الدفاع المدني بغزة: العدوان الإسرائيلي شمال القطاع الأكثر دموية منذ بدايته
ديسمبر 4, 202420 شهيدًا بينهم أطفال بقصف الاحتلال لخيام النازحين جنوب غزة
ديسمبر 6, 2024بقلم: د. سميح عبد الرحمن – مدير أكاديمية أنصار النبي ﷺ
كان من بين المشاهد التي لفتت الأنظار إليها بعد اكتشاف العدو أنه قتل يحيى السنوار (بالصدفة)، هو ما نُشر من صور المقتنيات التي كانت بحوزة الشهيد القائد -تقبله الله-، وقفنا في المقال الماضي مع عدد من هذه المقتنيات، وفي السطور القادمة، نتابع القراءة في أبرز ما بقي من هذه المقتنيات، في خواطر ودروس مختصرة.
الساعة
الساعة بالنسبة للقائد العسكري والمقاتل في الميدان ليست مجرد أداة لمعرفة الوقت، بل هي عنصر حيوي يُعتمد عليه لتحقيق الانضباط والدقة في تنفيذ المهام العسكرية التي تعتمد أساساً على التوقيت الدقيق، سواء في بدء الهجوم، أو الانسحاب، أو التبديلات بين المفارز والمجموعات العسكرية، وكثيراً ما يعتمد نجاح الكمين أو استهداف الآليات بالعبوات والقذائف على دقة التوقيت، وحسن التنسيق الزمني بين الأفراد والمجموعات المشاركة في العملية. وفي البيئات الصعبة، عادة ما يكون للمقاتل وقت محدود لإنجاز مهماته قبل استنزاف طاقته، ويحتاج من أجل ذلك لتنظيم وقت نومه وأكله وشربه، ليُحافظ على كفاءة أدائه العسكري، وفي حالات الإصابة، يعتمد المقاتل المحترف على الساعة لتحديد مدة الاستجابة للإسعافات الأولية، وغير ذلك الكثير، حتى إنه يمكن القول بأن وجود ساعة دقيقة والانضباط الزمني بالتوقيتات يُمكن أن يكون الفارق بين النجاح أو الفشل، أو الحياة والموت.
ولقد كانت “ساعة السنوار” مثار اهتمام وتساؤل دائماً، ليس فقط في مشهد استشهاده، بل في مقاطع الفيديو التي ظهر فيها وهو في السجن كذلك، وتكاد لا تُعرف صورة للسنوار لا تظهر فيها الساعة على معصمه!
لقد كان السنوار شديد الاهتمام بالوقت، حريصاً على استثماره بالشكل الأمثل، فقضى شطراً من سنوات سجنه في الدراسة الجامعية، حين كانت سلطات السجون الإسرائيلية تسمح للسجناء الأمنيين بالحصول على شهادة جامعية من خلال التعلم عن بُعد في الجامعة المفتوحة، فتعلم السنوار اللغة العبرية، ودرس الكثير من الدورات في التاريخ القديم لليهود في مختلف الِحقب، واهتم بالدورات الخاصة بالبناء المجتمعي والسياسي والأمني الإسرائيلي، وأشارت تقارير إسرائيلية عن دراسة السنوار في السجن أنه أخذ 15 دورة في قسمي العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، وحصل على متوسط علامات 90%.
إضافة إلى ذلك فقد ترجم العديد من كتب الأمن والاستخبارات الإسرائيلية وعدداً من السير الذاتية للقادة الأمنيين الإسرائيليين، وكان يعقد دورات لزملائه في السجن في عدد من العلوم العسكرية والأمنية والاستخبارية.
وحين خرج من السجن في 2011، كان يسابق الزمن لإحداث إنجاز كبير في تاريخ المقاومة مع العدو الصهيوني، وكأنه كان يشعر أن أيامه معدودة، فخرج منذ اليوم الأول وعينه على السياج الذي يسجن أهل غزة في سجن كبير، ولسانه حاله يقول: سنكسر السور وندخل عليهم الباب! وبعزيمة لا تلين، انخرط في العمل مع إخوانه في الحركة، ليتبوأ خلال سنوات معدودة قيادة الحركة في غزة، ويطلق الطوفان الذي غير وجه العالم.
إن الناظر لحجم التأثير الذي صنعه السنوار في شكل وطبيعة الصراع والتدافع والمقاومة ضد المحتل وداعميه، لا يملك إلا أن يعجب؛ كيف لرجل قضى نصف حياته في السجن أن ينجز ذلك، في هذا السنوات المحدودة بعد خروجه من الأسر؟! ولا شك أن إدراك السنوار للوقت وتعامله مع الزمن في حياته، كان أحد العوامل الأساسية في هذا الإنجاز.
وهذه دعوة لكل حامل هم وصاحب رسالة، لكل راغب للعمل لنصرة هذا الدين ورفعة هذه الأمة؛ أدرك الوقت! لا يكن أهون شيء عليك هو وقتك، تضيع منه الساعات الطوال فيما لا نفع فيه، أو تسير في دربك مشتتاً بلا خطة عمل مزمنة وهادفة، وتحسب أنك قد تصنع فارقاً بهذا، وأنَّى لك؟!
وأذكرك هنا بأحاديث النبي ﷺ في هذا الشأن، حيث قال ﷺ: “نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ”، وقال أيضاً: “لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ … الحديث”، وقال ﷺ في الحث على اغتنام الأوقات والأعمار: “اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شَبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَكَ قبلَ مَوْتِكَ”.
حلوى المنتوس
حلوى المنتوس هي نوع من السكاكر بطعم النعناع، وأغلب الظن أنها كانت زاداً رئيسياً للقائد الشهيد أثناء حركته وتنقلاته بين المواقع القتالية، وذلك لأنها تحتوي على سكريات بسيطة وسريعة الامتصاص، مما يجعلها مصدرًا مثاليًا للطاقة الفورية، خاصة أثناء العمليات التي تتطلب بذل مجهود بدني أو ذهني كبير.
في العمليات العسكرية التي يطول فيها وقت القتال دون إمكانية تناول وجبة متكاملة، يمكن الاعتماد على السكاكر لتوفير احتياجات الجسم من السعرات الحرارية اللازمة، حيث تُسهم في رفع مستوى الجلوكوز في الدم، مما يُحسّن وظائف الدماغ كالتركيز والانتباه، ويُقلل من الإجهاد العضلي، وتتميز السكاكر بكونها خفيفة الوزن وسهلة التخزين، مما يجعلها مثالية للمقاتلين أثناء التنقل أو العمل في بيئات يصعب فيها حمل الأطعمة التقليدية.
ومن دلائل هذا المشهد كذلك؛ هو حجم الضنك والضيق وقلة الزاد الذي يعيشه أهل غزة ومقاومتها، نتيجة للحصار الخانق الذي يضربه العدو على القطاع، وكم يعمق ذلك شعور المرارة في النفس، لعجز أمة الملياري مسلم عن إدخال ما يقيت أطفال غزة، ويسد جوع رجال المقاومة! وما ذلك -والله- إلا نتيجة الوهن الذي أخبرنا به رسول الله ﷺ، الذي هو حب الدنيا والركون إليها، وكراهية الموت، وترك الجهاد مظنة أنه سبب لقرب الآجال أو تقصير الأعمار، وما هو بذلك، إنما هو سبيل الحياة الحقيقية؛ حياة العزة والكرامة والمجد في الدنيا، وحياة الخلود في الجنة في الآخرة.
وفي الحديث: “إذا تبايعتُم بالعينةِ، وأخذتم أذنابَ البقرِ، ورضيتُم بالزَّرعِ، وترَكتمُ الجِهادَ، سلَّطَ اللَّهُ عليْكم ذلاًّ لاَ ينزعُهُ حتَّى ترجعوا إلى دينِكُم”، فسمى رسول الله ﷺ العودة إلى الجهاد عودة إلى الدين، لأن به يظهر الدين ويعلو، وتعز الأمة وتنتصر.
كما يذكرنا مشهد تزود السنوار بالسكاكر وحفظها في جعبته بسرية “سيف البحر” التي يروي قصتها عبادة بن الصامت فيقول: “بعث رسولُ اللهِ ﷺ سريَّةً إلى سيفِ البحرِ، عليهم أبو عبيدةَ بنُ الجرَّاحِ وزوَّدهم جِرابًا من تمرٍ، فجعل يقوتُهم إيَّاه حتَّى صار إلى أن يعُدَّه عليهم عددًا، قال: ثمَّ نفد التَّمرُ حتَّى كان يُعطي كلَّ رجلٍ منهم تمرةً، قال: فقسَمها يومًا بيننا، فنقصت تمرة عن رجلٍ فوجدنا فَقْدَها ذلك اليومَ. قال: فلمَّا جهَدنا الجوعُ أخرج اللهُ لنا دابَّةً من البحرِ فأصبنا من لحمِها وودَكِها وأقمنا عشرين ليلةً حتَّى سمِنَّا وابتللنا… فلمَّا قدِمنا على رسولِ اللهِ ﷺ أخبرناه خبرَها وسألناه عمَّا صنعنا في ذلك من أكلِنا إيَّاه فقال: رزقٌ رزقكموه اللهُ”. وكم في حياة المجاهدين في غزة اليوم من أوجه الشبه بحياة الصحابة الأوائل!
المسبحة
ومن حرصه الشديد -تقبله الله- على أوراده وأذكاره، أن كانت مسبحته معه حال استشهاده، مسبحة يعد عليها الأذكار الواردة في السنة بأوقاتها وأعدادها، ثم يعد عليها مطلق أذكاره وأوراده، فقد تواترت نقولات إخوانه الذين صحبوه في الأسر، أو رافقوه بعد خروجه منه، أو عملوا معه في المستويات الإدارية المختلفة في قيادة المقاومة، أجمعت كلمتهم على حرص أبي إبراهيم الشديد على وقت أوراده وأذكاره الخاصة، والتي ما كان يفوتها أبداً، وعلى عمق أثر هذه الأذكار، وهذا الارتباط بالله عز وجل في سلوكه وسيرته.
وهكذا ينبغي أن يكون حال كل سائر على طريق العمل لدين الله عز وجل، لابد أن يحرص على زاده الإيماني، وغذائه الروحي، ويعمق صلته بربه جل وعلا بالأوراد والأذكار والخلوات، فهي سبيل الثبات ومجلبة التوفيق.
كتيب: أدعية نافعة
وكان من مقتنيات القائد أبي إبراهيم -رحمه الله- ذلك الكتيب الصغير المعنون: “أدعية نافعة”، وكأنه يحرص على كل التفاصيل ويوليها اهتماماً بالغاً، حتى في الدعاء، يحرص على اقتناء كتيب في الأدعية المأثورة، والتي تكون فيها جوامع الأدعية من الكتاب والسنة، تجمع خيري الدنيا والآخرة.
وفي الاهتمام بالدعاء في المعركة عظيم التأسي بسيد الخلق ﷺ، فعن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: “لقدْ رأيْتُنَا ليْلةَ بَدْرٍ وما فينا إنسَانٌ إِلَّا نائم، إِلَّا رسول الله ﷺ، فإِنَّه كان يُصلِّي إلى شجرةٍ، ويدْعو حتَّى أَصْبَح”.
ولشدة وعظم الموقف على الصحابة رضوان الله عليهم في غزوة بدر كان من دعاء النبي ﷺ لأصحابه: “اللَّهمَّ إنَّهم حُفاةٌ فاحملْهم، اللَّهمَّ إنَّهم عُراة فاكسُهم، اللَّهمَّ إنَّهم جياعٌ فأشبعهم”. ففتحَ الله له يومَ بدرٍ فانقلبوا حينَ انقلبوا وما منهم رجلٌ إلَّا وقد رجعَ بجملٍ أو جملَينِ واكتَسوا وشبِعوا. وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “لما كان يوم بدر نظر رسول الله ﷺ إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله ﷺ القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: “اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعْبد في الأرض”، فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه، وقال: “يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك”، فأنزل الله عز وجل: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾، فأمدّه الله بالملائكة”.
وثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنه- قال: دعا رسول الله ﷺ يوم الأحزاب على المشركين فقال: “اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اللهم اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم”، وفي المسند عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله هل من شيء نقوله؟ فقد بلغت القلوب الحناجر، قال: “نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا”، قال: فضرب الله -عزَّ وجلَّ- وجوه أعدائنا بالريح، فهزمهم الله عز وجل بالريح.
ومشاهد دعاء النبي ﷺ على الأعداء، وفي مواطن الشدة والبلاء كثيرة ومتواترة.
ومن الطبيعي أن يلوذ المجاهدون وقادتهم بالدعاء، فهو لكل مجاهد سرُّ النصر المستتر، يرفعه من تراب الأرض إلى سماء اليقين، ويمنحه سندًا من الله لا تخور له عزيمة، وحين يشتد وقع المعركة، يكون الدعاء هو الملاذ الآمن، الذي ينساب في القلب كنبع من السكينة، فيرى العبد في ضعفه قوة الله، وفي قلة حيلته عظمة القادر المقتدر، فيفيض عليه الدعاء بإيمانٍ صادق، يزيده ثباتًا وقوةً وتوكلاً، فلا يكاد يرى العدو ولا آلياته ولا مقدراته شيئاً، إذ تتلاشى كلها في عينه مع تعاظم قدرة الله العظيم التي تغشى قلبه من أثر السكينة التي يصبها الدعاء في قلبه، فنجد المقاوم يخرج بعبوة الفدائي في يده، يركض بها نحو آلية للعدو، فيضعها في مقتلها، ثم يرجع إلى مكمنه ليشاهدها وهي تشتعل على أصحابها ناراً، أو نرى القائد يخرج مع رفيقيه إلى بيوت حي “تل السلطان”، يتابع سير المعركة، فيعثر على كتيبة للعدو مدججة بالسلاح، مسندة بالدبابات والطائرات، فيواجهها، (ببندقيته الكلاشنكوف، ومسدسه الغلوك، وقنابله اليدوية)، حتى إذا لم يبق له من ذلك شيء، رماهم بعصاه، ليصير مثلاً خالداً في ذاكرة الأمة، ولتقول العرب أبداً في أمثالها: “رميته بعصا السنوار”.