ثورة نوفمبر الجزائر ية
نوفمبر 12, 2024الصحابة معجزة بحق (2/2)
نوفمبر 12, 2024بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فهذا استكمال للمقالين السابقين في العددين السابع والعشرين والثامن والعشرين تحت نفس العنوان، وأنا أكتب هذا المقال بعد استشهاد السنوار، نحسبه ولا نزكيه، وكثيراً ما تكون الأحداث هي تأريخ بحد ذاتها، وبحجم الحدث وتفاصيله يكون التصور للزمن عند من يأتي بعد، وهذا حدث كبير وفارق، ولعل هذا المقال يعيش فيأتي مَن يقرأه ليفهم حاضرنا الذي هو ماضيه.. فيحمد ربه على حاضره الذي هو مستقبلنا!
وسبحان مَن خلق الزمن الذي يحوي لحظات -بالنسبة لأعمالنا- إما فارغة وإما فارقة، وإن كل ما يحدث الآن ما هو إلا رسائل إيقاظ لهذه الأمة، كالطبيب الذي يجرح مريضه ليُبقي على حياته، وربما كواه بالنار، ويبدو أن حالة أمتنا مركبة عن سوابقها المشابهة، فقد طال الوقت منذ انزاحت عن صدارة الدنيا وسَلب الراية أتباع إبليس، ثم انزاحت رايتها عنها نفسها، والجروح منذ أمد طويل تنزف دماء ساخنة لا تبرد! فماذا في الأمة من مرض دفين عميق؟!
بديهي أن ما في المسلمين من ضعف بسبب تفرقهم، وتفرقهم بسبب إعراضهم عن الهوية التي تجمعهم، فعندما يقع بلد مسلم في كرب فإنه يستغيث بالمسلمين، ولا يستجيب من المسلمين إلا هؤلاء الذي يعرفون أن الإسلام وطن وانتماء وله حدود مرسومة مثل حدود الخارطة، وهذا المسلم مواطن له حقوق في دستور الإسلام المعروف.
فلماذا الحال على ما هو عليه؟ ببساطة لأن الانتماء ليس حاضراً بحقه، وكما أطنبت سابقاً فإننا سنناقش بديهيات وسنكررها كما كررناها سابقاً، تخيل معي أخاً يقف متفرجاً على أخيه وهو يُضرَب ضرب الموت ولا يفعل شيئاً وهو يقدر على نصرته.. بأي وصف يُذَم؟ يُذم بأنه بئس الأخ! أي يذم بالرابطة التي تربطه بأخيه، والرابطة هذه في حالتنا آيات مقدسة وأحاديث مشرّفة.
ندخل الآن داخل هذا الأخ المتخاذل سنجده شعباً وحكومة، وكما الواقع فإن الحكومات هي قيد الشعب ولجامه، فلنترك الحكومات ولنتغاضَ عن أنها جزء من الشعب، ولنذهب للمأمول وهو الشعب، فسنجده كأي شعب في الدنيا: نخبة وعوام، وبما أن الشعوب تتبع نُخَبها ولا تتحرك دونهم ولا تستكمل مسيرة -وهذه قاعدة- فمن المنطقي أن يكون اللوم على النخبة التي فشلت في التعاطي مع الحدث ولم تكن على مستواه، ودون أن ندخل في أعذار ومبررات، فإن الأمور يجب أن توزن هكذا والمسئوليات تحمّل هكذا !
إن كل من تصدر أو شارك في أمر يؤثر على حياة الناس بحسن قصد أو بسوئه فهو موقوف مسؤول، وبما أن هذا هو واقعنا فإن تقييم نخبنا سيكون سلبياً جداً، سواء الآن أو بعد مرور السنين في كتب التاريخ أو يوم القيامة، وأنا لا أريد أن أفصل في أمراض النخب لأن ليس هذا هدف المقال، ولكن يمكن إجمالها في مرضين: هما الوهن والإحن، وبحكم خطورة النخبة، فإن حل أزمة الأمة يكون بحل أزمة النخب، ولكن قبل هذا لابد أن نشير إلى أن عدداً من النخب القادرة على التغيير أُسرت وكُبلت، إلا أن التعمق في هذا الأمر يظهر أنها ليست النسبة الأكبر من النخب، فنحن نتكلم على مستوى الأمة، وليست حتى النسبة الأكبر لو قستها بعمق على كل دولة على حدة، فالنخب لا كما يراها تيار واحد بمنظور ضيق، ولا بمن يصور الأمر كمعركة بين طرفين والبقية همل! وطبعاً لا كمن يمارس مشروع إيقاظ أمة ممارسة الهواة بتصورات سطحية، ثم يدفع فيها أثمان آثارها كارثية على أمته قبل أن تكون عليه!
إذا تأملنا في جوهر معنى النخبة، فهم الأشخاص القادرون على التأثير في غيرهم، وهم متفاوتون كأفراد في تلك النسب إلا أنهم هم مَن يُسمع لهم ويُسار وراءهم، وهم مَن تؤثر قراراتهم على غيرهم تأثيراً كبيراً، فهم أصحاب الأثر والتأثير، وتأتي قوتهم تلك إما بإرادة منهم أو دون، فمنهم مَن ورثها ومنهم من اكتسبها، والأقوى أثراً من اكتسبها فهو نموذج وقدوة قبل أن يكون من النخبة، وكلٌ سيُسأل، مَن حملها بقصد أو دونه.
ونحن بواقعنا الحالي نحتاج لنخبة فعالة، نخبة تخرج من أطر النخب السابقة، في منطلقاتها وتصوراتها وتحليلها للواقع وقراءته، ثم في التعامل معه وتحديه لتغييره، وهذه بديهيات! فإن من مشاكل نخبنا الكثيرة التقوقع داخل الواقع ثم رفع راية تليق بنسر ضخم لا بقوقعة! وكيف ستغير واقع وأنت لا تخرج عن إطاره، وللأمر تفصيل لا يتسع له المقال، والقصد ألا ننسى أن التغيير تغيير وأن نكون على الحد الأدنى من فَهم المهمة والمعركة كما فهمها الطرف الآخر.
والخروج من أطر النخب السابقة أظن من معانيه إعادة تعريف النخبة، وإعادة تخيل صورتها؛ ففي دولنا الحالية والحركات الإسلامية الحالية النخبة لها سمة معروفة، يصعب نوعاً ما تصور غيرها، فلا بد من الخروج عن هذا التنميط.
ومن معاني الخروج من الأطر أيضاً انتظار النخبة! انتظار نشوئها وانتظار أدائها، فانتظار النخبة معناه انتظار نفس النمط ونفس المنتج، وبالتالي لا جديد.. وعدم انتظار النخبة يدفع كل من يريد للأمة خيراً أن يصنع نخبة، وأول عدم الانتظار هذا هو رفع القيود عن النفس في العمل لدين الله، أي الاستعاذة من تثبيط إبليس؛ فكم من مصلح طاف بالنخب ولمّا لم يجد منهم ما يجب قام فعمل فكوّن نخبة أثرت وفعلت، والأمثلة بالتاريخ كثيرة، وكم من رجال قاموا ففعلوا ونصروا.
ومن معاني رفع القيد عن النفس في محاولة إصلاح الأمة هو معرفة سعة رحمة الله الذي يغفر الذنوب جميعاً، فمالك بن دينار والفضيل بن عياض هدى الله بهم الناس بعدما اهتدوا بإذنه لسَعة رحمته، فمن لص لإمام! أي من مستصغر مستحقر لمرغوب مقدّر، ومن رفع القيد عن النفس أيضاً رفع استصغار النفس لقلة مكانتها المجتمعية، فبلال وسلمان وابن مسعود صاروا قدوة للأمم وعماداً للدين، بعدما علت نفوسهم بعلو الرسالة التي حملوها بحقها، فكانوا خير نخبة!
ومن معاني الخروج من أطر النخبة القديمة الخروج على معنى انتظار القائد المخلص! سواء من النخبة القديمة أو انتظار خروجه من أي زاوية! فنحن لسنا في زمن الأنبياء ولا في زمن المهدي.. هذا أولاً، وثانياً إن كان سيخرج هذا القائد ليغير واقعنا فإن خروجه يعتمد علينا! ألم تقرأ قوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾ [الرعد: ١١]، وبالتالي فنحن من يصنع القائد بصناعة بيئته، فالقائد يصنع بين النخب (الحقيقية) ويبرز بينها وفي بيئتها فهو لا ينزل من السماء ولا يخرج من زاوية، ولا يجب أن ترى أمه القمر نزل في حجرها وهي حامل به ثم يخرج علينا مكللاً بالأنوار يحبه كل من نظر إليه فيطفئ بأنواره العظيمة إحن الصدور التي تعيق خروجه!
إن نخبنا الحالية تعاني فوق ما مررنا به أنها جسد بلا رأس، وهي السبب في هذا، فهي لم تخرج هذا الرأس أو لم تسمح له بالخروج، أو في بعض الأحيان سمحت لعدد محدود سرعان ما يتم قضمه وينتهي الأمر، فهي بالكاد تُخرج واحداً أو اثنين، فهي (كثر خيرها) تصنعهم (بالعافية) فهي لا تمتلك تلك المهارة ولم تبذل بذلاً حقيقياً لامتلاكها، وهذا ما يجب ألا تسمح به نخب الجيل الحالي والجيل القادم، فمرض (الإحن) يجب أن يتم التعافي منه ويجب أن تخضع الرقاب لله حقاً لا ادعاءً، ويجب أن نعمل لرضا الله لا لخبث في النفوس، ووالله ما ذكرت لنا كل فضائح بني إسرائيل إلا لنتعظ منها لا لنكررها، واقرأوا قوله تعالى: ﴿وَقَالَ لَهُمۡ نَبِیُّهُمۡ إِنَّ ٱللَّهَ قَدۡ بَعَثَ لَكُمۡ طَالُوتَ مَلِكࣰاۚ قَالُوۤا۟ أَنَّىٰ یَكُونُ لَهُ ٱلۡمُلۡكُ عَلَیۡنَا وَنَحۡنُ أَحَقُّ بِٱلۡمُلۡكِ مِنۡهُ وَلَمۡ یُؤۡتَ سَعَةࣰ مِّنَ ٱلۡمَالِۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَیۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةࣰ فِی ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ یُؤۡتِی مُلۡكَهُۥ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمࣱ﴾ [البقرة: ٢٤٧]. وليعلم كل مَن يبذل في هذا من مكانته ومن نفسه لله أنه ربما بتلك العبودية الحقة لله يكون سبباً في فرج هذه الأمة عندما يميل هو ليرفع مَن هو أقدر، فمن يعرف المقامات إلا الله! فربما سبق هو بهذا! ولننفض عن أنفسنا تصورات وأنانيات الشكل والسيرة والمسيرة وكل مداخل إبليس اللعين!
إن ما ذكرته في الأعلى ضرب أمثلة واستدعاء أفكار هدفه هو لفت النظر لا الإجمال، فلست من أهل الإجمال، ومنكم أهل الإجمال والتفصيل والإرشاد على المسير.
وتبقى عندي في هذه المقالات الثلاثة معنى أريد أن أختمها به، وهو معنى للشعب قبل النخبة، وهو معنى وحدة المسلمين ممزوجاً بمعنى انتظار القائد، فالسلطة والقيادة تؤثر في المجتمع تأثيراً كبيراً، ونحن كمسلمين ننتظر تلك اللحظة التي تجمعنا وتوحدنا مرتبطاً بها في خيالنا هذا القائد الذي سيتبعه الناس وينسجمون تحت قيادته، وتعود الأمة كما كانت لحمة واحدة، ولكن حتى يأتي هذا القائد ماذا نفعل؟ وهل ستكون الصورة فعلاً هكذا قائد يجمع أم مجموعات تجمعت وشكلت لنفسها قيادات ثم قيادة، وهل ستذوب الفوارق الطبيعية بين الشعوب بمجرد وصول هذا المنتظر؟ أم الأمر سيستغرق أوقاتاً للإعداد النفسي قبل التنفيذ، أقول هذا وقد احتضنت بعض العواصم أعداد كبيرة من المسلمين مختلفي الجنسيات فهل استطاعوا التوحد على الأرض التي جُمعوا فيها؟ أم أن فوارق الأرض التي ابتعدوا عنها عصية وهي بعيدة على رباط الدين الذي يصفّهم في الصلاة وبعضهم خرجوا له؟
إن الأمر ليس مستحيلاً لأنه وعد رسول الله، ولأنه حدث من قبل، وهذه قوة الشعوب المسلمة فدين واحد ودستور واحد يعني أرضاً مشتركة أكبر، ولكن طبائع البشر لها تأثير، والأمر كما أنه ليس مستحيلاً إلا أنه ليس هيناً؛ فقد قال سبحانه: ﴿وَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا مَّاۤ أَلَّفۡتَ بَیۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَیۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾ [الأنفال: ٦٣]؛ فالأمر يسير إذا جُعل لله عز وجل وصدقت النية أننا نريد الوحدة مرضاة لله، ونبذل لها لا كمن أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني، ورفع رايات هو ليس أهلاً لها، ثم إن الآية الكريمة تقول “ما ألفت بين قلوبهم” أي أن هذه ليست في يد القائد، وبالتالي فتأجيل الأمر لانتظار القائد كأنه تأجيل لوحدة المسلمين، نعم الخليفة هو عنوان الوحدة ولكنه ثمرتها ونتاجها وليس العكس.
فمن هنا يجب على كل مسلم راغب في وحدة أمته أن يغرس معاني الوحدة بتصرفاته ومعاملاته، فلا يجب على مسلم أن يشعر بغربة في بلد مسلم، ويجب أن يصرح بهذا؛ فأنا أبذل لك وأنت في بلدي لأنها في دستور الإسلام بلدك، وأدرب نفسي على هذا من الآن لا أنتظر لحظة مثالية حالمة لن تأتي إن لم أبدأ الآن، وإن لم أكن في بلد مسلم فالمسلم هو مجتمعي ولا أكون أنا من جعل الإسلام غريباً.
لا بد أن يمتزج المسلمون امتزاجاً حقيقياً ويتعارفوا تعارفاً حقيقياً، ويجب أن تتشابك مصالحهم الحياتية وتزداد الروابط بأنواعها، ولو كانت الاجتماعية، كما فعلوها في العصور الأولى، وبلادنا وعائلاتنا بهذا تشهد، ولله در السابقين المبادرين.