
الورقة الأخيرة: أحلامنا الخالدة التي لن تموت
يونيو 13, 2025
شهداء جدد في غزة بعد قصفهم أثناء انتظار المساعدات
يونيو 14, 2025د. وليد الهويريني – رحمه الله*
بعد أن هوت الأمة الإسلامية من ريادتها الحضارية للعالم وبزغ نجم الحضارة الغربية، لم نصبح مستوردين للطائرة والسيارة فحسب بل للثقافات والأفكار أيضاً. ولم يقع الخلاف حول أهمية الاستفادة من المنتج الغربي النافع وإنما وقع في المعايير الضابطة للاستفادة. من تلك المنتجات الفكرية الغربية، مفهوم “سيادة الأمة” أو “سيادة الشعب” وهو أحد أهم ركائز الديمقراطية الغربية.
يمكننا أن نفرز موقف عامة العلماء والإسلاميين من الديمقراطية بالنظر إلى ثلاثة أقسام أو مكونات في الديمقراطية:
الأول: قسم محرم
يتفق الإسلاميون على رفضه ومخالفته للشريعة الإسلامية ومن ذلك: إعطاء الشعب أو البرلمان حق منع أو إباحة “الأحكام المنصوصة في الشريعة”، لقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥]. فما نص الوحي على منعه أو إباحته فلا يجوز أن يُعطى أي مخلوق حاكماً أو محكوماً حق تغييره أو تبديله: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦]. فالمكون العلماني للديمقراطية الغربية التي تمنع من جعل الوحي مرجعية فوق الدستور يتفق الإسلاميون جميعاً على رفضه وعدم مشروعيته.
ولهذا كان الموقف المبدئي لعامة الإسلاميين -بمن فيهم المؤيدون للمشاركة السياسية في ظل النظم التي تحكم بالقوانين الوضعية- عدم المشاركة، يقول الشيخ د. يوسف القرضاوي تحت عنوان “الأصل عدم المشاركة”: “لا ريب أن الأصل في هذه القضية ألا يشارك المسلم إلا في حكم يستطيع فيه أن ينفذ شرع الله فيما يوكل إليه من مهام الولاية أو الوزارة، وألا يخالف أمر الله ورسوله ﷺ”.
الثاني: قسم واجب
يتفق عامة الإسلاميين على وجوب إقامته؛ كحق الأمة في اختيار الحاكم، والرقابة على السلطة ومحاسبتها، وإقامة العدل ومنع الظلم، وواجب الدولة في حفظ ضروريات الناس، وسنّ القوانين الإجرائية والإدارية التي تمس إليها حاجتهم.
الثالث: قسم مباح
اختلف الإسلاميون في حكمه بين مبيح وحاظر. وغالب هذا القسم يتعلق بالمكوّن الإجرائي للديمقراطية؛ كالانتخابات، وتشكيل الأحزاب، وتعيين الأغلبية بطريق الاقتراع والتصويت، بالإضافة إلى تأقيت مدة سلطة الحاكم، وفصل السلطات، والنظر في هذه المسائل نظرٌ فقهي مجرد لا يدخل في الجدل العقدي حول تقييم النظام الديمقراطي.
حديث الإسلاميين وخلافاتهم حول الديمقراطية طويلة ومتشعبة والذي يعنينا هنا ونحن نريد التأريخ لهذا السجال الفكري السعودي أن طرفيه هما:
السلفية الإصلاحية.. وهي تتبنى الموقف الثلاثي المركب من الديمقراطية الغربية (قسم محرم- قسم واجب- قسم مباح) فلها رؤية تفصيلية في المسألة الديمقراطية.
المجموعة التنويرية: وهي ترى أن القسم الذي يراه السلفيون محرماً ومناقضاً لأصول الإسلام هو من صميم الشرع، وتستدل لذلك بأدلة تنسبها للكتاب والسنة وفقهاء الإسلام.
ويمكننا القول بأن حق الشعب في اختيار حاكمه ومحاسبته وتقييد سلطته هو محل اتفاق بين الجانبين، وإنما وقع الخلاف حول مفهوم سيادة الأمة في السياق الفكري الغربي والسجال حول إثبات صحة نسبة هذا المفهوم (سيادة الأمة) للشريعة الإسلامية أو إبطال ذلك.
الشرارة الأولى:
بدأ السجال عندما نشر الأستاذ عبد الله المالكي مقاله “سيادة الأمة”، ثم وسَّعه في كتاب “سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة” (٢٠١٢م)، فجرت عليه ردود نشر معظمها في كتاب “سيادة الشريعة” (2013م). وزاد في سخونة الجدل ما احتف به من أجواء الربيع العربي، إذ اجتهد التنويريون في توظيف الحدث لتدعيم فكرتهم.
أبرز ما طرحه المالكي أن الشعب هو مصدر للسلطة والشرعية، فإن اختارت الأمة المرجعية الإسلامية إطاراً للقانون والتشريع فلها ذلك، وإن اختارت شيئاً آخر غير المرجعية الإسلامية، فيجب احترام خيارها.
ماذا يعني هذا الكلام؟
يعني أنه لا يحق لأحد -بعد تحقيق سيادة الأمة- أن يفرض شيئاً على هذه الأمة دون الرجوع إلى الدستور الذي اختارته عبر صندوق الاقتراع. فإن اختارت الأمة منظومة القيم والمبادئ الإسلامية كمرجعية عليا وإطاراً للتشريع والقوانين فلا يحق لأحد أن يفتئت عليها أو يفرض ما يناقض ويعارض مرجعيتها الدستورية. وإن اختارت شيئاً آخر غير المرجعية الإسلامية؛ فيجب احترام خيارها ولا يجوز قهرها وإجبارها بشيء لا تؤمن به.
تعقب ذلك د. بندر الشويقي بأن هذا القول مخالف لأصول الإسلام؛ فهو داخل في منازعة الله في تشريعاته، فالطاعة المطلقة لا تكون إلا لله، وطاعة البشر أياً كانت صفتهم (حاكم مستبد، برلمان) هي طاعة تبعية وفي الحديث: “إنما الطاعة بالمعروف”؛ فلا طاعة لمخلوق فيما حكم الله به وقضاه.
وقال د. عبد الرحيم السلمي بأن المناقض لأصل الإسلام أن تكون الشريعة مرهونة بأهواء الناس قبولاً أو رداً، وتكون آراء الناس هي الحاكمة بشرعية النظام الذي يحكمهم، ويقضي بينهم. وحاكمية الشريعة والقبول بالإسلام والتسليم له لا يجوز أن تكون مرتهنة لأحد بل وجوب العمل بها متقدم على كافة الحقوق الفطرية والإنسانية. ومن جعل تحكيم شريعة الله مشروطاً بالأمة فهو كمن جعل تصديق خبره (وحيه) مشروطاً بالأمة.
يقول أبو حامد الغزالي: وأما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه ولا مالك إلا الخالق فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي ﷺ والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم.
فالغزالي لا يتحدث عن اعتقاد وجوب الواجبات وتحريم المحرمات بل عن نفوذ الحكم وهو “تطبيق” و”تحكيم الشريعة”، وهذا أمر متقرر عند كافة علماء الإسلام.
ويقول ابن تيمية: والإنسان متى حلّل الحرام المجمع عليه، وحرّم الحلال المجمع عليه، أو بدّل الشرع المجمع عليه كان كافراً ومرتداً باتفاق الفقهاء… أي: هو المستحلّ للحكم بغير ما أنزل الله.
والنصوص في هذا كثيرة جداً.
يشير الشيخ عبد الله العجيري لإشكالية لدى القائل بتخيير المسلمين بأحكام الشريعة حيث يقول: افتراض أن كون هذه الشعوب المسلمة ليس دليلاً على رغبتها في تحكيم الإسلام! كأن كونها مسلمة هو شيء ورغبتها في الشريعة شيء آخر! مع أن من بدهيات التدين بالإسلام أنه رغبة في تحكيمه، فإن التحاكم والالتزام بذلك ليس مجرد شيء من لوازم الإيمان بل هو من مكوناته الصميمية، فلا معنى إذن في تخيير المسلمين بالتحاكم لشريعتهم إلا إذا كان القصد تخييرهم بين قبول الإسلام أو رفضه من الأصل، وهذا أمر لا معنى له في حال الشعوب المسلمة ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَلًا مُّبِينًا﴾ [الأحزاب: ٣٦].
ويفحص الشيخ عايض الدوسري مصطلح “سيادة الأمة”، وينتهي إلى أنه يعني “سيادة الأكثرية” فما من أمة سيتفق جميع أفرادها كلهم حتى على أعظم الأصول. ومن ثم فالقائلون بسيادة الأمة يريدون في الحقيقة “سيادة الأكثرية”، فالأكثرية هي التي تمنح الشرعية. وهذا حكم تقريري بانعدام “الشرعية الذاتية للشريعة” أو “لحكم الله”، وانتقلت “الشرعية” أو “السيادة” لمجموعة من الناس يسمون “الأكثرية”.
و”مبدأ الأكثرية” مبدأ سياسي يعني فوز مجموعة أو تكتل بأكثر من نصف أصوات الناخبين، وبهذا يصير “مبدأ الأكثرية” أو “السيادة” هو نفس مبدأ الغلبة لكن بواسطة الاقتراع. وهو مبدأ قديم عرفه اليونان وأشار إليه أرسطو، ونص جان جاك روسو أن “الأكثرية” ملزمة للآخرين.
هذا المبدأ (الأكثرية) يقوم على ادعاء الحق في إعطاء صفة الحق والصواب لمبدأ العدد؛ لمجرد أنه عدد، فما يقره العدد الأكثر يصبح هو الحق والصواب والحقيقة، وهذا بلا شك مخالفة صريحة للإسلام الذي لا يعتبر بمسألة العدد أو الأكثرية في مسألة تحديد الأمور القطعية أو تحديد ماهية الحق أو الصواب والحقيقة، فضلاً عن تقرير قبول الشريعة أو رفضها. قال تعالى: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١١٦].
يقدم د. فهد العجلان مدخلاً مهما لمسألة استبداد الأكثرية لفهم إشكال سيادة الأمة والشريعة فيقول: من يقول بسيادة الأمة ولو أقصت الشريعة، ويجعل الشريعة منوطة برأي الأمة، يجعل إرادة الأكثرية مقيدة بالحقوق حسب المنظومة الليبرالية، وأما أحكام الإسلام فلم يدخلها ضمن هذه الحقوق لأنه غير مدرج في المنظومة الليبرالية.. فلديه إشكال كبير مع فرض الإسلام ويستغرب كيف تفرضه دون إرادة؟ ومن الذي يفرضه؟ ولماذا تتعدى على حق الأمة؟ ولماذا تخالف العقد؟ وإذا خالف الناس هل تقاتلهم؟ … إلخ هذه الأسئلة.
جميل.. جرب أن تقلب هذه الأسئلة على ما تؤمن (المنظومة المعاصرة) بضرورة إدراجه، فما كان جوابه عنه، فهو بالضبط نفس جواب المسلم عن الإلزام بالإسلام: هل يمكن للأكثرية أن تطالب بحرمان الأقلية من بعض -لاحِظ بعض- الحقوق اليسيرة للأقلية؟ هل يمكن للأكثرية أن تمنع الأقلية من التصويت؟ هل يمكن للأكثرية أن تضع حدوداً تضيق على حريات الناس؟ بالتأكيد: لا.
جميل. هات ذات الأسئلة التي تواجه بها الشريعة هنا: كيف تخالف إرادة الأمة؟ هل ستقاتلهم؟ هل ستشكل انقلاباً عسكرياً؟ كيف تخالف عقد الناس؟ من الذي سيفرض هذه القيود على الأمة؟ …إلخ.
هل عرفتم الآن محل الإشكال؟ محل الإشكال أن الحكم الإسلامي يراد تطبيقه في ظل منظومة فكرية مختلفة، فيخرج لك نموذجاً مشوهاً، لا هو الحكم الإسلامي، ولا هو الحكم الديمقراطي الليبرالي.
نعود للسؤال الذي تكرر: ماذا لو أن ٩٠٪ اختار غير الإسلام؟
قبل الجواب على هذا السؤال، فهذا السؤال أصلاً مبني على أنك تريد تحكيم الإسلام بناءً على منظومة مختلفة. كيف؟ لأنه حتى يأتي لك مثل هذه النسبة، لا بد أولاً أن تقرر أن من حق الناس أن يختاروا الشريعة أو يرفضوها، وهذه مخالفة قطعية للإسلام. ثم تجعل من حق رافضي الشريعة أن يجتمعوا ويتحزبوا وتفتح لهم المنابر والإعلام حتى يؤثروا على الرأي العام ويوجهوا الناس نحو وجهتهم المعارضة للشريعة، وهذه مخالفة مركبة قطعية للإسلام. ثم بعد هذا يجري التصويت، ويكون ملزماً، وتترك الشريعة وتكون المشروعية لغيرها.
وكل هذه مخالفات قطعية، صار فيها الإسلام محكوماً بمنظومة مختلفة، ومقيداً بفلسفة منافرة له تماماً.
فقبل الجواب على هذا السؤال، لا بد أن تفهم أن السؤال لم يطرح إلا في ظل نظام لا يؤمن بالإسلام ولا يطبقه. لهذا، هات هذا السؤال في المبادئ التي لا يقبل التصويت عليها: ماذا لو أن الأكثرية أرادت حرمان الأقلية من حقوقها؟ سيقول لك مباشرة: لا يحق لهم ذلك. بل ولا يمكن أن يقع هذا أساساً؛ لأن النظام لا يعطي الأكثرية هذا الحق، ولا يمكن لهم أن يصوتوا، بل وثم إشكال كبير في مجرد الحديث عنه، فلن يكون له الحرية الكافية في أن ينشر مثل هذه الأفكار لأنها تضر المجتمع وتعرض المبادئ الدستورية للخطر.
فمحل الإشكال أننا نلتزم ونرضى بكافة القيود التي تضعها النظم المعاصرة -وهي مستمدة من ثقافة مختلفة- ولا نجد أي حرج في الإلزام بها وعدم التصويت عليها وجعل العقد بديهياً بها ولا يتصور دونها، وأما أحكام الإسلام التي هي من صميم ديننا وثقافتنا وتاريخنا فلا بد له من تصويت وكلام كثير!
إذا فهمت هذا فلا تتعجب إذا علمت أن بعض من يجادل في لزوم الشريعة دون اختيار وتصويت هو نفسه يقرر أن قيادة المرأة للسيارة حق طبيعي لا يجوز التصويت عليه! وآخر يقرر أن عمل المرأة في وظيفة مختلطة حق طبيعي يجب فرضه ولو خالف الأكثرية!
يرى المالكي أن الحل الوحيد للشعوب الإسلامية هو أن تسعى إلى استعادة سيادة الأمة، ولا يصح لنا أن نطالب بتطبيق الشريعة ونحن لم نستعد تلك السيادة المسلوبة؛ لأن الشريعة نفسها لا تكون ملزمة للناس ما لم يرضوا بها؛ فإلزامية تطبيق الشريعة في الواقع لا تكون إلا بعد رضى الناس، وما لم يرضوا فإنا لسنا ملزمين بتطبيق الشريعة! فإذا أردنا أن نزيل الاستبداد والقهر علينا أن نرجع الأمة إلى المربع الأول، ونقول للناس هل ترضون بتطبيق الشريعة أم لا؟ وهل تحبون أن نطبق عليكم الشريعة؟ وما لم نفعل ذلك فنحن لم نفعل شيئاً بل خالفنا الشريعة نفسها!
تعقب د. سلطان العميري هذه الفكرة موضحاً بأنها حوت خللاً من عدة زوايا:
الزاوية الأولى: أن هذا تصوير خاطئ لمشكلة الأمة، فالمشكلة ليست في عدم رضى الأمة بتطبيق الدين، وليست في المقابلة بين تطبيق الشريعة وبين إقرار رقابة الأمة على الحاكم، فإنه لا تعارض بين أن نقول بإلزامية الشريعة وتعاليها عن رغبات الناس، وأن تكون الأمة هي الحاكمة والمراقبة على الحاكم.. بل لا نستطيع أن نقرر سيادة الأمة على الحاكم إلا بالاعتماد على إلزامية الشريعة.
فموضوع التعارض ليس هو (أصل) تطبيق الشريعة نفسها؛ لأن الأمة دينها محفوظ وكتابها لم يقع فيه التحريف وأحكام دينها واضحة، وفيها علماء يصدعون بالحق صباح مساء، فالأمة لم تفقد أصل تطبيقها لدينها أبداً، وإنما موضوعها تصرفات الحكام وعبثهم بحياة الناس ومقدراتهم وأموالهم. والحل الطبيعي القريب هو أن نقوم باستنهاض همم الأمة الإسلامية لتقويم هذا الخلل، ونقوم أيضاً بتوعية الناس بحقوقهم، وشرح الحقوق والمساحات التي حددتها الشريعة للحاكم حتى يتعرف الناس على مقدار خروجه عنها، وحتى يمكنهم إلزامه بها ومحاكمته إليه، فالناس إذا عرفوا الحدود والمساحات التي حددتها الشريعة للحاكم سيحاكمونه إليها تلقائياً.
هذا هو الحل القريب المتبادر إلى الذهن لمن يعيش في بلاد المسلمين، وهو الحل الذي دلت عليه نصوص الشريعة، وهو الحل الذي طبقه الخلفاء الراشدون وأرشدوا الناس إلى تطبيقه، وهو الحل الذي طبقه المسلمون الذين ثاروا على الاستبداد وجور الحاكم، من لدن الصحابة في حادثة الحسين إلى من جاء بعدهم.
الزاوية الثانية من الخلل: افتقاد الثمرة
ففكرة الدين الأصلية قائمة أصلاً على الخضوع والتسليم. فمن العبث أن تأتي إلى أي متدين فتقول له: هل ترضى بتطبيق دينك عليك؟! كأن تأتي إلى اليهودي فتقول له: هل تريد أن نطبق دينك عليه؟! هل تريد أن نجري أحكامه عليك؟! وكذلك الحال في كل دين. فكيف بالمسلم الذي يفتخر بدينه ويرى أن دينه محفوظ لم يحرَّف؟!
إن الانطلاق في حل معضلة المستبد من اختبار إرادة الأمة في تطبيق دينها على واقعها =تغريدٌ في فضاء آخر مختلف عن فضاء المشكلة.
إن المؤثر الحقيقي الذي ترغب الأمة في إثارة الأسئلة من أجله وتتمنى أن يُفعّل القول فيه.. هو سؤالها عمن ترضاه في سياسة دينها ودنياها ومن ثم يكون لها حق المراقبة عليه.
إن الأمة المسلمة لا تريد ممن يريد إصلاح حالها أن يقوم بانتخابات يسألها فيها عن رغبتها في تطبيق الإسلام “ولا تريد منه أن يكشف قابلية سيادتها على تطبيق دينها”، وإنما تريد منه أن يزيل عنها ذلك المستبد الظالم الذي عبث بخيراتها.
إن الذي يأتي إلى الأمة المسلمة ويقول لها: لا يمكن أن نزيل الاستبداد عنكم إلا إذا قمتم باختبار إرادتكم وهل ترغبون في تطبيق الإسلام “ونحقق لكم قابلية سيادتكم على تطبيق الشريعة” سيكون أضحوكة بين الأمة؛ لأنهم سيقولون له بصوت واحد: مشكلتنا ليست في رغبتنا في تطبيق ديننا وإنما في تسلط هذا الظالم علينا.
هذا كله يبين لنا أن طرح الإشكالية في ذلك الحل لا فائدة منه في حل معضلة المستبد، أو على الأقل فيه تطويل غير مفيد ولا مثمر.
سيادة للشريعة.. والسلطة للأمة
كتب الشيخ د. سعد بن مطر العتيبي عن الخلط الذي وقع فيه البعض بين مفهومي “السيادة” و”السلطة” فقال: “السيادة والسلطة في الحكم الديمقراطي هي للشعب، بينما السيادة في الإسلام للشرع، والسلطان للأمة”.
فالسيادة في دين الإسلام شريعة الإسلام باتفاق أهل الإسلام؛ وما يذكره بعضهم من وجود خلاف، فهو خلاف لفظي ليس إلا. فمن قال بأن “السيادة للأمة” إنما قصد: أن السلطة في تحقيق السيادة للأمة؛ لأنه يعود ليؤكد أن الأمة محكومة بالشريعة الإسلامية.
وسبب هذا الفهم: الخلط بين مصطلح السيادة والسلطة؛ ولهذا فرق أهل الشأن بينهما.
يقول الدكتور عبد الجليل محمد علي في ذات المعنى بأن القائلين من العلماء المسلمين بأن السيادة للأمة بأنهم “بعد أن ذكروا لنا أن السيادة للأمة، عادوا فقالوا: إن هذه الأخيرة -وأقصد الأمة- يجب أن لا تبرم أمراً بموجب ما لها من سيادة يخالف نصاً وارداً في أحكام التشريع الإلهي؛ وبذلك تكون سيادة الأمة مقيدة بهذا التشريع الإلهي، فإذا تجاوزته فقدت مشروعيتها… وفي التحليل النهائي فإنا نجد أنفسنا أمام سيادة للأمة الإسلامية مقيدة لصالح سيادة أسمى وأعلى منها مرتبة، وهي سيادة التشريع المنزل من عند الله.. وبذلك لا يكون هناك خلاف في الحقيقة بين هذه النظريات المختلفة”.
وواضح أن تقييد سيادة الشعب يخرجها عن معنى السيادة الأصلي الذي يعني: السلطة العليا المطلقة التي لا يقيدها شيء أو التي لا توجد سلطة أخرى إلى جانبها؛ كما يقول دوجي.
وجاء في كتاب: “السيادة وثبات الأحكام في النظرية السياسية الإسلامية”: “الإسلام جاء بقواعد تبين السيادة للشرع، وأن حق السلطان للأمة؛ وأن الإمام نائب عن الأمة في ممارسة ومباشرة هذا السلطان، ولقد خفي هذا المعنى على كثير ممن نسب السيادة أو بعضها للأمة، حيث اختلط عليهم ممارسة السلطان ومباشرة الحكم مع واقع السيادة، فجعلوها أمراً واحداً مع اختلافهما شرعاً وعقلاً”.
وجاء فيه: “وما جعله الله عز وجل من سلطان للأمة بالاستخلاف وللإمام بالبيعة، ليس تفويضاً ولا منحاً للسيادة بحال من الأحوال، بل هو تكليف وابتلاء للقيام بواجبات الدين وأحكامه”.
وهم حياد الفكرة الليبرالية
يُخطّئ د. بندر الشويقي الأستاذ عبد الله المالكي في قوله: إن الجو الأمثل لتطبيق الشريعة هو الحريات -بالمفهوم الغربي- فهو يسلّم بأن الحريات الغربية أفضل من الديكتاتوريات العربية الوضعية، ولكنه يؤكد أن حكم الإسلام والحرية الشرعية أفضل من هذا كله.
وأصل الإشكال في تصور د. الشويقي أن كل نظم الأرض لا تسلم من الإكراه في تشريعاتها، لكن الفكرة الليبرالية لما طغت وعمت وانتشرت صدق بعض الناس أنها فكرة محايدة وأن من ألزم الناس بها لا يعد معتدياً عليهم ولا مكرِهاً لهم، وهذه فكرة خاطئة، وتصور خاطئ ردده حتى بعض المفكرين الغربيين حيث دار جدل بين الليبراليين الخلص وبين الجماعاتيين الذين يرون تقديم المصلحة العامة على حق الأفراد، ويمكن الاستفادة من كتاب الليبرالية وحدود العدالة “ لمايكل ساندل الذي يرد فيه على جون رولز في كتابه الشهير “نظرية العدالة”؛ حيث يؤكد ساندل أن الليبرالية ليست فكرة محايدة بل هي فكرة تحمل في جوفها مفاهيم وقيماً، فالذي يريد إلزام الناس بها عليه أن يقدم مبرراً، لهذا لا يصح القول إن إلزام الناس بتبني الليبرالية والحريات بالمفهوم الغربي لا يُعد إكراهاً مَهما أوهمتنا الآلة الإعلامية والفكرية الليبرالية بغير ذلك.
الحقيقة أن إلزام المسلمين بالتحاكم إلى غير دين الله من أعظم صور الإكراه والقهر والإجبار حتى لو تم عبر تصويت أو اقتراع.
فالنظم حين تتحول إلى قوانين تحكم حياة الناس تنتقل من كونها نظريات مجردة، إلى قوانين وأحكام ملزمة بقطع النظر عن قناعة الأفراد المحكومين ورضاهم بها. لكن يقع الاختلاف عادةً في مستند هذا الإكراه ومرجعيته. والديمقراطية الليبرالية الغربية اختارت رأي الأكثرية ليكون أساساً يسوّغ -في الجملة- إكراه الأقلية على ما لا تريد.
ومن هنا يظهر الخلل والقصور في النظر لدى من يبرئ الديمقراطية الليبرالية من كل إلزام أو إكراه، ثم يرجع ليوجه نقده لدعاة تحكيم الشريعة على اعتبار أنهم يريدون إلزام الناس بما لا يريدون ويخالفون آية ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾؛ فالإكراه بهذا المعنى القانوني موجود في كل الأنظمة، وإنما الاختلاف في مستند الإكراه، فهذا يجعل مستنده رأي الأكثر، والأولون يجعلون مستنده دين الأمة الذي آمنت به.
في خاتمة هذا البحث
أعتقد أن الفكرة التنويرية لمفهوم السيادة والحريات تلتقي في مساحة واسعة مع الديمقراطية والحريات بالمفهوم الغربي؛ إذ الفارق الجوهري بين الحرية بالمنظور الإسلامي والحرية بالمنظور الغربي هو (مصدر التقييد والإلزام)، فعلى أرض الواقع معلوم أن ليس ثمة حرية مطلقة بلا ضوابط، وإنما يختلف الناس والمجتمعات في المصدر الذي تنبثق منه المعايير الضابطة لحريات الناس:
فأما المسلمون فينطلقون ابتداء من محكمات الشريعة الإسلامية وما يمكن أن يصطلحوا عليه مما لا يتعارض مع أحكام الشريعة، فالمعايير الضابطة للحريات المستمدة من الشريعة الإسلامية تكتسب صفة (الإلزام) من كونها ديناً ربانياً وتكليفاً شرعياً من الله تعالى، ولا تفتقر لشيء آخر كتصويت الناس لتكون ملزمة.
وأما الإخوة التنويريون فهم يقولون إن هذه الأوامر الشرعية الضابطة للحريات تحتاج إلى شيء آخر لتكتسب صفة (الإلزام) وهو تصويت الشعب، ودون تصويت الشعب فلا تكون المعايير الشرعية ملزمة، وعليه فلا مانع نظامي لديهم في هذه الحالة من أن يقول الإنسان ما يشاء من الأقوال الكفرية والدعوة لكل الأفكار والعقائد الضالة والمنحرفة.
وهم بهذا التصور يتفقون مع المفهوم الغربي الليبرالي الذي يقيد الحريات بالقوانين والأنظمة التي يشرعها البشر طبقاً لأهوائهم وأمزجتهم. ويقفون في مساحة توافقية بارزة مع رواد وفلاسفة الليبرالية الأوائل حيث يقول توماس هوبز: إن الكتاب المقدس لا يصبح قانوناً إلا إذا جعلته السلطة المدنية كذلك. ويقول اسبينوزا: إن الدين لا تكون له قوة القانون إلا بإرادة من له الحق في الحكم.
هذا التصور الذي قال به التنويريون استتبع جملة من الانقلابات في المفاهيم والتصورات وأدى بالكثيرين إلى التنكر للأحكام الشرعية التي لا تستقيم معه، وهذا عين المعنى الذي كان يحاذره المعترضون على التبشير بالديمقراطية الليبرالية، فالتنويريون شرعوا في تفكيك الأحكام الشرعية المحكمة التي تعارض تصوراتهم الجديدة، وصرفوا في هذا الصدد أكثر مما صرفوه في منابذة الاستبداد نفسه.
ـــــــــــــــــــــــ