
الحج أعظم شاهد على المساواة في الإسلام
يونيو 17, 2025
صرخة عاجلة ومناشدة من أطفال غزة إلى الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب
يونيو 17, 2025بقلم: علي جاد المولى – كاتب مصري
الحج ليس مجرد شعيرةٍ تُؤدّى في أيام معدودات، بل هو محطةٌ سنوية تُعيد ضبط الاتجاه للأمة الإسلامية، وتُذكّرها بهدفها الأعظم: العبودية لله، ووحدة الصف، وبعث المشروع الحضاري من جديد. هناك، على صعيد عرفات، تتلاشى الفوارق، وتذوب الهويات الضيقة في بوتقةٍ واحدة، لتتجلّى صورة الأمة كما أرادها الله: شاهدةً على الناس، موحَّدةً لا مفرَّقةً، حيّةً لا هامدةً.
لكن خلف هذا المشهد المهيب، يكمن واقعٌ عالميٌّ مضطرب، تتغير فيه موازين القوة، وتتقاطع المشاريع الكبرى، وتتهاوى المرجعيات الأخلاقية والفكرية. وبينما تنشغل أُممٌ كثيرة بصياغة مستقبلها، نجد العالم الإسلامي غارقًا في صراعاتٍ داخلية، وتبعيةٍ اقتصادية، وتراجعٍ عن ريادةٍ حضاريةٍ امتدت قرونًا.
أزمة الهوية العالمية
حين تنهار المرجعيات، لا تكون الأمة الإسلامية وحدها في مهبّ التيه. إذا نظرنا إلى العالم اليوم فسنرى أنّ فراغًا حضاريًّا واسعًا يلفّ كثيرًا من المجتمعات اليوم. في روايتها (زمن مستعمل)، ترسم سفيتلانا أليكسييفيتش بدقة صورة الإنسان الروسي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي: خواء فكري، اضطراب قيمي، وشعور بالضياع بعد فقدان المعنى. لم يكن الانهيار سياسيًا فقط، بل حضاريًا وأخلاقيًا. وكما فعلت سفيتلانا، قدّم دوستويفسكي في (الأبله) صورة مبكرة لهذا الانهيار القِيَمي، إذ تتحول البراءة إلى سذاجة، والطهر إلى تهديد للنظام القائم، وكأنّ العالم لم يعد يملك لغة لفهم النقاء، إلا بوصفه مرضًا يُقصى.
هذا المشهد لا يختلف كثيرًا عمّا نراه في الغرب اليوم، حيث تعيش الديمقراطيات العريقة أزمة هوية، ويصعد التطرف اليميني، وتتآكل الثقة في المؤسسات، وتفشل المشاريع الإنسانية الكبرى في تقديم إجابات لأزمات الإنسان المعاصر. كل ذلك يعكس تِيهاً لم تنجُ منه حتى القوى العظمى.
وهذا ما يجب أن يخشاه المسلمون اليوم. إنّ الأمة التي لا تعي مشروعها الحضاري، ولا تُدرك موقعها في العالم، قد تسقط، حتى وإن امتلكت القرآن، واحتشد الملايين منها في موسم الحج.
رؤية أمريكية قاصرة للصراع
في العقيدة السياسية الأمريكية، لا مكان للضعفاء. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تبنّت الولايات المتحدة سياسة الهيمنة باعتبارها النموذج الأعلى، مستخدمة أدوات الضغط العسكري والاقتصادي والإعلامي. تحت هذه العقيدة، تحركت في العراق وأفغانستان، وحاصرت إيران، وواجهت الصين وروسيا، وضغطت على تركيا، وتجاهلت الحقوق الفلسطينية.
الفرضية الأمريكية كانت وما تزال واضحة: المزيد من الضغط = المزيد من الخضوع.
لكن هذه المعادلة أثبتت عجزها. فالصين لم تنهَر، وروسيا لم تركع، والمقاومة الفلسطينية تتجدد، وأفغانستان استعصت على الاحتلال. لقد أثبتت التجارب أنّ الأمم ذات الذاكرة التاريخية العميقة لا تُهزَم بالضغط، بل يُستفز فيها شعور الكرامة، فيُبعث منها الصبر والمقاومة.
وحتى بين حلفاء أمريكا، وأقصد بها دول أوروبا، تتراجع الثقة في الديمقراطية الليبرالية يومًا بعد يوم، حيث تنمو الانقسامات الداخلية، وتزداد الاحتكاكات مع القوى الصاعدة التي تعيد تشكيل العالم وفق معايير مغايرة لما ساد في القرن العشرين.
الأمم العريقة في مواجهة الإهانة
التاريخ يُعلّمنا أنّ الإهانة لا تُضعف الأمم المتجذّرة، بل تُلهب فيها جذوة الصبر الاستراتيجي. بعد الحرب العالمية الأولى، فُرضت على ألمانيا معاهدة (فرساي) المهينة، فخرجت من رحم تلك الإهانة ثورة مضادة اجتاحت أوروبا. وربما نسي البعض أنّ حلف الناتو لم يُمدد بعد الحرب الباردة إلا لضمان “ضبط” ألمانيا، ودمجها في شبكة مصالح اقتصادية أوروبية تقي القارة من تكرار سيناريو الهيمنة الألمانية. الصين عانت قرنًا من الذل، من حروب الأفيون إلى الاحتلال الياباني، ثم نهضت نهضة هادئة عنيدة صعدت بها إلى قمم الاقتصاد والتكنولوجيا.
هذه النماذج تؤكد أن الأمم لا تنهض من العدم، بل من شعورٍ بالظلم والإهانة، حين يترافق مع مشروعٍ فكري وقيادةٍ مؤمنةٍ بالتغيير.
لكنّ الأمة الإسلامية، التي تختزن تراثًا إيمانيًا فريدًا، لا تحتاج لإعادة بناء هوية من الصفر، ولا لإعادة اختراع ذاتها، بل لاستدعاء مرجعيتها الربانية التي تتجدد كل عام على صعيد عرفات.
الحج ورؤية المسلمين للصراع
النظرة الإسلامية للصراع تختلف جذريًا عن المنظور المادي البحت الذي تتبناه كثير من القوى العالمية اليوم. المسلمون ينظرون إلى الصراع لا كمعركة خضوع أو استسلام، بل كاختبارٍ إلهيٍّ يتطلب الصبر والثبات واليقين بنصر الله. القرآن الكريم والسنة النبوية يُقدّمان للمسلمين إطارًا متكاملًا لفهم طبيعة الصراع وأبعاده؛ فهو ليس مجرّد مواجهة بين قوى متضادة، بل هو جزء من سنّة الله في التدافع بين الحق والباطل. يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ [البقرة: 251]، مشيرًا إلى أنّ الصراع ضرورة لضمان استمرارية الحياة وسيادة الحق.
المسلمون يدركون أنّ الضغط والابتلاء ليسا نهاية الطريق، بل هما جزء من اختبار الإيمان والتحقق من الصدق في السعي. يقول الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا﴾ [البقرة: 214]. لذا فإنّ صمود المسلمين في أفغانستان، وغزّة، والعراق ليس مجرد تحدٍّ للهيمنة الخارجية، بل هو جزء من عقيدة راسخة ترى أنّ النصر ليس هدفًا ماديًا بحتًا، بل هو انتصار الحق حتى وإن بدا ذلك بعيدًا.
في هذا السياق، يظهر الحج كصورة مجسدة لهذه الرؤية الإسلامية للصراع. إنّه ليس مجرد شعيرة دينية يؤديها المسلمون كل عام، بل هو رمز لوحدة الأمة الإسلامية، وتجديد عهدها مع الله، واستعادة الوعي الجماعي المتصل بالأمة منذ عصر النبوة. حين يقف المسلمون على صعيد عرفات، فإنّهم يتجاوزون الاختلافات العرقية والثقافية واللغوية، ويجتمعون تحت راية التوحيد، معلنين أنّ العبودية لله هي الغاية الكبرى التي لا تهزها قوة ولا يُثنيها ابتلاء.
هنا تتجلّى قوة الحج في إحياء الروح الجماعية للأمة، وربطها بماضيها وحاضرها ومستقبلها. عندما يستشعر المسلمون هذه الوحدة، يدركون أنّ الصراع مع القوى العالمية ليس مجرّد صراع بقاء، بل هو دفاع عن هوية حضارية عميقة، وجهاد لنصرة الحق، وثبات على مبدأ العبودية لله وحده.
الحج: الرؤية الجامعة
وسط هذا الضجيج، يأتي الحج ليعيد تعريف المسلم بنفسه وبأُمَّته. إنه ليس فقط شعيرة، بل لحظة استعادة وعي. على صعيد عرفات، لا جنسية، لا طائفة، لا طبقة. فقط الإنسان أمام ربه، في لباسٍ موحد، يعلن الولاء لله وحده، ويراجع مواقفه ومصيره.
حين نستعيد فهم الحج بوصفه مشروعاً حضارياً، حينئذٍ يصير موسمًا لصياغة الرؤية الإسلامية الجامعة، ومساحة استراتيجية لإحياء الوعي الجماعي للأمة. على هذا الصعيد يمكن للمسلمين أن يُجددوا العهد، وأن يتدارسوا شؤونهم، وأن يُطلقوا مبادرات تنموية وفكرية واقتصادية، تُترجم وحدة الشعيرة إلى وحدة مشروع.
ــ ماذا لو خُصِّص مؤتمر سنوي في موسم الحج لقادة الرأي في الأمة، تُطرح فيه استراتيجيات مشتركة؟
ــ ماذا لو أُنشئ صندوق استثماري عالمي للمسلمين، يُموَّل من أثرياء العالم الإسلامي، وتُدار أمواله لتطوير التعليم والإعلام والبحث العلمي؟
ــ ماذا لو أطلقنا رابطة حج فكرية، تُقدّم رؤى استراتيجية لنهضة الأمة تستلهم روح هذا الملتقى العظيم؟
النهضة تبدأ من الداخل
ليس كل ما نواجهه ناتجًا عن تآمر الخارج. نحن بحاجة إلى الاعتراف أنّ الهزيمة الداخلية أسبق من الهجوم الخارجي. غياب المشروع الحضاري، تشرذم المرجعيات، ضعف التعليم، وتفكك الخطاب الإعلامي والدعوي، كل ذلك أفقد الأمة مناعتها أمام التحديات.
لقد حجَّ الملايين عبر عقود، لكن غابت الرؤية الجامعة، وغابت القيادة الواعية، وساد الانقسام على حساب الوحدة.
أين هو المشروع؟ أين هي ثمار هذا الاجتماع السنوي؟ ما لم يتحول الحج إلى نقطة انطلاقٍ حقيقية، فسنظل ندور في حلقة العاطفة الموسمية دون رؤيةٍ مستدامة.
إنّ إصلاح الداخل لا يقل أهمية عن مواجهة الخارج، وإنّ النهوض الحضاري لا يتم بالأماني، بل ببناء الإنسان المؤمن، الواعي، المنتج، المبدع، الذي يرى نفسه مسؤولًا عن أمته، لا متفرجًا على انكساراتها.
الحج وصناعة الرجال
لقد وثّقت كتب السّير والتاريخ قصصًا لحُجّاج تغيّرت حياتهم بعد الوقوف في عرفة. من أبرزهم الحاج مالكوم إكس (مالك الشباز)، الذي أدى فريضة الحج عام 1964م، حيث شهد اختلاط المسلمين من مختلف الأعراق، مما أثر تأثيراً عميقاً على نظرته للعالم، ودفعه لتأسيس مسجد سني يدعو للوحدة الإسلامية.
ولم يكن مالكوم إكس استثناءً، فهناك محمد أسد، المفكر النمساوي الذي تحوّل من مراسل صحفي إلى أحد أبرز المفكرين المسلمين في القرن العشرين بعد رحلة الحج، وهناك شيخ أنتا جوب، الذي ألهمه الحج إلى مكة لاكتشاف الجذور الحضارية للقارة الإفريقية، مؤمنًا أن النهضة لا تبدأ إلا من استرداد الوعي بالتاريخ والهوية.
كما أن هناك العديد من قادة المقاومة والمصلحين عادوا من الحج وقد تبدلت رؤيتهم للعالم. خطباء ومصلحون كانوا يرون العالم بأعين قطرية حتى وقفوا في عرفات، فأدركوا أنّ أمتهم أوسع من الحدود، وأنّ رسالتهم أكبر من الجغرافيا.
ولعل من المفارقة أنّ موسم الحج وحده كفيل بأن يُنتج أكثر مما تنتجه مؤتمرات القمم السياسية، بشرط أن يُعاد توجيهه ليكون منصة فكرية ونهضوية، وليس فقط موسمًا روحانيًّا.
خاتمة: من عرفات.. تبدأ النهضة
ليست الأمة الإسلامية في حاجة إلى معجزة، بل إلى وعي. إلى إدراك أنّ الحج ليس النهاية، بل البداية. ليس تكرارًا لموسم سابق، بل انطلاقة لمستقبل مختلف. فالحج ليس فقط عبادة، بل تجديدٌ للعهد مع الله والأمة. إنّ الأمة التي تملك مثل هذا الاجتماع السنوي الهائل، لا يصح أن تبقى تائهة بلا رؤية جامعة.
إنّ مِن أعظم ما نملكه هو هذه الشعائر التي تُذكّرنا بمهمتنا في الأرض: العبودية لله، إقامة العدل، وإصلاح العالم.
وإنّ أعظم ما نخشاه أن تُصبح شعائرنا طقوسًا خاوية لا تهزّ القلوب ولا تصنع النهضة.
فلنجعل من حج هذا العام لحظة فاصلة: نُجدد فيها العهد، ونسترد فيها المعنى، ونؤمن أننا أمة ما تزال تملك مشروعًا قادرًا على إنقاذ العالم من ضياعه.. إن هي وعت نفسها، ووقفت على صعيد النهضة كما تقف على صعيد عرفات.