
غيثٌ.. أصاب أرضاً (قصيدة)
فبراير 21, 2024
تفسير القرآن بالسنة النبوية
فبراير 22, 2024إن أئمة الحديث ورواته هم الواسطة بيننا وبين رسول الله ﷺ، وهم الذين حفظ الله بهم هذا الدين بعد صحابة رسول الله رضوان الله عليهم، وهم بعملهم في السنة جمعًا وحفظًا وتنقيحًا وتعليمًا كانوا خير من ناصر رسول الله ﷺ نصرة عملية، بل إن هؤلاء أفنوا أعمارهم نصرة لله ولرسوله دون كلل أو ملل، ولذا ففضلهم علينا بعد الله عظيم، وواجبهم علينا من التبجيل والتكريم كبير، وحقهم علينا من الثناء والدعاء لا يخفى على طالبِ علمٍ أو داعٍ إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
قال الإمام ابن قيم الجوزية: ولما كانت الدعوة إلى الله والتبليغ عن رسوله شعار حزبه المفلحين، وأتباعه من العالَمين، كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: ١٠٨]، وكان التبليغ عنه من عينِ تبليغ ألفاظه وما جاء به وتبليغ معانيه، كان العلماء من أمته منحصرين في قسميْن:
أحدهما: حُفَّاظ الحديث وجهابذته، والقادة الذين هم أئمة الأنام وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله، حتى ورد من سبقت له من الله الحسنى تلك المناهل صافية من الأدناس لم تشُبها الآراء تغييراً، ووردوا فيها ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان: ٦](1)
ثلاثة أعمش!
ولعل القارئ يتعجب من أن هذا الإمام الذي نتحدث عنه اليوم، عُرف وحُفظ في تاريخنا بهذا الاسم “الأعمش”، وهنا ينبغي التنبيه إلى أن هذا الوصف ليس من الغيبة المحرمة، إذ هو من باب التعريف والتمييز للشخص عن غيره، وليس من باب انتقاصه أو السخرية منه، فما كان لمؤمن أن ينتقص من أئمة الحديث.
غير أن الطريف في هذا الباب أن في أئمتنا المحدثين ثلاثة يُعرفون بالأعمش:
- الإمام سليمان بن مهران، وهو صاحبنا في هذا المقال، وقد وُلِد سنة 61 للهجرة.
- الإمام أبو حامد أحمد بن حمدون، وهذا لقب بالأعمشي، لأنه كان حافظاً لحديث الإمام الأعمش -صاحبنا في هذا المقال- وكان شديد العناية بحديثه.
- الإمام أبي العلاء حمد بن نصر بن أحمد، وهذا متأخر، بينه وبين صاحبنا في هذا المثال أربعة قرون، إذ وُلد سنة 431هـ (2).
والسبب في تلقيب الإمام سليمان بن مهران بالأعمش، هو المرض الذي أصابه صغيراً في عينيه، فالعمش هو ضعف في البصر مع سيلان في الدمع، فلذلك عرف بأنه “الأعمش”.
سيد المحدثين
ولأنه من أئمة الحديث الكبار، فهو ممن روى له البخاري ومسلم في الصحيحيْن، وكذلك أصحاب السنن وغيرهم من الرواة، وقد فاضت أقوال أهل العلم في بيان فضله ومكانته، فقد كان فوق علمه وحفظه عابداً زاهداً ورعاً تقياً.
قال سفيان بن عيينة: كان الأعمش أقرأهم لكتاب الله، وأحفظهم للحديث، وأعلمهم بالفرائض.
وقال يحيى القطان: هو علاّمة الإسلام(3).
وقال أبو بكر بن عياش: كنا نسمّي الأعمش سيد المحدثين.
وقال العجلي: ثقة ثبت، كان محدث الكوفة في زمانه.
وقال شعبة بن الحجاج: ما شفاني أحد في الحديث ما شفاني الأعمش.
وقال علي بن المديني: حفظ العلم على أمة محمد ﷺ ستة: عمرو بن دينار بمكة، والزهري بالمدينة، وأبو إسحاق السبيعي والأعمش بالكوفة، وقتادة ويحيى بن أبي كثير بالبصرة.
وهؤلاء القائلون هم أئمة الجرح والتعديل، الذين فهرسوا الرجال وخبروهم ونخلوا أحاديثهم، فأقوالهم هذه تشهد بمكانة الأعمش!
الأعمش عابدًا زاهداً
وحري بمن يثني عليه العلماء في علمه ودينه أن يكون من أعبد الناس، فإنما العلم العمل، والعلماء أكثر الناس معرفة بالله وأعظمهم عبادة له سبحانه.
قال عنه وكيع: كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفُته التكبيرة الأولى، واختلفتُ إليه أكثر من ستين سنة فما رأيته يقضي ركعة(4).
وقال عبد الله الخريبي: ما خلَّف الأعمش أعبدَ منه(5).
وقال عيسى بن يونس: أرسل الأمير عيسى بن موسى إلى الأعمش بألف درهم وصحيفة، ليكتب فيها حديثاً، فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، وقل هو الله أحد. ووجَّه بها إليه، فغضب الأمير وظنَّ أن الأعمش يستهزئ به ويحسب أن الأمير لا يُفرّق بين القرآن والحديث، فأرسل إليه ساخطاً: ظننتَ أني لا أحسن كتاب الله؟! فقال الأعمش: أظننتَ أني أبيع الحديث؟!(6)
ولذلك قال عيسى بن يونس: لم نرَ نحن والقرن الذي قبلنا مثل الأعمش؛ ما رأيت الأغنياء والسلاطين عند أحد أحقر منهم عند الأعمش مع فقره وحاجته.
وذات يوم مشى مع الأعمش إمام آخر هو إبراهيم النخعي، وكان أعوراً، فقال له الأعمش: إن الناس إذا رأونا معاً قالوا أعور وأعمش! فقال النخعي: وما عليك أن نؤجر ويأثموا؟! فقال له الأعمش: وما عليك أن يسلموا ونسلم.
يقصد بذلك أن نفترق فلا نمشي معاً، فلا نعرضهم لأن يرتكبوا هذا الإثم!
خشيته من الله عزوجل
وكان الأعمش ممن يخافون الله سبحانه وتعالى ويكثرون من ذكر الموت، ولم لا وقد بين لنا ربنا أن العلماء هم من يخشون الله حق خشيته، وهم من يعملون ليوم لقاء الله تعالى، كتب يومًا إلى بعض إخوانه يعزيه:
إنـا نعزيك لا أنـا على ثـقة مـن البـقاء ولكــن سنـة الديـــن
فلا الـمُعزَى بباق بعد ميتِهِ ولا المعزِي وإن عاشا إلى حين
وقال زائدة بن قدامة: تبعت الأعمش يوماً، فأتى المقابر فدخل في قبر محفور فاضطجع فيه، ثم خرج منه وهو ينفض التراب عن رأسه ويقول: واضيق مسكناه(7).
ورُوى أن أبا بكر بن عياش دخل عليه في مرضه الذي توفي فيه فقال: «أدعو لك طبيبًا» فقال: «ما أصنع به فوالله لو كانت نفسي في يدي لطرحتها في الحش (بيت قضاء الحاجة)، إذا أنا مت فلا تؤذنن بي أحدًا واذهب بي فاطرحني في لحدي»(8).
من طرائف الأعمش
كان هؤلاء الأئمة العظماء في حياتهم كبقية الناس، يعتريهم ما يعتري الناس، من الرضا والغضب، والغِنى والفقر، والجد والمزاح، والصحة والمرض، نذكر ذلك لربما يظن البعض أن هؤلاء الصفوة كانوا عابسين أو كانوا لا يعرفون المزاح ولا البسمة، ولا عجب فقد ظن التابعون أنفسهم أن الصحابة هكذا، فقد روى الترمذي عن ابن سيرين رحمه الله أنهم كانوا يسألونه: هل كانوا يمزحون؟ يقصدون أصحاب النبي ﷺ، فقال: كانوا كمثل الناس وكان ابن عمر رضي الله عنه يمزح ويقول الشعر. وعن بكر بن عبد الله قال: “كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ يَتَبَادَحُونَ بِالْبِطِّيخِ، فَإِذَا كَانَتِ الحقائِق كَانُوا هُمُ الرجال”(9).
بيد أن هؤلاء المحدثين كانوا لا يقولون إلا حقًا اقتداء برسول الله ﷺ لما سئل: إنك تداعبنا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا، قَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا»(10).
لذلك لا عجب أن تعرف عن بعضهم أنه كان كثير المزاح والدعابة، أو كان صاحب مزاج في حديثه مع أصحابه، أو كان شديدًا على تلاميذه وهم مع ذلك حريصون على مجالسته وأخذ الحديث عنه، والمهم فيهم ما يراه أهل الجرح والتعديل من حفظهم وصدقهم وأمانتهم في النقل.
وكان الأعمش من أكثر العلماء ظرفًا، صاحب بسمة وفكاهة، مما يخفف به عن طلابه وجلسائه، وذلك مما يجعل له ودًا عند محبيه وطلابه والسامعين له. قال عنه ابن خلكان: وكان لطيف الخلق مزاحاً، جاءه أصحاب الحديث يوماً ليسمعوا عليه، فخرج إليهم، وقال: لولا أن في منزلي من هو أبغض إليَّ منكم ما خرجت إليكم(11).
وصوّر الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي بقلمه المرصع أدباً موقفاً من مزاح الأعمش مع أبي حنيفة، فقال: قال ابن جُحادة: إن شيخنا على هذا الجد ليمزح، لقد كنتُ عنده في مَرْضَته، فعاده أبو حنيفة صاحب الرأي، وهو جبل علم شامخ، فطوّل القعود مما يحبه ويأنس به، إذ كانت الأرواح لا تعرف مع أحبابها زمنًا يطول أو يقصر. فلما أراد القيام قال له: ما كأني إلا ثقلتُ عليك. فقال الشيخ: إنك لثقيل عليَّ وأنت في بيتك! وضحك أبو حنيفة كأنه طفل يناغيه أبوه بكلمة ليس فيها معناها، أو أب داعبه طفله بكلمة فيها غير معناها. وجاءه في الغداة قوم يعودونه، فلما أطالوا الجلوس عنده أخذ الشيخ وسادته وقام منصرفًا، وقال لهم: قد شفى الله مريضكم (12).
وقيل: إن الأعمش كان له ولد مغفل فقال له: اذهب فاشتر لنا حبلاً للغسيل.
فقال: يا أبة طول كم؟
قال: عشرة أذرع
قال: في عرض كم؟
قال: في عرض مصيبتي فيك.
ويقال: إن الأعمش لبس مرة فرواً مقلوباً فقال له قائل: يا أبا محمد! لو لبستها وصوفها إلى داخل كان أدفأ لك! قال: كنت أشرت على الكبش بهذه المشورة (13).
رحم الله الشيخ الإمام الأعمش، ورحم جميع من حافظوا وعملوا على نشر السُّنة الصحيحة لرسول الله ﷺ وعملوا على الدعوة إلى الله وهداية الخلائق، اللهم ارضَ عنهم، وألحقنا بهم في عبادك الصالحين، اللهم آمين.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(1) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1/7.
(2) سير أعلام النبلاء 14/553.
(3) سير أعلام النبلاء 6/238.
(4) وفيات الأعيان 2/ 401.
(5) سير أعلام النبلاء 6/228.
(6) سير أعلام النبلاء 6/ 236، 237.
(7) وفيات الأعيان 2/400 وما بعدها.
(8) ويكيبيديا الموسوعة الحرة (سليمان بن مهران الأعمش).
(9) الأدب المفرد صـ117.
(10) سنن الترمذي رقم 1990.
(11) وفيات الأعيان 2/402.
(12) وحي القلم 1/ 124، 125.
(13) سير أعلام النبلاء 6/239، 244.