سنوار مان!.. حاشية على رثاء أبي إبراهيم!
نوفمبر 10, 2024في غمرات الطوفان (1) .. متى نصر الله؟
نوفمبر 11, 2024سميح عبدالرحمن
“أنا قلت وأكرر: إن كنا نخشى الموت، فنحن نخشى الموت على فراشنا كما يموت البعير، نخشى أن نموت في حوادث الطرق، أو بجلطة دماغية، أو بسكتة قلبية، لكننا لا نخشى أن نُقتل في سبيل ديننا، وفي سبيل وطننا، وفي سبيل مقدساتنا، فدماؤنا وأرواحنا ليست أغلى من دماء وأرواح أصغر شهيد قدّم روحه الغالية في سبيل هذا الوطن وهذا الدين وهذه المقدسات“.
القائد يحيى السنوار في لقاء في برنامج (من النكبة.. إلى العودة) عام 2018 على قناة الجزيرة.
وكأن هذا المعنى كان حاضراً على الدوام في ذهن وعقل المجاهد البطل القائد المغوار يحيى السنوار -تقبله الله- يهتم له، وينشغل به، فقد تواتر في كثير من لقاءاته وكلماته المأثورة، بعبارات مختلفة، تفيد في مجملها حرصه الشديد على نيل الشهادة في الميدان، مجاهداً في سبيل دينه، ومقاوماً لتحرير وطنه ومقدساته.
وجاءت تلك اللحظة التي طالما تمناها -ويتمناها كل مجاهد- وذلك في عصر يوم الأربعاء الموافق 16 أكتوبر 2024، حين اشتبك القائد الشهيد واثنان من رفاقه مع مجموعة من جنود العدو من اللواء 828 العامل في منطقة (تل السلطان) بـ(رفح)، ليرتقي على إثر هذا الاشتباك القائد يحيى السنوار شهيداً إلى ربه، في ملحمة بطولية ومشاهد وأحداث أسطورية، قدّر الله لها الخلود والبقاء حية في وجدان الأمة وذاكرة الأجيال.
سعى الاحتلال سعياً حثيثاً منذ السابع من أكتوبر المجيد إلى الوصول إلى القائد يحيى السنوار بصفته مهندس معركة (الطوفان) وقائدها، لكنه فشل في ذلك فشلاً ذريعاً على مدار أكثر من عام، وحين حانت اللحظة المقدرة، لم يكن السنوار مختبئاً في الأنفاق، ولا محيطاً نفسه بالمتفجرات وأسرى العدو -ولو فعل ذلك فإنه لا يعيبه بطبيعة الحال- كما لم يكن وسط المدنيين يتخذهم دروعاً بشرية، كما دأبت على افتراء ذلك أبواق النفاق، بل كان في أشد جبهات الاشتباك مع العدو، في منطقة خالية من السكان منذ أكثر من خمسة أشهر قبل استشهاده، ثم يكون قتاله لهم ومواجهته لجنودهم بجسارة غير مسبوقة، فيصيب منهم ببندقيته، ثم يردهم بقنابله اليدوية على الرغم من جسده المثخن بالجراح، حتى قصفوه بالدبابات، ثم أرسلوا طائرة الاستطلاع لترصد نتيجة القصف، لنرى جميعاً بعيونها بطلنا قد جلس على كرسي، مثخناً بالجراح، مضرجاً بالدماء، ملثماً كي لا يُعرَف، فيسعون في أخذه أسيراً، مفضلاً الشهادة على محاولة الاختباء أو الوقوع في الأسر، ثم يرمي طائرتهم بعصاه الخالدة، في رمزية أسطورية على مثابرته في قتال عدوه حتى الرمق الأخير، ولو بالعصا، وما دون العصا.
وكان من بين المشاهد التي لفتت الأنظار إليها بعد اكتشاف العدو أنه قتل يحيى السنوار (بالصدفة)، هو ما نُشر من صور المقتنيات التي كانت بحوزة الشهيد القائد -تقبله الله- وفي السطور القادمة نقف سوياً مع أبرز هذه المقتنيات في خواطر ودروس مختصرة.
الكلاشنكوف AK-47
كان من أبرز ما تركه القائد أبو إبراهيم هو سلاحه الشخصي (الكلاشنكوف)، ويُعد سلاح الكلاشنكوف، أوAK-47، أحد أشهر الأسلحة في حروب العصابات، وهو بندقية هجومية صممها المهندس العسكري (ميخائيل كلاشنكوف) في الاتحاد السوفيتي عام 1947م، ويتميز هذا السلاح ببنائه القوي وقلة أعطاله، مع بساطته وسهولة صيانته وفكه وتركيبه وتنظيفه، مما يجعله سلاحًا فعالًا في البيئات الصعبة، مع كفاءة عالية في العمل والأداء في الظروف المناخية المختلفة، وقد وُجد ضمن مقتنيات القائد السنوار مخزنين للذخيرة، كل منهما سعة 30طلقة، ويستخدم الكلاشنكوف ذخيرة من عيار 7.62×39 ملم، وهي ذخيرة قوية توفر اختراقاً عالياً ومدى مؤثراً يصل إلى حوالي 400 متر، ويتميز هذا العيار بفعاليته في الاشتباكات القريبة والمتوسطة، ويمنح السلاح قوة ارتداد معتدلة نسبياً، مما يسهل على المقاتلين التحكم به في ظروف القتال المتنوعة، ولهذه الأسباب يُعد (الكلاشنكوف) السلاح الرسمي لأغلب الجماعات المسلحة حول العالم.
وبالنظر إلى السلاح الشخصي لأي مقاتل فإنه يمثل أكثر من مجرد أداة للقتال؛ فهو يعتبر امتداداً لقوته ورمزاً لإصراره على الدفاع عن نفسه ومبادئه، والسلاح في المعركة يمنح صاحبه شعورًا بالثقة والأمان والسيطرة الميدانية، من خلال القدرة على الاشتباك ورد الاعتداء وعدم الوقوع في الأسر ما دامت يده قابضة على سلاحه.
ويُعد سلاح الكلاشنكوف في الحروب الحديثة بمثابة السيف في الحروب القديمة، إذ هو سلاح قتال شخصي، يستخدم في الالتحامات المباشرة بين الأفراد، وكان رسول الله ﷺ وأصحابه يحرصون على اقتناء السيوف الجيدة، ويعتنون بها عناية خاصة، وقد كان لرسول الله ﷺ تسعة أسياف، وكان لكثير من قادة الصحابة وفرسانهم عدد من الأسياف المشهورة بأسمائها، وكما أن أشهر سيوف العرب قديماً هو “صمصامة عمرو” فإن بندقية السنوار تستحق أن تكون هي أكرم سلاح لمقاومٍ في هذا العصر.
ولقد كان رجال هذه الأمة عبر تاريخها يملكون أسلحتهم القتالية الشخصية، ويجيدون استخدامها بمهارة وكفاءة عالية، ليكونوا دائماً على أهبة الاستعداد للنفير في سبيل الله متى دعا داعي الجهاد، ولتكون سيوفهم أداة إقامة الحق، ودفع الظلم، وصون الحرمات، حتى جاءت الدولة الحديثة، فجردت الأمة من سلاحها، لتحتكر هي حق تصنيعه وحيازته واستخدامه، ليسهل عليها إخضاع الناس والبطش بهم، دون أن يكون لها رادع من سيف يُرفع أو رمح يُشرع.
المسدس (غلوك)
من أشهر صور القائد الشهيد السنوار -تقبّله الله- صورته وهو يضع مسدساً من نوع (غلوك) مزودا بكاتم صوت في حزامه، وهو على منصة احتفالية في إحدى المؤتمرات الشعبية، كما تفاخر بهذا المسدس رافعاً إياه في كثير من المناسبات، والسبب في ذلك يعود لقصة هذا المسدس.
المسدس يعود لضابط القوات الخاصة الإسرائيلي الدرزي محمود خير الدين، وهو ضابط برتبة (مقدم) يعمل في وحدة (ميتكال) التابعة لشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان)، وتُعد وحدة (ميتكال) التي تأسست عام 1957م من نخبة الوحدات القتالية في الجيش الإسرائيلي، إذ تركز على استقطاب أفراد يتمتعون بقدرات جسدية وذهنية عالية، ويخضعون لتدريبات صارمة، وتتمثل مهامها الأساسية في جمع المعلومات الاستخباراتية، والقيام بمهام استطلاعية خلف خطوط العدو، وفي إحدى هذه المهام التي كان يقوم بها المقدم محمود خير الدين على رأس مجموعة متخفية من 7 أفراد في خان يونس عام 2018، استطاعت كتيبة خان يونس بقيادة الشيخ الشهيد نور بركة كشف المجموعة وإفشال مهمتها والاشتباك معها، حيث قُتل قائد المجموعة الإسرائيلية وغنم المجاهدون مسدسه، ليقتنيه القائد السنوار، ويتفاخر به أمام العدو في رسالة مفادها أننا أفشلنا مهمتكم، وسنفشلها على الدوام.
ظهر المسدس قريباً من جثمان الشهيد القائد في الصور التي نشرها الاحتلال، وكأني به يتمسك به في لحظاته الأخيرة، فقد كان أثيراً على نفسه، إذ هو غنيمة من عدوه، وحين يكون السلاح غنيمة من العدو، فإن لذلك شعوراً خاصاً في نفس المجاهد، ويذكرني ذلك بسيف رسول الله ﷺ “ذي الفقار” الذي تنفله يوم بدر، وكان لا يكاد يفارقه، وهو الذي أُرِيَ فيه الرؤيا يوم أُحد، ودخل به مكة يوم الفتح وهو مرصعٌ بالذهب والفضة -كما أورد كل ذلك ابن القيم في زاد المعاد-، فكأني بالقائد السنوار وهو لا يكاد يفارق مسدسه يتمثل هدي رسول الله ﷺ مع سيفه ذي الفقار.
يختلف المسدس عن الكلاشنكوف في كونه صغير الحجم، حيث يُمثل رفيق المجاهد والمقاوم دائماً، سواء في بيئة العمليات أو خارجها، ويتميز بسهولة حمله وإخفائه تحت الثياب، وسرعة إشهاره واستخدامه عند الضرورة، وهو فعال في المواجهات القريبة، ويضمن إصابات دقيقة من المسافات القصيرة، في حال كان حامله متمرساً، ويُعد جزءاً لا يتجزأ من عتاد الأمان والمفاجأة.
ومسدس القائد السنوار هو من نوع (غلوك) النمساوي الشهير، والذي يتميز بخفة وزنه ومتانته، مع تصميم مقاوم للصدأ، وهو معروف بقوته ودقته وسهولة صيانته، لذلك فإنه يعد من أفضل مسدسات الحماية الشخصية في العالم.
ولعل أقرب الأسلحة شبهاً بالمسدس من التراث الحربي هو الخنجر، فقد كان سلاحًا جانبيًا خفيفًا يمكن حمله وإخفاؤه بسهولة، مثل المسدس اليوم، كما كان يُستخدم في الدفاع عن النفس في الالتحامات المباشرة القريبة، حيث يمنح المقاتل فرصة للرد بسرعة في لحظات الخطر، كما ارتبط الخنجر بروح الشجاعة والجاهزية للحماية، كما المسدس في عصرنا الحالي رمزاً للحماية الشخصية والأمن والدفاع الذاتي.
ولئن عجز رجال الأمة اليوم عن امتلاك أسلحة القتال الشخصية التي تمكنهم من الجهاد في سبيل الله، ورفع الظلم عن المسلمين، فليس أقل من اقتناء وإجادة استخدام أسلحة الحماية الشخصية، التي يدفع بها المسلم عن نفسه وحريمه، أن تمتد إليهم يد البغي والظلم والعدوان.
الجعبة
من أكثر التعليقات رواجاً عن الشهيد السنوار تقبله الله مع بداية نشر صور جثمانه الأولى، أنه قُتل وهو يرتدي جعبته، والجعبة هي وعاء الذخيرة، فكانت قديماً وعاءً من جلد توضع فيه السهام، ويعلقها الفارس على ظهره أو في سرج فرسه، وهي اليوم صديري -من القماش غالباً- يرتديه المقاتل، وقد جعلت فيها أماكن خاصة لمخازن الذخيرة والقنابل اليدوية، وأحياناً لمزيد من معدات ولوازم القتال، كمواد الإسعافات الأولية وغيرها.
والجعبة للمقاتل اليوم، كما كنانة السهام وحمائل السيوف والخناجر قديماً، يستخدمها لحمل مخازن الرصاص وأدوات القتال الضرورية، فتكون كأنها رفيقة صامتة للمقاتل في خضم المعركة، تضم في طياتها كل ما يحتاجه من ذخيرة وقوة، تنظم له أدواته، وتتيح له الوصول السريع إليها، وكأنها شريكة في دقة الحركة وسرعة الاستجابة، يرتديها المقاتل كجزءٍ من روحه، ويستمد منها شعور الثبات والدفء، إذ تبقى معه دومًا كأمينة على احتياجاته في لحظات المواجهة الصعبة.
ولم تكن جعبة القائد السنوار كتلك الجعب الفخمة الضخمة التي يرتديها جنود العدو، مجهزة بكل ما يحتاجه المقاتل الإسرائيلي، ومزودة بدروع حماية واقية من الرصاص، بل كانت جعبة بسيطة خفيفة -وهو القائد!- دون كثير جيوب وعلائق، ودون درع واقية من الرصاص بطبيعة الحال، وكأني به يتمثل قول عوف بن الحارث لرسول الله ﷺ يوم بدر: يا رسول الله، ما يضحك الرب من عبده؟ قال: “غمسه يده في العدو حاسراً، فنزع درعاً كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قُتل”[1].
مطوية: من الأذكار النبوية اليومية
قد يتساءل البعض متعجباً: ما حاجة المقاتل في الميدان لمطوية الأذكار؟
والجواب: أن حاجته إليها لا تقل عن حاجته لبندقيته ورصاصه، فالأذكار هي ذخيرة المجاهد الإيمانية، وغذاء روحه التي يربط بها على قلبه، ويتعلق بها بربه، فلا يبقى خوف ولا وجل ولا ضعف ولا جُبن يغشى قلبه أو يساور نفسه.
الأذكار والأوراد للمجاهد هي زاد سماوي يغمر روحه بنور الطمأنينة، ويملأ قلبه يقينًا في ميدان الصراع مع النفس والشيطان. وسط أزيز الرصاص، وأصوات القذائف والقنابل، وفي أحلك المواقف، يلهج قلب المجاهد ولسانه بالأذكار فتهب كأنها نسمات رحمة تلامس القلب، فتربط المجاهد بربه في كل حركة وسكنة، ويستشعر معها قوة المعية الإلهية تحفّه وتشد من أزره، وكأن الأذكار أسلحة خفية تجدد في قلبه العزيمة، وتُلبسه درعًا من نور الإيمان، يحميه من تردد النفس وزيغ الخوف، فتسمو روحه ثابتةً مؤمنةً، لا يزعزعها بأس الأعداء ولا رهبة الحتوف.
وفي احتفاظ القائد السنوار بمطوية الأذكار النبوية دلالة على حرصه على الحفاظ على الأذكار النبوية الثابتة، متتبعاً هدي رسول الله ﷺ، متبركاً بترداد الأذكار الواردة عنه، يقتفي أثره، ويتبع سنته، قائداً مجاهداً، وعابداً ذاكراً، ومتبتلاً أواباً، ولعمري هذا فعل الرجال الصادقين، المجاهدين بالسنن وعلى السنن حقيقة لا ادعاءً!
(وللحديث بقية في المقالات القادمة إن شاء الله)