سوريا الحرة – بشائر التحرير وتحديات التمكين
يناير 11, 2025لا نستجدي شهامتكم
يناير 11, 2025إحياء القضية، والتذكير بالأسرى، وإرعاب العدو
الشيخ محمد بن محمد الأسطل – من علماء غزة
ذكرنا أن ثمرات طوفان الأقصى على قسمين: ثمرات على الصعيد الداخلي، وثمرات على الصعيد الخارجي.
ثم افتتحنا الكلام عن ثمرات الصعيد الداخلي، فذكرنا أن أول ثمرة في هذا الصعيد هي: تثبيت عزة المسلم وهيبته وأنفته أمام الأعداء في الوقت الذي خنعت فيه عامة الأنظمة والدول.
ونواصل الآن الحديث عن هذه الثمرات، فنقول وبالله التوفيق:
الثمرة الثانية
القضاء على فكرة القضاء التام على القضية الفلسطينية
وبيان هذا: أنَّ رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو صرّح قبل سنواتٍ قليلةٍ أنهم أخطأوا حين أرادوا عمل تسويةٍ مع العرب من خلال عقد صلحٍ مع الفلسطينيين، وقال: “لقد أضعنا في هذا المسار ثلاثين سنة”. ورأى أن الصواب يكمن في العكس؛ وذلك بأن يفرضوا الحل الذي يرونه مناسبًا على الفلسطينيين من خلال عمل تسويةٍ مع العرب.
ومن ثم بدأ مشروع التطبيع، والذي يقصد إلى دمج العدو الصهيوني في المنطقة، ومن إفرازاته أن يصبح القضاء على غزة وكذا من يشغب في الضفة والداخل كلمةَ إجماعٍ من الدول العربية، لا سيما المطبعة منها.
وتسارعت خطوات هذا المسار، حتى إن نتنياهو كان يخضع لإملاءات المقاومة في السنوات الثلاث الأخيرة قبل المعركة، وظهر غير مرة بمشهد الهزيمة والانكسار لصالح تمرير المخطط السياسي الذي يريد.
وكان الصاعق المفجر الذي تُكمل به أبرز خطوات تصفية القضية الفلسطينية هو التطبيع السعودي؛ لأن السعودية هي العاصمة الأولى للأمة الإسلامية، وهي موضع نظر الأمة، وتطبيعها يعني سحب الغطاء الديني عن مقاومة هذا البلد وحقه في الأرض، حتى بدأنا نسمع من بعض الأبواق السعودية أنَّ أرضَ فلسطين هي ملكٌ لإسرائيل، وأن الشعب اليهودي ما هو إلا شعبٌ مُهَجَّرٌ قد آن له أن يعود إلى أرضه، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام لقومه: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: 21].
وهذا الاستشهاد يتم تمريره على من لا يدري تفسير الآية والقول في المسألة، وأحسب أن مَن كان يتكلم بهذا النَّفَسِ كان يريد تهيئة الشعب السعودي لتَقَبُّلِ هذه الخيانة الكبرى من مدخلٍ ديني، ولكن الشعب السعودي يقظٌ في الجملة، وهو من أبرز الداعمين للمقاومة على المستوى الشعبي، والشعوب الإسلامية شعوبٌ حية رغم ما يُجرَّب عليها من التدجين، وهي لُحمة واحدة، ولئن أذهلتها الهموم الداخلية في كل بلد وتتبع الرغبات إلا أن المحن الكبرى تجمعها في لحظة.
ولهذا فالشعوب في وادٍ، والأنظمة المُطبِّعة في واد آخر؛ لأن الأنظمة ببساطةٍ هي أجنبيةٌ عن الأمة، تقوم بدور الوكيل عن المحتل الغربي وإن كان قادة كل نظامٍ منها يحملون جنسية البلد الذي وُلدوا فيه، فالعبرة بالعقيدة والعمل لا بالأرض والوطن.
فجاءت عملية طوفان الأقصى حين تعاظم مشوار التسوية واقترب من الانتهاء، فحطمت المخطط الكبير، وقلبت الأوراق، وهنا انتقل نتنياهو لخيار الإبادة العسكرية وسحق البلد؛ لأن كل شيءٍ قد فسد.
وفيما أرى أنَّ شخصية نتنياهو لم تتغير، فهو لم يكن وديعًا كما يظن بعض الناس ثم إنه تحول ليكون عنيدًا إلى هذا الحد الذي قد يثير الدهشة؛ بل هذه شخصيته، ولكنه كان يتثعلب في باب السياسة، ويخدع عامة القوى ليوظفها في مساره، ومن ثم يواصل في مشروع التطبيع والتسوية بالتوصيف الذي يريد.
وقد نجح في ذلك، لكن معركة الطوفان بضخامتها وما تمثله من إذلالٍ له ولدولته ألجأته إلى الخيار العسكري الساحق من جديد، ليتحول العناد من الساحة السياسية إلى الساحة العسكرية.
الثمرة الثالثة
تحريك ملف إخواننا الأسرى في سجون العدو
فهذه المعركة إذا كانت بالنسبة إلينا يغلب فيها الألم فإنها بالنسبة للأسير يغلب فيها الأمل، وهذا الأمر بات النازح ومن يعاني شدائد المعركة أكثر استيعابًا له.
فقد كان مما يُثار في بدايات المعركة: كيف يمكن الدخول في مغامرةٍ كبرى تسحق البلد وتودي بالآلاف أو بعشرات الآلاف من الشهداء، في سبيل استنقاذ بضعة آلافٍ من الأسرى، مما يعني أنَّ الخسارةَ أكثر من الربح؟
وهذا السؤال ليس مستهجنًا؛ بل هو وجيه، وثمة كلامٌ يُقال بشأنه وشأن العملية وما لها وما عليها مما لا يتسع له السياق، وعسى أن تتيسر فرصةٌ للكلام فيه، إلا أنَّ ملف الأسرى كان أحد أهداف المعركة ولم تنحصر الأهداف فيه.
ثم إنه بعيدًا عن حسابات المصالح والمفاسد ومقادير الربح والخسارة، فإن النازح ومن يعاني شدائد المعركة بات أكثر استيعابًا لمعاناة هذه الفئة المُهمَلةِ من الذكر والاهتمام، التي كنا نسمع عنها دون أن نحس بها إلا الإحساس المُجمل.
فالرجل منا استولى عليه الضيق من الأشهر الأولى للمعركة، وذلك بسبب قلة الحركة، وعدم تدبر أمر أساسيات العيش، والمعاناة التي قد يجدها إذا مرض هو أو مرض أحد أولاده في ظل انشغال المستشفيات باستقبال الجرحى، وصار العناء الشديد سيد الموقف، والكل يسأل متى تنتهي هذه المعاناة؟ وربما ذكر لك الشخص الذي تكلمه الرقم الذي وصلت إليه المعركة في ثنايا كلامه.
فإذا كان الرجل منا قد شق عليه عناء بضعة أشهر فكيف بالآلاف من أبنائنا وهم يعانون ذلك من سنين طويلة؟
وكيف نتصور أن كثيرًا منهم كان يخضع للعزل الانفرادي، حتى إن بعضهم مضى عليه في زنزانةٍ من متر ونصف أكثر من عشر سنين؟!
ثم هم يحرَمون كثيرًا من أساسيات العيش، فضلًا عما يتعرضون له من الإذلال والإهانة والتعذيب والعلاج المناسب ومنع زيارة الأهل وغير ذلك.
وهم لا يتعرضون لذلك بسبب جريمةٍ اقترفوها لنقول إنهم يستحقون ذلك؛ بل إنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله، ويدافعون عن هذا البلد.
وهذا الملف بات مغلقًا ليس له حل، فجاءت هذه المعركة تمثل أملًا لهذه الفئة التي أعترف شخصيًّا أني رغم كل ما سمعته من الأسرى المحررين عن الأسرى.. ما شعرتُ بالمعاناة التي هم عليها إلا في هذه المعركة.
فهذا البلد لا ينسى رجاله، ولسوف يذهب كثيرٌ من الألم الذي زرعه العدو في صدورنا بسبب المجازر وأشكال الإبادة، حين نرى الأفواج المحررة تدخل البلد بإذن الله رب العالمين.
الثمرة الرابعة
أنَّ المعركة أعادت العدو إلى هاجس التهديد الوجودي
وبات في الأذهان أنَّ إذلاله ممكن، وأنَّ القضاء عليه ممكن؛ فالعدو بعد اتفاقية كامب ديفيد الثانية في شهر مارس سنة 1979 يمكن القول إنه عاش أزهى مراحله من غير نكد، حتى إن الصهاينة كانوا يرفعون العلم المصري في ذكرى الاتفاقية في كل سنة؛ احتفاءً بحالة الاستقرار التي صاروا عليها.
فجاءت الانتفاضة الأولى سنة 1987 تُعكِّر صفوهم، ثم تم وأدها باتفاقية أوسلو سنة 1993، والتي سُبقت بتدجين منظمة التحرير لتصبح حارسًا للعدو لا مقاتلًا له، ثم جاءت الانتفاضة الثانية سنة 2000 في أعقاب زيارة شارون للأقصى لتُدخِلَ العدو في حالة تهديدٍ للاستقرار، وعقب فشل العدو في القضاء على المقاومة في حرب 2008 بدأت تتشكل قواعد اللعبة والاشتباك والردع بما أوجد حالةً من التعايش مع حالة المشاغلة الجديدة.
وكانت حرب سيف القدس 2021 خروجًا عن النسق؛ إذ إنها أول معركة عنوانها الهجوم لا الدفاع؛ إذ كانت بسبب زيادة وتيرة تهويد الأقصى، وانتصارًا لحي الشيخ جراح في القدس، لكن تم احتواء الموقف والعودة إلى مربع المشاغلة المعتاد.
وجاءت هذه العملية لتنتقل بالعدو عبر قفزةٍ واحدةٍ إلى هاجس التهديد الوجودي، وهذا وإن كانت إمكانية المقاومة لا تبلغه، وعند العدو ما يسحق البلد إلا أنَّ المعركةَ مثَّلت التوطئة النفسية لإعادة فكرة تهديد العدو في وجوده.
وهذا الهدف يعد الآن من الكلام الذي يشبه الهذيان، لكن قوة المحتل كامنةٌ في الإمداد الخارجي، والذي يتمثل أكثره في تبني الولايات المتحدة الأمريكية للمشروع الصهيوني بالمقام الأول، ثم كبرى الدول الأوروبية بالمقام الثاني، وهو ما عبَّر عنه القرآن بحبلٍ من الناس.
إلا أن هذا الحبل آخذٌ الآن في الضعف، ومتى صار الغرب عاجزًا عن مواصلة تبني هذا المشروع، وعدم تحمل أعبائه.. فإن هذا إلى جملةٍ من العوامل الأخرى سيجعل القضاء على كيان العدو قاب قوسين أو أدنى.
وما أقرره هنا من القول يشبه معركة مؤتة التي كانت توطئةً نفسية لقتال الروم وفتح الشام؛ فمع أنها لم تنته بنصرٍ؛ ولكن بانسحاب، إلا أن فكرة مقاتلة القوى العالمية الكبرى وجهًا لوجهٍ صارت متقبلة قريبةً من الأذهان، وهو ما ورد عن بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذكرهم -في سياق تداول الآراء بشأن قرار غزو الروم- أن مؤتة كانت توطئةً نبويةً تُجرِّئ المسلمين على الاشتباك مع الروم.