لا نستجدي شهامتكم
يناير 11, 2025أسمى مراتب الإيمان: الشهادة في سبيل الله
يناير 11, 2025د. إسماعيل محمد رفعت – من علماء الأزهر الشريف
النموذج الثالث: في النموذجين السابقين استطلعنا صورة للفاروق عمر، القوي، وأخرى لابن مسعود، وهو من أضعف الناس جسماً. وهما من المهاجرين رضي الله عنهم، وفي هذا النموذج نستكشف ما كان عليه الأنصار رضي الله عنهم.
لما آخى النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار، فهموا من التآخي وقوع التوارث بينهم، فنزل القرآن بنسخ التوارث إلا بين ذوي الأرحام، قال الله تعالى: ﴿… وَأُو۟لُوا۟ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضࣲ فِی كِتَـٰبِ ٱللَّهِۚ﴾ [الأنفال: 75، والأحزاب: 6].
ولم يكن نسخ التوارث بينهم إلا إعلاءً للأخوّة الإيمانية على الرحمية، فأخوّة الإيمان ليس من ورائها مطمع دنيوي فهي أرفع وأعظم!
وانظر إلى سعد بن الربيع الأنصاري، وقد نزل لأخيه المهاجري عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما عن نصفَ ماله، وأشد من ذلك أن قال له: “لي زوجتان.. فانظر أيهما أعجبتك أطلّقها فتتزوّج بها”. وهذه حادثة فريدة من نوعها في الدنيا! وبين الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، والأعجب أن عبد الرحمن لم يقبل من ذلك شيء وقال: “بَارَكَ اللهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلَّنِي عَلَى السُّوقِ”. فَمضى إِلَى السُّوق متكسباً على نَفسه.
لقد ضرب الأنصار مثلاً في التجرد من كل الدنيا ومتاعها، واستحقوا أن يَنزل فيهم قول الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُو ٱلدَّارَ وَٱلۡإِيمَٰنَ مِن قَبۡلِهِمۡ يُحِبُّونَ مَنۡ هَاجَرَ إِلَيۡهِمۡ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمۡ حَاجَةٗ مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤۡثِرُونَ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ وَلَوۡ كَانَ بِهِمۡ خَصَاصَةٞۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ [الحشر: 9]. ولا ندري هل العجب من إيثار الأنصار للمهاجرين أم من تعفف المهاجرين وعدم تطلعهم لأي كرم تعويضي عما تركوه في مكة لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى! فكان الأنصار في ذروة الإيثار، وفي ذات الوقت كان المهاجرون في قمة التعفف!
وإن كان كل مغترب يحنّ إلى وطنه فاستثني من ذلك المهاجرين إلى المدينة؛ قاسوا الحنين أولاً، ثم دعا لهم رسول الله ﷺ: “اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ، أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بِالْجُحْفَةِ”. فعادوا إلى مكةَ بعد الفتح وصلوا فيها صلاة المسافر الغريب، ورجعوا للمدينة رجوع المحب للحبيب، رجوعاً أعجز العلماء في التفاضل بين مكة والمدينة، ولكن يبقى السر المكنون من وراء ذلك هو الترك لله والهجر لإعلاء دين الله عزّ وجلّ.
إن همة الصحابة في العطاء في كل المجالات فاقت التصورات والمدارك، فما تصور عقل مثل شجاعة الصحابة ولا إقدامهم، إن جيشاً كجيش غزوة مؤتة لو نظرنا له بنظرنا المعاصر المكدود لوجدنا أنه جيش ذاهب إلى مذبحة حتمية! لأن عددهم كان ثلاثة آلاف في مقابل نحو مئتين وأربعين ألف من نصارى الروم ونصارى العرب! يعني بنسبة 3/ 80؛ فما عسى أن يفعل ثلاثة بعتاد ضعيف لا ظهير لهم (لوجستي) في مواجهة ثمانين من جيش أعتى دولة آنذاك على أرضها! ثم يخوضون معركة قاسية، يقول خالد بن الوليد (المتوفى: 21هـ) رضي الله عنه: “لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ مُؤْتَةَ انْدَقَّ بِيَدِي تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، فَصَبَرَتْ فِي يَدِي صَفِيحَةٌ يَمَانِيَةٌ».
وكانت نتيجة المعركة مذهلة بالنظر إلى تفاوت عدد فريقيها وتباينه، فقد كان عدد قتلى الروم لا يحصون عدداً، واختلفت الرواية في عدد شهداء المسلمين ما بين خمسة أو ثمانية منهم القادة الثلاثة، وهذا في نظر أي تقييم عسكري معاصر يعدُ إنجازاً ونصراً كبيراً، لكن خالد بن الوليد رضي الله عنه ارتضى نصر الميدان وقرر الانسحاب على غير عادة المنتصر في تتبع الجيش المنهزم ووضع خطة انسحاب مدروسة أوهم عدوه أن مدداً لحقهم، وكان قد أمر بتحول الميسرة إلى ميمنة ومؤخرة الجيش إلى المقدمة والعكس فأحدث دوياً وغباراً توهم منه الروم بقدوم مدد كبير للمسلمين، فخارفوا واستثمر خالد الفرصة وانسحب دون خسائر، ولا زلت أكرر إن تقديرات الفكر المعاصر المكدود ترضى هذا الإنجاز وتثمنه، لكن أطفال المدينة وأهلها لم يرضهم ذلك فوقفوا في استقبال الجيش يعيروهم ويهتفوا بهم: يا فرار يا فرار!
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها لِامْرَأَةِ سَلَمَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: “مَا لِي لَا أَرَى سَلَمَةَ يَحْضُرُ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَعَ الْمُسْلِمِينَ؟” قَالَتْ: “وَاللَّهِ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ، كُلَّمَا خَرَجَ صَاحَ بِهِ النَّاسُ: يَا فَرَّارُ، أَفَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ حَتَّى قَعَدَ فِي بَيْتِهِ فَمَا يَخْرُجُ، وَكَانَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رضي الله عنه”.
وعن أَبِي هَرِيرَةَ رضي الله عنه -وقد حضر مؤتة- قَالَ: “كُنّا نَخْرُجُ وَنَسْمَعُ مَا نَكْرَهُ مِنْ النّاسِ، لَقَدْ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ عَمّ لِي كَلَامٌ، فَقَالَ: إلّا فِرَارَك يَوْمَ مُؤْتَةَ! فَمَا دُرِيت أَيّ شَيْءٍ أقول له”.
هاتان روايتان يعكسان همة المجتمع والجند، يتضح من حالهم أنهم ليسوا مجتمعاً رخيصاً يسعى وراء صناعة بطولات عادية.. إنها بطولات فوق العادة ومهام دائمة لشعب فوق العادة وخارق لكل عادة، لا يثمنون إلا ما يستحق في نظر الأبطال!
وفي رواية مرسلة: “وجعل الناس يحثُون على الجيش التراب، ويقولون: يا فُرَّار! فررتم في سبيل الله!” فيقول رسول الله ﷺ: “ليسوا بالفُرَّار؛ ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله!”.
وانتقد ابن كثير -رَحِمَهُ اللَّهُ- هذه الرواية وقال: “وَعِنْدِي أَنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ قَدْ وَهِمَ فِي هذا السياق فظن أن هذا الجمهور الْجَيْشِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلَّذِينِ فَرُّوا حِينَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ، وَأَمَّا بَقِيَّتُهُمْ فَلَمْ يَفِرُّوا بَلْ نُصِرُوا كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ للمسلمين وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي قَوْلِهِ: “ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَى يديه”؛ فما كان المسلمون ليسمونهم فراراً بعد ذلك وإنما تلقوهم إكراماً وَإِعْظَامًا، وَإِنَّمَا كَانَ التَّأْنِيبُ، وَحَثْيُ التُّرَابِ لِلَّذِينِ فَرُّوا وَتَرَكُوهُمْ هُنَالِكَ”.
وأيما كان الأمر فإن فراراً في مثل هذه الحال له مسوغاته وتقديراته عند كل مكدود مثلنا، بدليل تطييب النبي ﷺ خاطرهم قائلاً: “ليسوا بالفُرَّار؛ ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله”. وكلمة: «إن شاء الله» ليست إخباراً عما سبق ولكنها إنباء عما لحق!
لو أرادوا الجبال لاقتلعوها
وتوارث التابعون لهم الدم الحر، يذكر عنهم لما علم ملك الصين بعزم قتيبة بن مسلم الباهلي (المتوفى: 96هـ) على فتح بلاده لم يرَ أمامه إلا المطاولة والمصابرة بالمفاوضات، وطلب من قتيبة فريقاً مفاوضاً؛ فأرسل له هبيرة بن مشمرج الكلابي (المتوفى: 96هـ) على رأس وفد، فقال لهم الملك: “انصرِفوا إلى صاحبكم (يعني: قتيبة بن مسلم) فقولوا له: يَنصرِف، فإني قد عرفتُ حِرصَه وقلة أصحابه، وإلا بعثتُ عليكم من يُهلِككم ويُهلِكه”، قال له: “كيف يكون قليل الأصحاب مَنْ أوّل خيلهِ في بلادك وآخِرها في منابت الزّيتون! وكيف يكون حَرِيصًا من خلّف الدنيا قادرًا عليها وغَزاك! وأما تخويفك إيانا بالقتل فإنّ لنا آجالًا إذا حَضَرْت فأكرمها القتلُ، فلسنْا نَكرهه ولا نَخافُه”.
قال: “فما الذي يُرضِي صاحبَك؟”
قال: “إنه قد حلف ألّا ينصرف حتى يطأ أرضَكم، ويختم ملوكَكم، ويُعطَى الجِزْية”.
قال: “فإنا نخرجه من يمينه، نبعث إليه بتراب من ترابِ أرضِنا فَيَطَأَهُ، ونبعث ببعض أبنائنا فيختمهم، ونبعث إليه بِجزية يرضاها”.
قال: فدعا بصِحاف من ذهب فيها تُرابٌ، وبَعث بحرير وذهب وأربعةِ غِلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسَنَ جَوائزهم، فساروا فقَدِموا بما بَعَث به، فَقِبل قتيبةُ الجِزْية، وختم الغِلْمة وردّهم، ووَطئ التراب، فقال سوادة بن عبد الله السَّلُوليّ:
لا عَيبَ في الوَفْدِ الذينَ بَعَثتَهُمْ | للصين إِنْ سَلَكوا طريقَ المَنَهج |
كسرُوا الجفونَ على القذَى خوفَ الرَّدَى | حاشَا الكريم هُبَيرةَ بن مُشَمرجِ |
لَم يَرضَ غيرَ الخَتْمِ في أَعناقِهم | ورهائِنٍ دُفِعَتْ بِحَملِ سَمَرَّج |
أَدَّى رسالتَك التي استَرعَيتَهُ | وأَتاك مِن حِنثِ اليمين بمخرجِ() |
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم “ما بين مهاجرين قد هجروا المحبوبات والمألوفات، من الديار والأوطان والأحباب والخلان والأموال، رغبةً في الله ونصرة لدين الله، ومحبة لرسول الله ﷺ، فهؤلاء هم الصادقون الذين عملوا بمقتضى إيمانهم، وصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة والعبادات الشاقة، بخلاف من ادعى الإيمان وهو لم يصدقه بالجهاد والهجرة وغيرهما من العبادات، وبين أنصار وهم الأوس والخزرج الذين آمنوا بالله ورسوله طوعاً ومحبة واختياراً، وآووا رسول الله ﷺ ومنعوه من الأحمر والأسود، وتبوأوا دار الهجرة والإيمان حتى صارت موئلاً ومرجعاً يرجع إليه المؤمنون، ويلجأ إليه المهاجرون، ويسكن بحماه المسلمون إذ كانت البلدان كلها بلدان حرب وشرك وشر، فلم يزَل أنصار الدين تأوي إلى الأنصار، حتى انتشر الإسلام وقوي، وجعل يزيد شيئاً فشيئاً، وينمو قليلاً قليلاً حتى فتحوا القلوب بالعلم والإيمان والقرآن، والبلدان بالسيف والسنان”.
إن تقليب النظر في مواقف الصحابة رضي الله عنهم، يثبت يقيناً أن الهزائم المتلاحقة في عصورنا المتأخرة ليس سببها قوة العدو بقدر الأثر الأكبر للغثائية التي هي من دلائل كما قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: “يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا الْوَهْنَ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ”.
ولكن الصحابة بجميل تضحياتهم استحقوا اختيار الله -جَلَّ جَلَالُهُ- لهم ليكونوا حملة الرسالة وأصحاب نبيه، و﴿… ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَيۡثُ يَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ…﴾ [الأنعام: 124].