
20 دليلا على نبوة محمد بن عبد الله ﷺ
مارس 12, 2025
ذكرى وفاة الشيخ الجليل حارث سليمان الضاري
مارس 12, 2025د. إسماعيل محمد رفعت – من علماء الأزهر الشريف
الصورة النمطية التي ما زالت تقدمها (الميديا) للشخصيات العظيمة في تاريخنا تختصر العظمة في خوارق جسدية، ومن نتاج ما قدمته الأفلام والمسلسلات في أذهان أجيال أن ارتسم صورة ذهنية لآحاد عظماء الأمة، فلا تكاد يُذكر بطل أو عالم إلا واستدعى الذهن صورة شخصها ممثل مفتول العضلات جميل الصورة، حتى وإن تدخلت في صناعة هذه الصورة التقنيات الحديثة في اللعب بالأشكال والأجساد، والغريب أن المشخصين أنفسهم ليسوا بهذه القوة من الشكل أو الحركة التي عرضتها علينا (التمثيليات).
ومع افتراض حسن نية العاملين في هذا المجال، فإنهم يفتقدون النظر الثاقب في الدرس التاريخي والبُعد التربوي ويرون نجاحهم في إبراز الصورة المثيرة للشغف، أكثر من عكس واقع الأمر!
فإذا كان كسب القدوة الصالحة هو الهدف من حرص الآباء أن يشاهد أبناؤهم تمثيليات لقصص الأبطال والمصلحين، فإن تجسيد العظماء كعمالقة وعلى خلاف حقيقة حالتهم البنيوية؛ هو مغالطة تصيب الأجيال القادمة باليأس من أن يخرج منهم واحد كهؤلاء العظماء، بسبب بسيط أنه رأى هؤلاء العظماء في الأفلام والمسلسلات عمالقة في أجسادهم وأقوياء في أبدانهم، ويمثل الفرق الهائل بينهم وبين الشخصية المغلوطة في البنية الجسدية حاجزاً بينهم وبين الإنجازات التي تجعلهم في مصاف العظام!
وهذه الحالة لا تختلف كثيراً عما يفعله بعض الوالدين، فإذا ما رأى أحدهما طفلاً صغيراً ختم القرآن أو حصل على جوائز دولية، فيبادر بعرض مصوراتهم وأخبارهم لابنه، في حالة مقارنة بينهما ظناً منه أنه يُحفز ولده ويشجعه على الحفظ والتفوق، وبفعله هذا -ومن حيث لا يدري- يصاب الصغير بخيبة أمل وشعور بالفشل، لأن هناك جهد غير مرئي قبل مشهد الإنجاز الكبير والفوز بجائزة دولية؛ لعل أقله: هو جهد الصغير الفائز، وأكثره: مجهود الوالدين ومثابرتهم في متابعة ابنهم في برنامج متكامل مع شيخ متقن!
مثل هذه المفارقات تذكرني بالأستاذ الشيخ البصير «أحمد محرم» -قدس الله سره وبرَّد مضجعه- أحد أساطين علم الحديث الشريف في جامعة الأزهر، وأكبر مشايخي في الحديث والتهذيب -رَحِمَهُ اللَّهُ- كان ورده في صلاة الفرائض ثلاثة أجزاء يقرأ بها يومياً، وذكر لنا أنه لم ينجح في مسابقة قط! وهو متقن الوحيين حفظاً وتجويداً!
وإن مشهداً حقيقياً لـ«أبي إبراهيم السنوار» وهو صاحب جسد نحيل يتوكأ على خشبة ويلتحف بغطاء بالٍ ويتمثل قول شوقي:
وللحرية الحمراء بابٌ ** بكل يد مضرجة يُدَقُّ
إنه مشهد يصحح لنا مفهوم الصورة الجسدية المبالغ فيها التي تُعرض للعظماء على الشاشات، فقد كان هناك العديد من العلماء والقادة الذين عانوا من أمراض أو إعاقات لكنهم قادوا جيوشهم لانتصارات كبيرة، لأن العظمة لا ترتبط بالجسد العملاق، بل بالإرادة والعقل والعمل الدؤوب، وكثير منهم لم يكون صاحب بنية جسدية خارقة، بل منهم من عانى من أمراض وإعاقات لم تمنعهم من تحقيق إنجازات خرافية في مجالاتهم، ولا نمل من التكرار أن العظمة ترتبط بالإرادة والذكاء، وهما أقوى من الظروف الجسدية، وهذا ما جعلهم يحققون نجاحات كبيرة رغم التحديات التي واجهوها.
إن في تاريخ البشرية نماذج حية لإمكانية تحويل العقبات إلى فرص، وللصمود في الأوقات العصيبة، وقد كان لهم رؤى إنسانية لا زالت مصدر إلهام للأجيال القادمة، ورغم معاناتهم لم تقتصر إنجازاتهم على ميادين الحرب والسياسة أو العلم فحسب! بل شكلوا وعيًا ضد العجز والاستكانة بقي أثره وامتد عطاؤه!
إنهم عرفوا كيفية تحويل نقاط ضعفهم إلى قوة، سواء كان ذلك عن طريق الذكاء الاستراتيجي أو القيادة والقدوة الحكيمة!
إن الطبيعة الجسدية العملاقة لم تتوفر حتى للنبي ﷺ وفضلاً عما ورد في شمائله الشريفة ﷺ فثمة أشياء تمنع قصر عظمة الرسول ﷺ على البنية العملاقة منها:
- جعل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى فيه ﷺ القدوة للبشرية ﴿لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21] والتكاليف التعبدية القائمة على القدرة البشرية لا يعقل أن يكون القدوة فيها عملاقاً أو خارقاً في إمكانياته الجسدية؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَلَوۡ جَعَلۡنَٰهُ مَلَكًا لَّجَعَلۡنَٰهُ رَجُلًا وَلَلَبَسۡنَا عَلَيۡهِم مَّا يَلۡبِسُونَ﴾ [الأنعام: 9].
- وصرح القرآن العظيم بالطبيعة البشرية الكاملة للنبي ﷺ وجعل الفرق الوحيد بين نفسه الشريفة وبين سائر البشر هو الوحي المُلْهِم للإرادة والإصرار على تحصيل الكمال، فقال جَلَّ وَعَلَا: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ﴾ [الكهف: 110، فصلت: 6].
إن القوة الخارقة التي تتخطى قدرات البشر تُخرج صاحبها عن خاصية وموضوعية القدوة الشريفة التي هي من صميم عمل النبي الكريم ﷺ، وإن وردت أحاديث في بيان قدرته ﷺ على مصارعة الأبطال -كحديث ركانة- وهو معلول بالإرسال عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ بِالْبَطْحَاءِ فَأَتَى عَلَيْهِ رُكَانَةَ وَمَعَهُ أَعْنُزٍ لَهُ، فَقَالَ: لَهُ: يَا مُحَمَّدُ هَلْ لَكَ أَنْ تُصَارِعَنِي؟ قَالَ: «مَا تَسْبِقُنِي» قَالَ: شَاةٌ مِنْ غَنَمِي، فَصَارَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَصَرَعَهُ فَأَخَذَ شَاةً، فَقَامَ رُكَانَةُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي الْعَوْدَةِ؟ فَصَارَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَصَرَعَهُ، فَقَالَ: لَهُ مِثْلَهَا، فَصَارَعَهُ النَّبِيُّ ﷺ فَصَرَعَهُ، ذَكَرَ ذَلِكَ مِرَارًا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ مَا وَضَعَ جَنْبِي أَحَدٌ إِلَى الْأَرْضِ، وَمَا أَنْتَ الَّذِي صَرَعَنِي، فَأَسْلَمَ وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ() وَرَدَّ عَلَيْهِ غَنَمَهُ»().
لكن هذا وإن كان تأييداً ربانياً لم يكن خارجاً عن إطار الطاقة البشري في مجال القوة الجسدية الذي قد يتفق لأحاد الناس مثله أو أكثر! وأكثر الصحابة -رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- آمنوا على ضعف في الحال، وتحملوا الاستضعاف ممنوعين من رد العدوان في أول الأمر، فلم يكن الدافع هو خروج النبي ﷺ كصاحب قوة خارقة فاتبعوه لذلك! بل كان الإيمان بالوحي والعمل به هو السر المكنون في إيمانهم وعظمة إنجازاتهم، فما حققوه في ربع قرن عجزت عنه سائر الأمم بل حتى أتباع كل الأنبياء -عَلَيْهِم السَّلَام-!
ومن هذا كان الاعتراض -المعروف- على العنوان الذي وضعه الأستاذ العقاد لكتابه الرائع «عبقرية محمد» فإن عظمة الرسول ﷺ ليس في كونه عبقرياً، وكذلك لا يختصر وصف الرسول ﷺ في الذكاء الاجتماعي كزوج متوافق لم تعترض على معيشته أيٍ من زوجاته -رَضِي الله عَنْهُن- ولا كقائد عسكري منتصر في أغلب ما خاض من غزوات، ولا حتى زعيماً، بل إن عظمته ﷺ في «الوحي الشريف» كما دل عليه القرآن الكريم: ﴿قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٌ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ﴾.
الاستقامة سر النجاح
وكما كان الوحي الشريف خاصية للنبي ﷺ فإن اتباع الوحي هو مزية أتباعه على مر التاريخ وأبوبكر الصديق -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كأول خليفة له ﷺ لم يكن في إهاب المصارعين الأبطال، ولكنه صاحب قلب امتلأ إيماناً وإرادة قوية في الحفاظ على الدين والحرص على تطبيقه، يروى عن النبي ﷺ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَتِيقٍ مِنَ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ»(). شهد مع النبي ﷺ المشاهد كلها، ولم يفارقه في جاهلية، ولا في الإسلام، وهو أول الرجال إسلامًا، كان أبيض نحيفًا خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة [وفي رواية: والوجنة] عاري الأشاجع() أجنأ() لا يستمسك، إزاره يسترخي عن حقويه()، له ولأبويه وولده وولد ولده صحبة، ولم يجتمع هذا لأحد من الصحابة() رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ.
فها نحن نرى رجل من ناحية البنية الجسدية لا يختلف عن عموم الناس، ولا شك أن فيهم من هو أقوى منه، لكن لما تُراجع مواقفه تجد أن له جوانب قوة لم تتوفر لأحد بعد رسول الله ﷺ إلا لأبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
ومن الصحابة أيضا عمرو بن الجموح (ت 3ه) كان أعرجًا، ورغم ذلك أصر على الجهاد في غزوة أحد واستشهد فيها -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
ومن أبرز الصابرين على البلاء مع الشيخوخة
أحمد بن حنبل (164- 241ه) رغم معاناته السجن والتعذيب أثناء محنة القول بخلق القرآن، إلا أنه لم يساوم على مبدأه، وظل صامدًا في مواجهة ظلم السلطة، ولم تمنعه أوجاعه من أن يصبح أحد أعظم الأئمة في الإسلام! بل قال علي بن المديني: إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث، أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة().
ولك أن تقول أن أحمد -رَحِمَهُ اللَّهُ- لم يتوفر له من الأعوان في المحنة ما توفر لسيدنا أبي بكر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في مواجهة الردة.
ومن القادة المسلمين:
- القائد الأفغاني السلطان محمود بن سُبُكْتِكِيْن الغزنوي (361-421ه) الذي أسس إمبراطورية قوية وقاد حملات ناجحة في الهند، خاض ما يقرب من سبع عشرة معركة ضد الهنود في الفترة من 1001م إلى 1027م، وأمضى أغلب حياته في الجهاد والغزو، وبالأخص غزواته إلى الهند التي أنهكته جدًا، «أصيب بمرض عاناه مدة سنتين، لم يضطجع فيهما على فراش بل كان يتكئ جالساً، حتى مات وهو كذلك»().
- ومن قبله «محمد بن القاسم الثقَفي الذي حاز من الهند ما لم يَحُزْه قبله فاتح ولم يَزِدْ عمره يومئذ عن سبع عشرة سنة، وهي سنّ تلميذ في الصف الثاني الثانوي!»().
وللمقال بقية.