
وماذا سنفعل بنصوص (جهاد الغزو)؟
أكتوبر 8, 2024
التضحية والثبات في غزوة أحد (2/2)
أكتوبر 8, 2024د. عبد الرحمن البر – فك الله أسره –
في عرضه الرائع لدروس غزوة أحد وما جرى فيها تحدث، ابن القيم عن طائفة من المسلمين ﴿قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ یَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِۖ﴾ [آل عمران: 154]، وذكر أنه فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله ﷺ وأن أمر دينه سيضمحل. وفسر بظنهم أن: ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه. وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى.
وقد كانت هذه الطائفة ﴿یَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَیۡءࣲۗ﴾ [آل عمران: 154]، ويتصورون أن الأمر لو كان بأيديهم ولو كان رسول الله ﷺ وأصحابه تبعًا لهم يسمعون منهم لما أصابهم القتل، فأجابهم الحق سبحانه: ﴿قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ﴾؛ فلا يقع إلا ما سبق به قضاؤه وقدره، وجرى به علمه وكتابه السابق، وما شاء الله كان ولا بد، وما لم يشأ لم يكن، شاء الناس أم أبوا، وأنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كُتب القتل على بعضكم ﴿لَبَرَزَ ٱلَّذِینَ كُتِبَ عَلَیۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ﴾.
وإنما كان ظنهم هذا ظن السوء وظن الجاهلية؛ لأنه يناقض ما يليق بحكمته سبحانه وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون، فإن حمده وعزته وحكمته وإلهيته تأبى ذلك الخلف، وتأبى أن يذل حزبه وجنده، وتأبى أن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه.
فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه ولا عرف صفاته وكماله.
الظانون بالله غير الحق اليوم
إن القرآن لا يكتفي بحكاية أحوال الظانين ظن السوء والرد عليها، ولكنه يجعل من ذلك فرصة لعلاج أمراض النفوس، والتسلل إلى مواطن الضعف والانحراف لكشفها وعلاجها، ثم لإقرار الحقائق الباقية والقيم الثابتة، وقواعد الشعور والتصور والسلوك الصحيح.
وهذا ما نسعى إليه ونحن نراجع مواقف البعض ممن انهزموا أمام ضغوط الانقلاب الدموي، واهتزوا أمام الشدة، فساء ظنهم بالله، آملين أن يفيئوا للحق ويثوبوا للرشد إن شاء الله.
ولئن كان ظن السوء معيبًا من العامة ومن محترفي الأكل على موائد الظالمين، فإنه يكون مؤلمًا لنفوس الأحرار حين يحصل من فئات من أهل العلم والمعرفة الذين أوتوا حظًا من العلم، ورزقوا قبولًا في الدعوة:
• فمن هؤلاء من بدا كأنهم أيسوا من روح الله ومن نصره للصالحين، وظنوا بغير الحق ألا سبيل للحق والعدل، وألا مستقبل لدعوة الإسلام في ظل الهيمنة المادية لقوى البغي والعدوان المتعاونة على إبطال الحق وإحقاق الباطل، فأسلمهم الجبن وخشية الظالمين إلى التأخر عن الجهر بالحق في وجه الظالمين، والتمسوا المبررات للانسحاب من أعظم ميادين الجهاد، بعد أن كان بعضهم يرفع عقيرته بالإنكار على الرئيس الشرعي لدى أدنى إشارة عن خطأ أو شبهة خطأ؛ إذ كانوا يأمنون العاقبة، ويدركون اتساع صدر الرجل للنصح والنقد.
وهؤلاء نذكرهم بقول رسول الله ﷺ: “لا يحقر أحدكم نفسه”. قالوا: يا رسول الله كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: “يرى أمرًا لله عليه فيه مقال، ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول: فإياي كنت أحق أن تخشى”.
o ومنهم من تجاهل كل ما كان يشدد عليه من معاني الولاء والبراء، وجعل فتنة الناس كعذاب الله، فوالى الظالمين، واصطف في خندق الشامتين بأهل الدعوة والمخذلين لهم، وظنوا غير الحق بالله سبحانه أنه لا يوالي أهل الحق ولا ينصرهم، وأنه لا يغضب ولا يسخط على الباغين الظالمين، وأن دعوة الحق انهزمت أمام الانقلابيين والظلمة الذين يمسون أهلها بالعذاب قتلًا وسجنًا وتشريدًا، فرغبوا بأنفسهم عن نصرة الحق؛ أملًا في النجاة بأنفسهم، وطمعًا في الحظوة لدى الانقلابيين، الذين يملكون أسباب الغلبة والقوة، وما هم بحاصلين منهم على شيء.
وما أشبه موقفهم بموقف الأعراب الذين قال لهم الحق سبحانه: ﴿بَلۡ ظَنَنتُمۡ أَن لَّن یَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِلَىٰۤ أَهۡلِیهِمۡ أَبَدࣰا وَزُیِّنَ ذَ ٰلِكَ فِی قُلُوبِكُمۡ وَظَنَنتُمۡ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِ وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورࣰا﴾ [الفتح: ١٢].
لقد تناسوا كل ما يحفظونه من القرآن والسنة وما أثبتته وقائع الأيام من أن الأمور كلها تمضي بقدر الله ﴿وَلَوۡ شَاۤءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ﴾ [الأنعام: ١١٢]، وأن حكمته البالغة هي التي اقتضت أن يترك لشياطين الإنس والجن أن يتشيطنوا، وأن يؤذوا أولياءه فترةً من الزمان، ليرفع من يصبرون ويثبتون على ما معهم من الحق، ومن يخلصون له في السراء والضراء، وفي المنشط والمكره، ومن يثقون بوعده الصادق بأن الباطل إلى زوال، وأن العاقبة لأهل الحق والصلاح، الذين يحسنون الظن بالله.
موقفنا أمام هذه الأحداث والشخصيات
من فضل الله سبحانه أن هذه المواقف المتخاذلة وهذا الظن بغير الحق من هذه الفئات المتحولة لم يؤثر في الأغلب الأعم من أبناء الدعوة، وبقي موقفهم الثابت هو الإيمان الصادق بقضاء الله القاهر وقدره النافذ، والصمود والصبر الجميل على البلاء الواقع، والجهر المخلص بكلمة الحق، والتحرك الواعي العاقل مع الثوار الأحرار لدحر الباطل وكسر الانقلاب، واليقين التام بوعد الله الصادق بنصر المؤمنين، وحسن الظن بأحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين: أنه لا يضيع أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، وقد قال رسول الله ﷺ: “إن حسن الظن بالله من حسن عبادة الله”.
وقال ﷺ: “إن الله يقول: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني”.
وإني لأرجـــــو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: “والذي لا إله غيره ما أعطي عبد مؤمن شيئًا خيرًا من حسن الظن بالله عز وجل، والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله عز وجل الظن إلا أعطاه الله عز وجل ظنه؛ ذلك بأن الخير في يده”.
هي الأيـــــــــام والغــــــــــير وأمــر الله منتــــــــــــــــــظر
أتيأس أن ترى فـــرجًــــــا فأين الـــرب والقــــــــــــــدر
ولذلك فالصادقون يجتهدون في العمل وفق سنن الله، ويسعون لكشف المحنة، ومع الأيام يقوى الرجاء وتقوى الثقة والأمل في تحقيق وعد الله بالنصر والتمكين للصالحين، مهما اشتط الانقلابيون في الظلم، ومهما أمعنوا في القمع، بل إنهم كلما ازدادوا غيًا وإمعانًا في الظلم كلما قوي أملنا في قرب سقوطهم وانتصار الثورة بإذن الله.
إذا اشتد البلاء فتيقن من قرب الفرج
فمع تعاظم المحنة وبلوغ الشدة منتهاها يقترب فرج الله وفضله، بعد أن كاد الناس ييأسون ﴿حَتَّىٰۤ إِذَا ٱسۡتَیۡـَٔسَ ٱلرُّسُلُ وَظَنُّوۤا۟ أَنَّهُمۡ قَدۡ كُذِبُوا۟ جَاۤءَهُمۡ نَصۡرُنَا فَنُجِّیَ مَن نَّشَاۤءُۖ وَلَا یُرَدُّ بَأۡسُنَا عَنِ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡمُجۡرِمِینَ﴾ [يوسف: ١١٠]. وقد قال النبي ﷺ: “ضحك ربنا عز وجل من قنوط عباده وقرب غِيَره”. (أي: سرعة رحمته لكم وتغيير ما بكم من ضر)، وفي رواية قال: “وعلم يوم الغيث، يشرف عليكم آزلين آزلين (صائرين إلى الضيق والشدة) مشفقين، فيظل يضحك، قد علم أن غيركم (أي تغير حالكم من الشدة إلى الفرج) إلى قرب”، وفي رواية: “وقد علم أن غوثكم قريب”، وفي رواية: “وقد علم أن فرجكم قريب”.
قال الصحابي: قلت: لن نعدم من رب يضحك خيرًا.
وقيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: أجدبت الأرض وقنط الناس، قال: “مطروا إذَن”. وفي رواية: “مطرتم”.
وأخذ ذلك من هذه الآية ﴿وَهُوَ ٱلَّذِی یُنَزِّلُ ٱلۡغَیۡثَ مِنۢ بَعۡدِ مَا قَنَطُوا۟ وَیَنشُرُ رَحۡمَتَهُۥۚ وَهُوَ ٱلۡوَلِیُّ ٱلۡحَمِیدُ﴾ [الشورى: ٢٨]، ومن هذه الآية ﴿فَإِذَاۤ أَصَابَ بِهِۦ مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۤ إِذَا هُمۡ یَسۡتَبۡشِرُونَ * وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلِ أَن یُنَزَّلَ عَلَیۡهِم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمُبۡلِسِینَ ﴾ [الروم: ٤٨].
قال علي رضي الله عنه: “عند تناهي الشدة تكون الفرجة، وعند تضايق حلق البلاء يكون الرخاء”.
فإذا احلولك الليل انبلج الصبح، وإذا اشتدت ظلمة الغيث لمع البرق، وإذا شد الحبل انقطع.
إذا الحادثات بلغن المـــــدى وكادت لهن تذوب المهج
وحل البلاء وقل الوفـــــا فعند التناهي يكون الفرج
ولقد اشتد أمل يعقوب في العثور على يوسف عليهما السلام بعد أن بلغت الشدة أوجها بفقد الولد الثاني، فقال ﴿فَصَبۡرࣱ جَمِیلٌۖ عَسَى ٱللَّهُ أَن یَأۡتِیَنِی بِهِمۡ جَمِیعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ [يوسف: ٨٣] وبث في بنيه اليقين والأمل في روح الله، وقال: ﴿یَـٰبَنِیَّ ٱذۡهَبُوا۟ فَتَحَسَّسُوا۟ مِن یُوسُفَ وَأَخِیهِ وَلَا تَا۟یۡـَٔسُوا۟ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا یَا۟یۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ﴾ [يوسف: ٨٧].
وحقق الله رجاءه وجمعه بأبنائه، بعد أن كان البعض يعتبر الحديث عن يوسف لونًا من الخرف ويقول: ﴿تَٱللَّهِ إِنَّكَ لَفِی ضَلَـٰلِكَ ٱلۡقَدِیمِ﴾ [يوسف: ٩٥].
أيها الثوار الأحرار الكرام
اجعلوا حسن الظن بفرج الله شعاركم، ولا تدعوا للإحباط سبيلًا إلى نفوسكم، واعلموا أن لكل شيء نهايةً، وهذا البلاء الانقلابي إلى زوال قريب بإذن الله:
قال رسول الله ﷺ: “قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء”.
فلا تظن بربك ظن سوء فإن الله يأتي بالجميل
وظن بنفسك السوآى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل
فثقوا بالله وأحسنوا الظن به، واستمروا في تصعيدكم الثوري السلمي المبدع، ووحّدوا جهودكم ثم ائتوا صفًا واحدًا، وأبشروا وانتظروا الفرج القريب من الله.
أحسن الظن برب عودك حسنًا أمس، وســـوى أودك
إن ربًا كان يكفيك الـــذي كان بالأمس سيكفيك غدك
جعلنا الله ممن يحسنون الظن به، وحقق لنا الفرج القريب بحسن ظننا فيه، إنه سميع قريب مجيب الدعاء.
ــــــــــــــــ
- عبد الرحمن البر، موقع إلكتروني: جماعة الإخوان المسلمين بالأردن، 8 مارس 2021م.