
19 شهيدا وانتشال جثامين 135 آخرين في غزة
أكتوبر 11, 2025
سفير الهيئة بديار بكر يلتقي المشرف على مركز حفظ السنة
أكتوبر 11, 2025د. فهمي سالم
سفير الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ – إندونيسيا
ليست كلّ الحروب في التاريخ ذات وزن واحد؛ فبعضها ينتهي مجرّد أن تنتهي طلقات المدافع وتسلم الأسلحة للمنتصر، وبعضها يتجاوز ساحة القتال ليُعيد تشكيل الوعي الجمعي ومسار التاريخ. حرب غزّة المستمرة منذ عامين (2023م) تندرج بوضوح ضمن الفئة الثانية؛ فهي لم تكن مجرّد مواجهة عسكرية بين مقاومة محاصَرة وقوة احتلال مدججة بالسلاح المتكامل، بل كانت نقطة تحوّل كبرى لا عودة بعدها، أيقظت الأمة من سباتها الطويل، وأسقطت كثيراً من الأقنعة، وأعادت رسم خرائط العالم والإقليم السياسية.
وكما أكّدنا أن زماننا هو “زمن التحوّل الكبير”، فإنّ حرب غزّة برهنت أنّ الأمّة الإسلامية لا تعيش مرحلة عادية، بل مرحلة استثنائية تُبنى فيها منظومة جديدة وتُفتح فيها فرص تاريخية للنهضة. وحين نرصد حركة التاريخ من خلال عامين من الطوفان تتجلى التحولات الكبرى الآتية:
يقظة الوعي الشعبي
أحد أبرز آثار الحرب كان الانفجار الواسع للوعي في صفوف الأمة، وخاصة بين الأجيال الشابة. ملايين المسلمين تابعوا عبر الإعلام البديل ووسائل التواصل تفاصيل الإبادة الجماعية والتهجير القسري والتدمير بعيداً عن الرواية الغربية الرسمية.
هذه الصور أعادت فلسطين إلى مركز القلب الإسلامي، بل تجاوزت حدود الأمة لتصنع رأياً عاماً عالمياً: مظاهرات كبرى اجتاحت أوروبا وأستراليا وأمريكا أسبوعاً بعد آخر، وصولاً إلى الحفل الخيري في ويمبلي أرينا بلندن (17 أيلول/سبتمبر 2025) تحت شعار معاً من أجل فلسطين بمشاركة نجوم الفن والرياضة، لترتقي فلسطين من قضية عربية–إسلامية إلى قضية إنسانية كونية.
هكذا انهارت جدران الخوف من الحديث عن فلسطين بعد أن حاولت الأنظمة الغربية والعربية طويلاً إسكاتها وإغلاق ملفها عبر مشاريع “صفقة القرن” (2018) و”اتفاقيات أبراهام” (2020). فجاءت حرب غزّة (7 أكتوبر 2023) لتُسقط كل أوهام “الشرق الأوسط الجديد” و”إسرائيل الكبرى” التي روّج لها نتن ياهو.
سقوط الأقنعة الغربية
أظهرت الحرب الوجه الحقيقي للغرب الذي طالما تباهى بالحرية وحقوق الإنسان والقانون الدولي. فإذا بالدول نفسها التي تدافع عن “كرامة الفرد” تقف مع المحتل الذي يقتل الأطفال والنساء ويدمّر المستشفيات.
هذا الانهيار الأخلاقي عمّق القناعة بأن الغرب ليس “نموذجاً حضارياً” بل قوة استعمارية بوجه جديد. وانكسرت صورة الغرب في الوعي الجمعي، وتلاشى بريق “الإعجاب الثقافي” الذي ترسّخ طويلاً.
بالنسبة للمسلمين، كان ذلك حاسماً: لقد اهتزّ الأساس الذي جعلهم يبالغون في تقليد الغرب كنموذج حضاري. والسؤال الذي عاد يفرض نفسه: هل يُعقل لأمة تملك إرثاً روحياً وحضارياً هائلاً أن تواصل التبعية لقوة استعمارية متناقضة القيم؟ والإجابة بالنفي تفتح الباب لمراجعة شاملة لنظم لسياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة في العالم الإسلامي، لتحريرها من الهيمنة الغربية.
عودة مركزية الإسلام
تحوّلت غزّة إلى رمز عالمي للمقاومة، وأحيت فكرة أنّ الإسلام والهوية الإسلامية هما المصدر الأصيل للصمود في مواجهة الظلم العالمي. فقد رأى الناس أن من صمدوا لم يكونوا حَمَلة شعارات قومية أو يسارية، بل حملة مشروع إسلامي متجذّر في العقيدة والهوية.
لقد تبيّن أنّ الإسلام ليس شعاراً بل واقعاً عملياً في الميدان. والدرس الواضح: القوة الوحيدة القادرة على صدّ العدوان الصهيوني بكل تبعاته هي الهوية الإسلامية، لا القومية العربية ولا الاشتراكية التي فشلت من قبل.
استعادة الشعور بالوحدة
من المغرب إلى إندونيسيا، من طنجة إلى جاكرتا، عاش المسلمون المشاعر نفسها: الغضب، الألم، التضامن. رفرفت الأعلام الفلسطينية في الملاعب والشوارع والجامعات، وامتلأت المساجد بالدعاء، وتدفّقت المساعدات الإنسانية من كل صوب وحدب.
لقد تجلّى مجدداً أنّ الأمة جسد واحد. فلسطين ليست قضية شعب بعينه، بل قضية الأمّة جمعاء. حتى أصوات غير مسلمة انضمّت إلى موجة التضامن، فاتحة الباب لتحالف إنساني عالمي ضد الظلم.
تصدّع الهيمنة الصهيونية
رغم التفوّق العسكري والدعم الغربي، عجزت إسرائيل عن تحقيق أهدافها. لم تستطع كسر شوكة المقاومة ولا القضاء على إرادة شعب غزّة. بالعكس، ظهر ضعفها جليّاً أمام مقاومة محاصَرة قليلة الإمكانات.
بهذا انهارت أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر” التي أرعبت المنطقة لعقود. وأصبح الحديث عن سقوط المشروع الصهيوني ليس مجرد أمنية، بل احتمالاً تاريخياً ملموساً.
هذا التحوّل النفسي الاستراتيجي سيترك أثراً بعيد المدى على توازن القوى، ويعزز اليقين بأن تحرير القدس ليس مستحيلاً.
تغيّر خريطة القوى العالمية
أثبتت الحرب أنّ قضية فلسطين لم تعد هامشية، بل أصبحت عاملاً استراتيجياً في إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية والدولية. ضغوط الشعوب باتت تؤثر في سياسات الدول، وتعاطف العالم يتزايد، وفلسطين عادت إلى قلب الجغرافيا السياسية.
وفي ظلّ تراجع الهيمنة الأمريكية وصعود قوى جديدة كالصين وروسيا، يمكن أن تلعب فلسطين دوراً أساسياً في صياغة نظام عالمي متعدد الأقطاب. وهو ما يفتح فرصة استراتيجية أمام الأمّة الإسلامية لتعزيز موقعها على الساحة الدولية.
وعي التحوّل الكبير
أخطر ما قد يواجه المسلم أن يعجز عن إدراك طبيعة المرحلة التي يعيشها. حرب غزّة أوضحت أنّنا في زمن استثنائي يتغيّر فيه الوعي والخرائط والتحالفات.
هذا الوعي يجب أن يتحوّل إلى خطط عملية طويلة المدى، لا مجرّد ردود فعل عاطفية. برامج لإحياء الهوية، وبناء القوة، وإطلاق مشروع حضاري متكامل.
خاتمة: فرصة التاريخ
حرب غزّة 2023 ليست مواجهة عسكرية عابرة، بل محطة يقظة كبرى:
سقوط الأقنعة الاستعمارية.
عودة الإسلام مركزاً للمقاومة.
انبعاث روح الوحدة.
انكشاف ضعف المشروع الصهيوني.
إنها إنذار تاريخي وفرصة ذهبية معاً. فإذا أحسن المسلمون استثمارها، انفتح الطريق نحو تحرير فلسطين وزوال الصهيونية. أما إذا ضاعت، فستتحول إلى مأساة جديدة من مآسي غفلة الأمة.
إنّ التاريخ لا ينتظر المترددين. غزّة 2023 نداء عاجل للأمة أن تتحرك بوعي وسرعة ودقة.