخر أطوارها إلى ثقوب سوداء تسبح في فضاء الكون، وتتميز هذه الثقوب بالجاذبية الشديدة والحركة السريعة مما يجعلها تلتقط وتبتلع كل الأجسام والشوائب العالقة بالفضاء، ويحلو للبعض أن يسمي هذا موتاً، ولكن هيهات أن يكون موتاً وهو يدفع النجم إلى أضعاف طاقته وقدرته..
وهكذا أيضاً شهداؤنا الأبرار، إذا رحلوا عن حياتنا وانتهت أعمارهم الأرضية صاروا قوة جذب إلى السماء ودفع إلى الجنان، تهدم أسوار الطغاة أمامنا وتقوّي قلوبنا على امتطاء الصعاب ومقارعة النوازل ومجابهة المخاطر، لاسيما وقد ضربوا لنا المثل العملي في الثبات وجسّدوا لنا التضحية الفعلية لأجل العقيدة.
لقد رحل عنا الشهداء لا ليغيبوا عن دنيا ولكن ليضيؤها من فوق رؤوسنا بأرواحهم الزكية ودمائهم العطرة، وكلما ارتفع شهيدٌ في ساحة الوغى اطمأنت القلوب إلى نجم جديد يغمرنا بضوئه الشفيف، وكلما غاب عن عالمنا عظيم بجسده وأنفاسه استبشرت القلوب بكلمات وفعالٍ تقوم وتنتفض لتتقدم الركب المجاهد نحو طريق النصر والعزة بإذن الله.
وهذا سيد قطب.. أحد أفراد ذاك الركب وذلك الرهط -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً- يقول: “إن كلماتنا ستبقى ميتةً لا حراك فيها، هامدةً، أعراساً من الشموع، فإذا متْنا من أجلها وغذيناها بدمائنا انتفضت حيةً وعاشت بين الأحياء، كل كلمة قد عاشت كانت قد اقتاتت قلب إنسان حي فعاشت بين الأحياء”.
﴿وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ﴾ [يوسف: ٢١].
ــــــــــــــــــــــــــ
* خالد حربي، مقال: (لكن النجوم لا تموت.. مرثية عاشق)، موقع إلكتروني: طريق الإسلام، 2008م.