
أوقفوا تصدير البترول
مارس 25, 2025
﴿إن الناسَ قدْ جمعوا لكمْ﴾
مارس 27, 2025د. عبد العزيز الطريفي – فك الله أسره*
قال تعالى: ﴿إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 246]، وقال: ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ [البقرة: 246].
في الآيةِ: ذِكْرٌ لشريعةِ الجهادِ وقِدَمِها في بني إسرائيلَ، وأنَّ اللهَ كتَبَها على أنبياءَ وأُمَمٍ قبلَ محمَّدٍ ﷺ، واللهُ لم يُوجِبْ على كلِّ نبيٍّ جهادَ الطَّلَبِ، ولكنَّه أَوْجَبَ جهادَ الدَّفْعِ على كلِّ أُمَّةٍ، بل لو لم يَنزِلْ به نقلٌ، لوجَبَ بالعقلِ؛ فلا يُسلمُ الإنسانُ عِرْضَهُ ودَمَهُ ومالَهُ لِمَنْ أرادَهُ؛ وهذا لا يَصِحُّ مِن حيوانٍ بَهِيمْ، فضلاً عن إنسانٍ كريمْ.
وقِيلَ: إنَّ النبيَّ المذكورَ في الآيةِ شمويلُ بنُ بالي بنِ عَلْقمةَ؛ قاله وَهْبُ بنُ منبِّهٍ1.
وقيل: شَمْعُونُ؛ قاله مجاهدٌ والسُّدِّيُّ وغيرُهما2.
وقال قتادةُ: هو يُوشَعُ بنُ نُونٍ3.
وفي الآيةِ: إشارةٌ إلى كثرةِ الأنبياءِ مِن بعدِ موسى وقبلَ عيسى، وكانت الأنبياءُ بينَهما تجدِّدُ ما في التوراةِ ممَّا أَمَاتَهُ الناسُ ونَسُوهُ وحَرَّفُوهُ، حتى جاءَ عيسى فغَيَّرَ اللهُ له مِن شِرْعةِ موسى أحكامًا؛ كما في قولِه: ﴿وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ [آل عمران: 50].
حكمُ القتالِ والحكمةُ منه
وفي الآيةِ: وجوبُ القتالِ في سبيلِ اللهِ جماعةً، وألاَّ يتفرَّقَ الناسُ مع إمكانِهِمْ إلى الجمعِ، وقد طلَبَ الملأُ مِن بني إسرائيلَ مِن نبيِّهم مَلِكًا ـ أيْ: خليفةً وأميرًا ـ يأتَمِرُونَ بأمرِه، ويَجْتمِعونَ عليه، وكان في بني إسرائيلَ ملوكٌ، والملوكُ تأتمِرُ بأمرِ الأنبياءِ، وقد كان في زمانِهم جَبَابِرةٌ وعَمَالِقةٌ يتسلَّطونَ عليهم بإخراجِهِمْ مِن ديارِهِمْ وأبنائِهِمْ وأموالِهِمْ؛ كما قاله ابنُ عبَّاسٍ والسدِّيُّ وغيرُهما4.
وفي الآيةِ: رحمةُ النبيِّ بأُمَّتِهِ أنْ خَشِيَ إنْ كُتِبَ عليهِمُ القتالُ ألاَّ يُقاتِلوا فيأثَمُوا، وهم في سَعَةٍ قبلَ فَرْضِهِ عليهِم؛ وذلك لِمَا عَلِمَهُ مِن سابقِ حالِهِمْ مِن تفريطٍ وعدمِ وفاءٍ، وفي هذا ألا يقدِّمَ الأميرُ للقتالِ إلا أهلَ العزمِ والشِّدَّةِ والثَّبَاتِ؛ حتى لا يُخذَلَ المسلِمونَ، وإنْ أخرَجَهُمْ إلى الجهادِ لِطَلَبِهم أو لأَمْنِ مَكْرِهم؛ ألاَّ يَخْلُفُوهُ في بلدِهِ بِسُوءٍ، فلا يَجْعَلْهم محلَّ اعتمادِهِ فيَنفرِدُوا بحمايةِ ثَغْرٍ، فيتسلَّلَ عدوٌّ مِن جِهَتِهِم.
وقد كان المنافِقونَ يخرُجُونَ مع النبيِّ ﷺ وهو يَعْلَمُهم؛ تأليفًا لهم، أو طمَعًا في مَغْنَمٍ، وأَمْنًا مِن أنْ يَخْلُفُوهُ بشرٍّ، وإذا دخَلَتِ الدُّنيا في قلبِ المجاهِدينَ، وقَعَ التنازُعُ في صورةِ الانتصارِ للحقِّ، ونزَلَ الافتراقُ وتَبِعَهُ الفَشَلُ، وكلَّما كانَ الإنسانُ أقربَ إلى الآخرةِ، فالقليلُ مِن الدُّنيا ثَقيلٌ عليه، فالمقاتِلُ أقرَبُ للموتِ مِن المسالِمِ، فوجَبَ عليه أن يدَعَ الدُّنيا وطَمَعَ النفسِ؛ حتى لا يُفسِدَ عليه ذلك جهادَهُ وجهادَ الأُمَّةِ، وإذا وقَعَ في الأُمَّةِ فشلٌ، فلْيُفتَّشْ عن طمعِ الدُّنيا؛ فإنَّ المجاهِدِينَ يُهْزَمُونَ بسببِ أطماعِ القلوبِ، وخفايا الذنوبِ؛ ففي أُحُدٍ قال ابنُ مسعودٍ: “لَوْ حَلفْتُ يَوْمَ أُحُدٍ، رَجَوْتُ أنْ أَبرَّ: إِنَّهُ ليسَ أَحدٌ مِنَّا يُرِيدُ الدُّنيا، حتى أَنزَلَ اللهُ عزّ وجل: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾” [آل عمران: 152]5.
وكلَّما كان العبدُ في مكانٍ أعظَمَ، فالمؤاخَذَةُ عليه أكبَرُ؛ فالمجاهِدُ في موضِعٍ عظيمٍ، وأمَلُهُ قصيرٌ يقتضي التجرُّدَ؛ فمِلْءُ الكفِّ مِن الهَوَى يُفسِدُ عليه ما يُفسِدُهُ مثاقيلُ الهَوَى على غيرِ المجاهِدِ.
الاجتماعُ في القتالِ
وفي الآيةِ: مسألتانِ مُهِمَّتانِ هما المَقْصُودتانِ مِن ذِكْرِ الآية هُنا:
أُولاَهما: في قولِهِ تعالى: ﴿ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، وقولِهِ تعالى بعد ذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا﴾ [البقرة: 247]؛ وذلك لوجوبِ التأميرِ في الجهادِ، أميرًا تجتمِعُ عليه الكلمةُ، ويَقْوَى على مقابَلةِ العدوِّ؛ وذلك أنَّ الجِهادَ يحتاجُ إلى تعاضُدٍ بينهم وتآمُرٍ على العدوِّ؛ وهذا لا يكونُ إلا باجتماعٍ؛ وهذا يدلُّ عليه العقلُ والنقلُ، وكان النبيُّ ﷺ لا يَبْعَثُ جيشًا ولا سَرِيَّةً إلا أمَّرَ عليهِم أميرًا، وفي الحديثِ: كان النبيُّ ﷺ إذا بعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أو جَيْشٍ، أَوْصَاهُ بتَقْوَى اللهِ6.
التأميرُ وأهميَّتُهُ
بل كان النبيُّ ﷺ يَحُثُّ على التأميرِ في كلِّ سَفَرٍ ولو في أَمْنٍ؛ كما في حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ؛ قال ﷺ: “إِذَا خَرَجَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ، فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ”7، وجاء مِن حديثِ أبي هريرةَ مرفوعًا: “إِذَا كَانَ ثَلاَثَةٌ فِي سَفَرٍ، فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ”8.
وهذا اجتماعٌ قليلٌ أمَرَ بالإمارةِ فيهِ؛ فكيف بما هو أكثَرُ منه؟! وكلَّما كَثُرَ الناسُ وضَعُفَتِ الإمامةُ فيهم، وَهَنُوا؛ فالإمامُ يُقِيمُ الحدودَ، وينصُرُ المظلومَ، ويُهِيبُ مَنْ يتربَّصُ الفسادَ، وكثيرًا ما يَظُنُّ العامَّةُ أنَّ أَمْرَهُمْ مستقيمٌ تحتَ إمامٍ صالِحٍ، فيَظُنُّونَ أنَّ استقامةَ أمرِهِم لصلاحِهِم، فلا يَرَوْنَ لإمامِهِمْ حاجةً، فإذا زالَ الإمامُ، أفسَدَ بعضُهُمْ بعضًا، وقتَلَ بعضُهُمْ بَعضًا، وظهَرَتِ الأطماعُ ومكامِنُ الأهواءِ التي يَدفِنُها الإمامُ فيهم بِهيْبَتِهِ.
والجهادُ أحوَجُ إِلى الجماعةِ؛ لأنَّ مصلحتَهُ عامَّةٌ؛ نُصْرةً وعِزَّةً وتمكينًا، ومفسدتَهُ عامَّةٌ؛ خِذْلانًا وهَوَانًا وشَتَاتًا، تُحفَظُ بالجهادِ الضروريَّاتُ الخمسُ، وبفسادِهِ تَضِيعُ؛ لذا فالجهادُ موكولٌ إلى الإمامِ يرفَعُ رايتَهُ، ويسالِمُ ويعاهِدُ، ولا تتحقَّقُ مصالحُ الدِّينِ وتكتمِلُ مصالحُ الدُّنيا إلا بالإمامةِ والاجتماعِ عليها؛ فالناسُ بلا إمامٍ صالِحٍ كالجَسَدِ بلا رأسٍ صحيحٍ.
وإذا صحَّ الجهادُ وقامَ سببُهُ المشروعُ، فهل يَجِبُ في ذلك إذنُ الإمامِ؟ للعلماءِ في ذلك أقوالٌ ثلاثةٌ:
ذهَبَ الجمهورُ: إلى وجوبِهِ؛ وهو قولُ المالكيَّةِ والحنفيَّةِ، وقولٌ للحنابلةِ، وهو الأصحُّ إذا كان الإمامُ مِمَّنْ يُقِيمُ الجهادَ ويُعِدُّ له العُدَّةَ ولو تَرَبَّصَ وتَمَهَّلَ.
وذهَبَ الشافعيَّةُ: إلى الكراهةِ مع الجوازِ.
وذهَبَ الظاهريَّةُ: إلى الجوازِ بلا كراهةٍ.
وأصولُ العلماءِ تَتَّفِقُ على أنَّ مَنْ لا يُقِرُّ بشِرْعةِ الجهادِ أصلاً لا يُشتَرَطُ إذنُ الجهادِ منه؛ لأنَّه لا يُقِرُّ بأصلٍ؛ فكيف يُؤتَمَنُ على فَرْعٍ؟!
فالإذنُ إنَّما رُبِطَ بالإمامِ لأنَّه يَعرِفُ مواضعَ الثغورِ، وأَزْمِنةَ الغَزْوِ، والفاضلَ مِن المفضولِ مِنها، وأماكنَ الحاجةِ، وقُوَّةَ العدوِّ وضَعْفَهُ، وإذا كان الإمامُ لا يُؤمِنُ بشِرْعةِ الجهادِ، فلا تُشرَعُ له لوازِمُهُ.
وإذا تعدَّدتْ بُلْدانُ الإسلامِ، فلكُلِّ بَلَدٍ إمامُهُ؛ يُقِيمُ جهادَهُ، ويَرفَعُ لواءَهُ، وله حقوقُهُ ولوازِمُه، وعليه تَبِعَاتُه، ولا يُطلَبُ مِن إمامٍ إذنٌ لجهادٍ في غيرِ وِلاَيتِه؛ لأنَّ إذنَهُ حقٌّ له فيما تقَعُ عليه يدُه، فهو يُبصِرُ مصلحتَه، ويَرَى مفسدتَه، ولغيرِهِ على أرضِه يدٌ، وله عَيْنٌ، يُبصِرُ ما لا يُبصِرُهُ غيرُه، ويَشْهَدُ ما لا يَشْهَدُه.
وقد قاتَلَ أبو بَصِيرٍ بمَنْ معَهُ المشرِكِينَ، وتربَّصَ بِعِيرِهِمْ وقَوَافِلِهم، فلم يكُنْ تحتَ رايةِ النبيِّ ﷺ؛ لأنَّه لم يكنْ في أرضِهِ ولا تحتَ أمرِهِ سياسةً، وإنْ كان تحتَ أمرِه شِرْعةً، فلم يأمُرْهُ النبيُّ ﷺ ولم يَنْهَهُ، بل مدَحَهُ وقال: “مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ”9، ولم يطلُبْ هو مِن النبيِّ ﷺ إذنًا مع نزولِ الوحيِ وعِصْمةِ المُوحَى إليه.
شروطُ جهاد الدفعِ
وأمَّا جهادُ الدفعِ، فليس له شرطٌ؛ فإذا دهَمَ العَدُوُّ بَلَدًا، وجَبَ على أهلِها الدفعُ عن حِمَاهُم؛ كلٌّ بما يستطِيعُهُ، جماعةً أو فُرادى، رجالاً أو نساءً، وإنْ تعذَّرَ اجتماعُهُمْ، فيسقُطُ شرطُ الاجتماعِ، فيقاتِلُونَ فُرادى، وإنْ تعذَّرَ الإمامُ، فيقاتِلُونَ بلا إمامٍ.
وهؤلاءِ المَلَأُ مِن بني إسرائيلَ إنَّما طلَبُوا مِن نبيِّهم مَلِكًا يقاتِلُونَ معه، وجهادُهُمْ جهادُ دفعٍ، كما في قولِه: ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا﴾ [البقرة: 246]؛ لأنَّهم أُخرِجُوا مِنْ أَرْضِهم، فلم يتمكَّنوا مِن الدفعِ، فاجتمَعُوا في غيرِ أرضِهم بعدَ إخراجِهِمْ، فأرادُوا القتالَ بإمامٍ لتمكُّنِهِمْ مِن تحقيقِ ذلك.
وإذا تمكَّنَ أهلُ البلدِ مِن الاجتماعِ على إمامٍ يقاتِلُونَ معه عن أرضِهِمْ وعِرْضِهِمْ ودَمِهِمْ، وجَبَ عليهم ذلك ولو كان جهادَ دفعٍ، وإنَّما سقَطَ وجوبُ الإمامِ عن جهادِ الدفعِ؛ لأنَّ الغالِبَ العجزُ عن تحقُّقِهِ والتمكُّنِ منه، وإذا اتَّسَعَتِ البلدُ، وعجَزُوا عن الاجتماعِ على إمامٍ واحدٍ، فيجتمِعونَ جماعاتٍ ما أمكَنَهُمْ، وإذا مُكِّنُوا اجتمَعُوا على جماعةٍ واحدةٍ.
المسألةُ الثانيةُ: سُمِّيَ القتالَ في الآيةِ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾، مع كونِهِم يقاتِلُونَ بسببِ إِخراجِهم مِن ديارِهِمْ وأبنائِهِمْ، لا لإعلاءِ كلمةِ اللهِ وإقامةِ حُكْمِه؛ وذلك لأنَّ جِهادَ الدفعِ عنِ النفسِ والعِرْضِ والمالِ لا تُشترَطُ له نِيَّةٌ؛ لما جاءَ في «الصحيحَيْنِ»؛ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو؛ قالَ: قالَ ﷺ: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ”10، وفي «السننِ»؛ مِن حديثِ سعيدِ بنِ زيدٍ مرفوعًا: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ، أَوْ دُونَ دَمِهِ، أَوْ دُونَ دِينِهِ، فَهُوَ شَهِيد”11.
قال تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 247].
جعَلَ اللهُ لبني إِسرائيلَ طَالُوتَ مَلِكًا يقاتِلُ بهم، ويقاتِلُونَ معه، وذكَرَ اللهُ نزاعَهُم بعد طلبِهم منه الملِكَ، فرَأَوْا أنَّهم أَحَقُّ منه بالوِلاَيةِ؛ وذلك لأنَّهم رأَوْا مِن أمرِ دنياه ما لا يستحسِنُونَهُ بنفوسِهِم، فاستنقَصُوهُ نَسَبًا؛ فكانَ مِن سِبْطِ بِنْيامِينَ، ولم يَكُنْ فيهم مَمْلَكةٌ ولا نُبُوَّةٌ؛ قالَهُ قتادةُ وغيرُه12.
وروى عمرُو بنُ دِينَارٍ، عن عِكْرِمةَ؛ قال: كان طالوتُ سَقَّاءً يَبِيعُ الماءَ. أخرجَهُ ابنُ جريرٍ13؛ ولذا قالُوا: ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا﴾.
وهذه المآخِذُ ليست محلَّ تفضيلِهِ عليهم في القتالِ؛ ولذا قالَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾، وشروطُ الوِلاَياتِ تختلِفُ بحَسَبِ منازلِها؛ فوِلاَيةُ الجهادِ تختلِفُ عن ولايةِ الإمامِ في الصلاةِ، ووِلاَيةِ المالِ، وولايةِ القضاءِ والحدودِ، وولايةِ الأيتامِ والأعراضِ.
والمقصودُ بالعلمِ هنا هو: العِلْمُ بالقتالِ والحربِ، والكَرِّ والفَرِّ، وأَحكامِ العدوِّ رجالاً ونساءً وشيوخًا، وأحكامِ المهادَنةِ والمسالَمةِ؛ حتَّى لا يقَعَ الظلمُ.
قال وهبُ بنُ منبِّهٍ وغيرُهُ في عِلْمِ طالوتَ: هو العِلْمُ بالحربِ14.
اشتراطُ العلمِ للوالي بما يلي:
وإنَّما يُشترَطُ لكلِّ والٍ عِلْمُهُ بأحكامِ ولايتِهِ، لا مطلَقُ العِلْمِ أو العِلْمُ المطلَقُ؛ فوِلاَيةُ أميرِ الجَيْشِ في غزوٍ غيرُ ولايةِ أميرِ الناسِ في الحجِّ؛ فالأولُ: يجبُ أن يكونَ بصيرًا بعِلْمِ الجهادِ، والثاني: يجبُ أنْ يكونَ بصيرًا بعِلْمِ المناسكِ، وأميرُ القضاءِ: يجبُ فيه عِلْمُ العقوباتِ حدودًا وتعزيراتٍ، وفقهُ النكاحِ والطلاقِ والعِدَدِ والمواريثِ، وكلِّ ما يتعلَّقُ بفصلِ النِّزاعِ؛ كالبيوعِ، والتجارةِ، وغيرِها، ولا يجبُ عليه الفِقْهُ بمسائلِ ودقائقِ العباداتِ كالطَّهارةِ والصِّيامِ والصَّلاةِ والمناسكِ، إلا ما يُقِيمُ به دِينَهُ منها؛ لأنَّ هذا واجبٌ على المُفْتِي لا على القاضي.
وكلَّما تلبَّسَ الإنسانُ بعملٍ، وجَبَ عليه التفقُّهُ فيه؛ ولذا قال عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: «لاَ يَبِعْ فِي سُوقِنَا إِلاَّ مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ»15، فيتفقَّهُ في البيعِ ولو لم يَفْقَهْ تفاصيلَ الصلاةِ والصيامِ والحَجِّ، ويكتفي بما يُقِيمُ دِينَهُ منها.
وإذا وُجِدَ اثنانِ لولايةِ الجهادِ: قويُّ الجَسَدِ شجاعٌ ضعيفُ الإيمانِ، وقَوِيُّ الإيمانِ ضعيفُ الجَسَدِ جَبَانٌ، فيُقدَّمُ الأولُ؛ لأنَّ الوِلاَيةَ ولايةُ جهادٍ، فتحتاجُ قُوَّةَ القلبِ والبدنِ مع أصلِ الإيمانِ؛ وبذلك يتحقَّقُ المقصدُ الشرعيُّ مِن تلك الولايةِ؛ وبهذا يقولُ أحمدُ وغيرُه، وهذا هو المقصودُ مِن بَسْطةِ الجِسمِ في الآيةِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عبد العزيز الطريفي، التفسير والبيان لأحكام القرآن، 1/507 وما بعدها.
1 «تفسير الطبري» (4/ 435 ـ 436).
2 «تفسير الطبري» (4/ 436).
3 «تفسير الطبري» (4/ 437).
4 «تفسير الطبري» (4/ 440 ـ 441).
5 أخرجه أحمد (4414) (1/ 463)، والطبري في «تفسيره» (6/ 141)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» (3/ 788).
6 أخرجه أحمد (22978) (5/ 352)، وأبو داود (2612) (3/ 37)، والنسائي في «السنن الكبرى» (8731) (8/ 97).
7 أخرجه أبو داود (2608) (3/ 36).
8 أخرجه أبو داود (2609) (3/ 36).
9 أخرجه البخاري (2731) (3/ 197)، وانظر: ابن هشام في «السيرة» (2/ 324).
10 أخرجه البخاري (2480) (3/ 136)، ومسلم (141) (1/ 124).
11 أخرجه أبو داود (4772) (4/ 246)، والترمذي (1421) (4/ 30)، والنسائي (4095) (7/ 116).
12 «تفسير الطبري» (4/ 450، 453).
13 «تفسير الطبري» (4/ 450).
14 «تفسير ابن أبي حاتم» (2/ 466).
15 رواه الترمذي.