
تُرى لماذا أوقفوا الحرب على غزة؟!
نوفمبر 8, 2025الأستاذ الدكتور قيس عبد العزيز الدوري
أستاذ التاريخ الإسلامي
إن الحديث عن النبي محمد ﷺ ليس مجرد سردٍ لسيرة قائد أو مصلح، بل هو استعراض لجوانب عبقرية متفردة، اجتمعت فيها كمالات البشر وأخلاق الرسل، فأقام حضارة، وغيّر مجرى التاريخ، وترك بصمات لا تُمحى في كل زاوية من زوايا الحياة.
لقد كان ﷺ آية في كل مجال، تتجلى عظمته في تفاصيل شخصيته ومنهج حياته، كما رصدتها كتب السيرة النبوية الشريفة وأمهات كتب الحديث والأئمة الكبار.
- العبقرية الشاملة والقيادة الفذة
كانت عبقرية النبي ﷺ قيادة شاملة لم تقتصر على جانب واحد. فقد أرسل الله تعالى رسالة الإسلام الخاتمة على يديه، فكانت رسالة كاملة شاملة للحياة. في مجتمع جاهلي يعج بالنزاعات القبلية، استطاع أن يؤسس دولة متماسكة في المدينة المنورة، ووضع دستوراً فريداً (صحيفة المدينة) ضمن حقوق جميع الطوائف، وأرسى مبادئ العدل والتعايش. هذه الوحدة لم تكن بالقوة، بل بالبصيرة والحكمة وربط القلوب.
القاضي عياض في كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، يعرض جوانب متعددة من كمالاته ﷺ، من جمال الخَلق والخُلق، إلى جمعه لكل الفضائل والمحاسن، مما يدل على أن عظمته لم تكن في جانب واحد فقط، بل كانت منظومة متكاملة من الكمال البشري والنبوة الربانية.
كان ﷺ صاحب رؤية استراتيجية بعيدة المدى، فخطط للهجرة، وبنى مجتمعاً متآخياً بين المهاجرين والأنصار، وأسس جيشاً قوياً، وانتصر على أعدائه بحكمته وشجاعته، فاتحاً مكة بسلام، ومحققاً نصراً عظيماً دون إراقة دماء تُذكر.
- العبقرية الطبية: أسس الطب النبوي
لم يكن النبي ﷺ طبيباً بالمعنى الأكاديمي، لكن توجيهاته وممارساته شكلت ما عُرف بـ”الطب النبوي”، الذي جمع بين الوقاية والعلاج، وبين الجانب المادي والروحي. أظهر فهماً عميقاً للصحة والمرض، سبقت عصره بكثير:
- الطب الوقائي: حث على النظافة الشخصية (الوضوء، السواك، الاغتسال) والعامة، والاعتدال في الطعام والشراب (كما في حديث “بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه…”)، وإرشاده للحجر الصحي عند انتشار الأوبئة بقوله: “إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها فراراً منه”. هذه التوجيهات تُعد ركائز الصحة العامة الحديثة.
- الطب العلاجي: أوصى بالاستشفاء بمواد طبيعية أثبت العلم الحديث بعضاً من فوائدها، كالعسل ﴿فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ﴾ [النحل: 96]، والحبة السوداء “شفاء من كل داء إلا السام”، والحجامة. كما لم يغفل الجانب النفسي والروحي، فكان يعالج بالدعاء والرقية الشرعية، مؤكداً على أن الشفاء بيد الله، وهذا يبرز فهمه للعلاقة الوثيقة بين الروح والجسد. هذه الإرشادات موجودة في كتب مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم، وجمعها علماء مثل ابن القيم الجوزية في كتابه “الطب النبوي”.
- عبقريته في مفهوم الزمن وإدارته
كان النبي ﷺ آية في تقدير الزمن وإدارته بفعالية غير مسبوقة. لم يكن الزمن لديه مجرد دقائق تمرّ، بل فرصة للبناء والعطاء.
- قيمة الوقت: علّم أمته قيمة الوقت بقوله: “نِعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ”. وحثّ على اغتنام الأوقات قبل فواتها: “اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك…”.
- التنظيم والانضباط: كانت حياته مثالاً للتنظيم الدقيق، فقسّم وقته بين العبادة، والدعوة، وإدارة الدولة، وشؤون أهله. إقامة الصلوات في أوقات محددة غرست الانضباط الزمني في الأمة.
- الرؤية الاستشرافية: لم يكن تخطيطه آنياً، بل امتد لقرون، فرسم معالم حضارة إسلامية عالمية، ووضع أسسها الفكرية والتشريعية، مما يدل على عبقرية في استشراف المستقبل ووضع خطط بعيدة المدى.
- عبقريته في مفهوم النجوم والفلك
لم يكن النبي ﷺ عالماً بالفلك بمعناه التخصصي الحديث، لكن عبقريته تجلت في:
- الحث على التأمل في آيات الله الكونية: القرآن الكريم الذي أُنزل عليه مليء بالآيات التي تدعو الإنسان للتفكر في خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم كدلائل على عظمة الخالق وقدرته، كما في قوله تعالى: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن: 5].
- الاستخدام العملي للظواهر الفلكية في الشعائر: وجّه أمته للاستعانة بالنجوم والشمس والقمر لتحديد أوقات الصلوات واتجاه القبلة، وتحديد بداية الشهور الهجرية برؤية الهلال، مما أدى لاحقاً إلى ازدهار علم الفلك الإسلامي، لحاجة المسلمين لهذه الحسابات الدقيقة.
- الفصل الحاسم بين علم الفلك والتنجيم: من أعظم جوانب عبقريته في هذا المجال هو تحذيره الشديد من التنجيم الذي يدّعي معرفة الغيب، مؤكداً أن علم الغيب لله وحده. هذا الفصل الواضح وجّه العقل المسلم نحو العلم النافع القائم على الملاحظة والحساب، بعيداً عن الخرافة والدجل.
خاتمة
إن عبقرية النبي ﷺ كانت نوراً أضاء الكون، لم تقتصر على بُعد واحد، بل شملت كل جوانب الحياة. كانت عبقرية قيادة وتخطيط، وإصلاح وتوجيه، تجمع بين الحكمة والبصيرة، والرحمة والعدل. هي عبقرية تجسّدت في بناء أمة عظيمة، تركت إرثاً حضارياً وعلمياً وأخلاقياً خالداً، يشهد على عظمته وكونه رحمة للعالمين، ﷺ تسليماً كثيراً.




