سوريا وتحديات التحرير والتعمير
يناير 11, 2025من ثمرات الطوفان (2)
يناير 11, 2025الشيخ ياسر القادري – عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
واحد وستون عاماً استمر حكم حزب البعث في سوريا، رحلت خلاله أجيالٌ وهي تئنَّ تحت وطأة استبداد هذا النظام الذي تمكَّن من قمع العديد من الثورات، ثم جاء الربيع العربي؛ فعاش جيلُ الثورة الأول ألمَ السجون والحصار والدمار ثم التهجير، لينشأ في أكناف الـمَهاجر جيلٌ جديدٌ عاد للبلاد فاتحاً ومحرراً، فرحل الأسد وعادت البلد.
وكتب التاريخ بأحرف النور والدم كيف سقط أكثرُ الأنظمة دمويةً وإجراماً في العصر الحديث، على يد شعب ثائرٍ حرٍّ قدَّم أكثر من مليون شهيد في ميادين الثورة وسجون الطاغية، وتفرَّق نصف أبنائه في أصقاع الأرض.. انهار النظام الذي كان مضرب المثل بالرسوخ والتجذّر، في سلطة بناها على جماجم المظلومين وأجساد المستضعفين، قبل أن ينزل به قدر الله الذي لا يُردّ بأسُه عن القوم المجرمين.. رحل الأسد ففرح لرحيله البشر والشجر والحجر! وفزع العالم الذي كان مطمئناً لهذا الحارس الوفي الذي يكمّل -إلى جانب بقية الأنظمة الوظيفية- الدور الإسرائيلي في منطقتنا في إبقاء الشعوب مضطهدةً مفرقةً لا تقوى على مواجهة استبداد أو دفع احتلال.
أولاً: بشائر التحرير
ليس الحدثُ مجردَ رحيلٍ لنظامٍ مستبد، أو سقوطٍ لطاغيةٍ سفاح، بل هو منحةٌ ربانيةٌ خالصة، ومنعطفٌ تاريخي نادر، ومبعثٌ حضاريٌ جديد، وزلزال سياسيٌ دولي. ولا شكَّ أنَّ ما بعده لا يشبه ما قبله على كل صعيد وفي كل اتجاه. ونحن كمسلمين؛ أولُ ما نقرؤه في مثل هذه الأحداث قدرةُ الله وقضاؤه النافذ، ثم نقاربُ الصورة ونستشرف البشائر في ظل النصوص والسنن، وفي ضوء حركة التاريخ والأمم.
- تجديد القيم الإيمانية
لا يمكن قراءة هذه المنحة الربانية بعيداً عن المعاني الإيمانية التي تراجعت في شعور المسلمين مؤخراً، حتى توقع معظمنا أن قدَرَنا في هذا الزمان الهزيمة والفشل، وقدر أعدائنا النجاح والظفر. فجاءت الأحداث واضحةً بلا تشويش، بأنَّ الله قد انتصر للمظلومين، واستجاب دعواتهم، وشفى صدور المؤمنين بإذلال الطغاة والمجرمين، فانبعثت جذوةُ الإيمان في القلوب ناطقةً بأن لكل أمة أجلاً، وأن مع العسر يسراً، وأن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، وأنه سبحانه ليس بغافل عما يعمل الظالمون، وأنّه بما يعملون محيط، وأنه على كل شيء قدير، وبكل شيء بصير، وأنه “يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته”. ولما ظنَّ أغلبنا أنه لا طاقة لنا اليوم بكل هؤلاء الأعداء وجنودهم، جاءت التربية الربانية ﴿كَم مِّن فِئَةࣲ قَلِیلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةࣰ كَثِیرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ﴾ [البقرة: ٢٤٩]، فهزمناهم بإذن الله، وقطع الله دابرهم، والحمد لله رب العالمين.
ولا شكَّ أبداً أن هذا النصر المؤزر، إنما هو من بركات الشام التي بشَّر بها النبي ﷺ، ففي الحديث الصحيح: “يا طوبى للشّامِ، يا طوبى للشّامِ، يا طوبى للشّامِ”. قالوا يا رسولَ الله: وبِمَ ذلك؟ قال: “تلك ملائكةُ اللهِ باسطو أجنحتِها على الشّامِ”.
ولا شكَّ أيضاً أنه من بركات دعوات النبي ﷺ لها يوم قال: “اللهمَّ بارِكْ لَنا في شامِنا”.
- بَعث الربيع العربي
ولمّا ظنَّ الطغاةُ وأولياؤهم أن ربيع الشعوب قد انقلب خريفاً، فتساقطت أوراقه وذبلت أغصانه، إذا به يُزهر من جديد أيّما إزهار، ويؤتي أكلَه كلَّ حين بإذن ربه ثماراً ساحرةً في لونها وطعمها ﴿وَأُتُوا۟ بِهِۦ مُتَشَـٰبِهࣰاۖ﴾ [البقرة: 25].
لقد هزَّ سقوط نظام الأسد عروش الطغاة على وجه الأرض، فكان حدثاً مُرعباً مُذعراً لهم، إذ كانوا يتخذونه قدوةً في التعامل مع ثورات الشعوب. لقد أقنعهم فرعون سوريا بفاعلية الاستبداد وجدوى القتل والتنكيل، فإذا ببنيانه يهوي ليصبح قاعاً صفصفاً لا ترى فيه عوجاً ولا أمتا. لكنَّ هذا الحدث في المقابل، صار ملهماً للشعوب المستضعفة، وشاحذاً للهمم التواقة للحرية والانعتاق من قيود الظالمين، فإذا تمكَّن السوريون من سحق جلادهم العتيد، فما أقرب بقية الأنظمة من الزوال والرحيل! ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَنُرِیَ فِرۡعَوۡنَ وَهَـٰمَـٰنَ وَجُنُودَهُمَا مِنۡهُم مَّا كَانُوا۟ یَحۡذَرُونَ﴾ [القصص: 5-6].
- كسر قرن الروافض
لقد كانت إيران تُخطط لبقائها الطويل في سوريا، فعمدت إلى تغيير هويتها الأموية السنية، وشرعت في تغيير ديموغرافيتها السكانية عبر التهجير القسري، ونشر التشيع، والتملّك العقاري، والتجنيس المفتوح.. ﴿فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَیۡثُ لَمۡ یَحۡتَسِبُوا۟﴾ [الحشر: 2]، فتفكَّك مشروعهم، وانحسر نفوذهم، وتقطعت أذرعهم، وفُضح مخططهم.
لقد مُني المشروع الإيراني في المنطقة بهزيمةٍ ساحقة، وهذا ليس مجرد مكسب سوري بل هو من ضمانات الأمن القومي الاستراتيجي للمنطقة ولدول الخليج، التي لا بد أن تستثمر في هذه الحالة تعزيزاً لهذا الدور.
وقد انتهت أكذوبة إيران حول محور المقاومة والذي كان نظام الأسد أحد أركانه، وانكشفت أكذوبة التصدي والممانعة والتي بدأت فصولها بتسليم الجولان ثم القنيطرة لليهود، ليتبين أن الأسد كان من أكبر الأضرار على المقاومة، سواءً بتدمير البنية التحتية البشرية لها في سوريا عبر اعتقال قادة وجنود “القسام”، أو عبر الوثائق التي تسربت وأكدت أنه كان يشي بمواقع القيادات الإيرانية وحزب إيران اللبناني وفصائل المقاومة الفلسطينية للعدو الإسرائيلي، تزلفاً إليه وإثباتاً لنهجه الحامي لحدودهم عبر عقود ماضية، وهو ما يبرر ما سارعت إسرائيل إليه من توغّلٍ في الأراضي السورية، وتدمير لما تبقى من القوة العسكرية، لقد غاب حارس حدودها فذُعرت، إنها تفضّل بشار مع الكيماوي على أحرارٍ بأسلحةٍ خفيفة!
نعم.. لقد أحدثت هذه الأكذوبة شروخاً بين المجتمعات المسلمة، وأسهمت في إضعاف الحاضنة الشعبية للمقاومة -وليس للقضية- في بعض المناطق التي ذاقت على يد الروافض العنت والعذاب، فشاء الله أن يُكسر قرنهم ويذهب شرّهم.
- الطريق إلى القدس
ثم إنَّ تحرير دمشق ليس مجرد استعادة حاضرةٍ إسلاميةٍ أمويةٍ عريقةٍ، بل إن حقائق التاريخ تشير إلى أن تحرير دمشق كان منطلقاً لتحرير حواضر أخرى تشكّل طوقاً في محيط بيت المقدس، لتتوَّج بعد ذلك عمليات التحرير بعودة القدس والمسرى. فالصحابة الكرام وقد تمتعوا بفهم عميق لـ(جيوبولتيك) المنطقة، تجاوزوا القدس بجيوش الفتح الإسلامي، فكسروا حامية الروم في اليرموك، وفتحوا دمشق عام 14هـ، ثم استكملوا فتح القدس بعد ذلك بعامين فقط.
ولما احتلَّ الصليبيون بيت المقدس إبان الحملة الصليبية الأولى، وبقيت معهم نحو مائة عام، قام صلاح الدين الأيوبي انطلاقاً من دمشق بإستراتيجيتين اثنتين مهدتا لتحرير بيت المقدس؛ أولهما: إنهاء الدولة الفاطمية الشيعية، وثانيهما: توحيد القاهرة مع دمشق، لتتحرر القدس بعد ذلك بثلاث سنوات فقط.
إن هذه الحقائق التاريخية تبشرنا بموجة تحرير واسعة قادمة في منطقتنا، كما تبشرنا ببدء انكشاف المحنة عن أهل غزة الصامدين، وتحرير القدس قريباً بإذن الله.
- وأن هذه أمتكم أمة واحدة
ومهما توهم المسلمون أن قضاياهم منفصلة عن بعضها، وأن بمقدور كلِّ قطر أن يقلع شوكه بيده وحده، فإنَّ الله تعالى يثبت لنا أن مآل القضايا الإسلامية واحد، وأنَّ جميع قضاياهم فاعلةٌ ومؤثرةٌ في بعضها، وأنَّ نصراً لشعب أو هزيمةً لا بدَّ أن تُرى آثارُها في بقية الشعوب بصورةٍ أو بأخرى.. ﴿إِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَاحِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ﴾. وهذا كما أنه إرشاد رباني للاعتصام بوحدة الأمة، فإنَّه في الوقت نفسه إخبارٌ عن سنة قدرية ماضية.
ألا يمكنُ لكل واعٍ بصيرٍ أن يُدرك أثر طوفان الأقصى في طوفان الشام؟ أليس في خطة المعركة الأولى من عناصر التشابه ما يشي بتناغم التفكير واستلهام التدبير؟ ألم يسهم الطوفان -بقصدٍ أو دون قصدٍ- إلى تفريغ الساحة السورية من زخم الوجود العسكري الإيراني؟ ألم يشغل الطوفان إيران ويعيد ترتيب أولوياتها بعد اضطرارها للاشتباك مع الصهاينة ولو بصورةٍ رمزية؟ وكما رأينا أثر طوفان الأقصى في طوفان الشام، فلا شكَّ أننا سنرى أثر انتصار الثورة السورية في حركة الشعوب القادمة، وأننا سنرصد أصداء تحرير دمشق في عواصمنا السليبة الأخرى قريباً.
ثانياً: تحديات التمكين
لقد صُدمَ العالم وهو يتابع انهيار ذلك النظام العتيد الراسخ بأوتادٍ غربيةٍ وشرقيةٍ، ثم صُدمَ وهو يرى بنادق الثوار تدخل القصر الجمهوري وتشرع بإدارة الدولة. إنَّ معسكرَي الشرق والغرب اللذين تواطآ على زرع الأنظمة الوظيفية في بلادنا، وتوافقا على سجن شعوب المنطقة تحت استبدادها، قد اعتادوا أن يروا في بلادنا كلاباً أوفياء لهم ولحربنا، لذا فإنَّهم لن يسعدوا يقيناً بنصرنا، وإن لاطفونا بشتمهم مدلَّلهم الساقط! ففي أيام الربيع العربي الأول قاموا بمسايرة الموجة الشعبية وخداعها بادعاء دعم مطالبها، في الوقت الذي كانوا يحيكون فيه المؤامرات ويعدّون المخططات لسرقة ثوراتنا وحريتنا وأحلامنا..
وعليه فلن يتركوا سوريا تبني ما هدموه براحةٍ ويُسر، وهو ما يعني أن سوريا مقبلةٌ على جملةٍ من التحديات التي تقتضي فهم المرحلة وترتيب الأولويات في ضوئها.
- استكمال التحرير
سقوط النظام وهروب الأسد لا يعني أنَّ التحرير قد اكتمل وأنَّ النصر قد تمّ، بل إن وظيفة التحرير لم تُستكمل بعد! فلا يزال رؤوس النظام فارّين من قبضة الشعب، فسفاح العصر قابعٌ في روسيا ينعمُ بما سرقه عقوداً من قوتنا وحقوقنا، وقادة الجيش والأفرع الأمنية مختفين في العراق ولبنان وغيرهما، ولا مفرَّ من الضغط لاستعادتهم ومحاسبتهم أمام الشعوب بمحاكم البلاد وساحاتها، ولا مفرَّ من استعادة ما نهبوه وأودعوه في بنوك الدول هنا وهناك.. كما أنَّ فلول النظام من عناصره المجرمة وأذرعه الخبيثة ما زالوا متخفّين، ولا معنى لتركهم أو تأجيل قطع دابرهم، وقِس عليهم أيضاً كبار أبواق النظام البائد من مشايخ وإعلاميين وفنانين..
إنَّ استكمال التحرير وبسط النفوذ على بقية المناطق السورية والسيطرة على الحدود التي يمكن أن تتسرب منها الفتنة هو من الأولويات الملحّة، إذ إنه من المفيد الاستفادة من حالة الذعر في صفوفهم قبل أن يلتقطوا أنفاسهم، وقبل أن تبادر بعض الدول المعادية بإمدادهم ودعمهم ليكونوا عنصر تشويش وأداة فتنة!
إليكم قاعدةٌ جبريليةٌ ذهبية؛ أيها الثوار لا تضعوا السلاح قبل أن تستكملوا التحرير! لما رجع النبي ﷺ من الخندق، ووضع السلاح واغتسل، أتاه جبريل عليه السلام فقال: قد وضعت السلاح؟ والله ما وضعناه، فاخرج إليهم، قال: “فإلى أين”؟ قال: ها هنا. وأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي ﷺ إليهم.
وأما التساهل في العفو والتراخي في العقاب، فهو مظنة كشف الثغور وفسح المجال لأولئك الذين لن يدخروا فرصةً لتشويش الرأي العام، وإغراق الثوار في التفاصيل، وتعكير الاستقرار السياسي والأمني. وليس هذا فهماً صائباً لعبارة: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”! فتلك إنما قالها النبي ﷺ للعامة التي اتبعت سادتها وكبراءها فأضلوها السبيلا، وأما كبار المجرمين فقد وضعهم النبي ﷺ على القائمة السوداء، وقال: “اقتلوهم وإن تعلّقوا بأستار الكعبة”، فهؤلاء لا عفو لهم!
إنَّ ضمانة تثبيت أركان الدولة وقطع دابر رجال الدولة العميقة يكمن في التشدّد حتى يشتدّ عود الدولة وتترسخ مؤسساتها، ولك أن تقارن فعل النبي ﷺ أول الدولة ويوم تمكّنها، حيث أنزل بيهود المدينة أشد العقوبات ثم عفا عن أهل مكة يوم الفتح والتمكين.
- الاعتراف الدولي والشرعية الداخلية
لا يمكن إطلاق عملية التعافي وإعادة الإعمار في سوريا بعد الأسد، إلا بعد تحقيق الاستقرار السياسي والمجتمعي، لذا يعدُّ الحصول على الاعتراف الدولي، واكتساب الشرعية الشعبية من أكبر التحديات الحالية، ومن أبرز الأولويات التي لا غنى عنها لتثبيت ملامح الدولة السورية الجديدة.
أما الاعتراف الدولي؛ فلأنه لا يمكنُ أن تنشأ دولة أو حكومة في هذا الزمان دون أن يكون لها علاقاتها مع محيطها القريب والبعيد، ولذا فإنَّ اعتراف أكبر قدر ممكن من دول العالم بالسلطة الجديدة أمرٌ لا مفرَّ من تحصيله. وهذه مهمةٌ ليست بالسهلة في ظل كلِّ ذلك المكر والعداء الذي يُمارس على منطقتنا العربية، والتي يراد لها أن تبقى تحت حكم الأنظمة الوظيفية، وألا يصل أي تيار إسلامي إلى سدة الحكم فيها.
ولك أن تتخيل حجم التآمر علينا، فالعالم الذي كان يرى الأسد يقتل الأبرياء ويفتك بشعبه طيلة تلك العقود، وكان حريصاً على استمراره في السلطة، يسارع اليوم دون خجل -بعد أن قضى السوريون بسواعدهم على هذا النظام السفاح- ليضع العراقيل أمام القيادة الجديدة، ويُظهر تخوفاته المعتادة بحجة التصنيف على قوائم الإرهاب، والقرارات الأممية التي فقدت صلاحياتها، والخشية على الأقليات، وغير ذلك من الذرائع..
ومع أن الاعتراف الدولي حاجةٌ ماسّة لتتمكن أي سلطة جديدة من عملية البناء والتنمية، إلا أن الشرعية الشعبية ضرورة ملحة لا يمكن إغفالها، وذلك لأنَّ الأمّة في أدائها الجماعيِّ المنظَّمِ مُسدَّدةٌ ومعصومةٌ، وبهذا الاعتبار تأهَّلتْ لمسؤوليةِ القيادةِ السياسية، مستندةً إلى سُلُطاتها العليا، ومستمدةً منهجَها من سيادةِ الشريعةِ الربانية، فالسلطان للشعب وهو مصدر السلطات، بمعنى أن تكون له إرادةٌ حرّة في اختيارِ الحاكم وتوجيهِه ومساءلتِه ومحاسبتِه وعزلِه إذا لم يعُدْ صالحاً للحُكم، وكذلك إرادتُه الحرّة في صناعة نظام الحكم وأشكاله ومؤسساته، وفي صياغة الدستور والتشريعات وسنِّ القوانين، وفي تنفيذ المشروعات وتطبيق الخطط، من خلال الأُطر التي يختارها والآليات التي يحددها.
وحين تكون الأمةُ مصدرَ السلطة السياسية تتوازن النظرةُ السياسية لواقع الحُكم، وتُسَدُّ الطرقُ على مبررات الاستبداد السياسي، أو الخروج على السلطة الشرعية.
وفي هذا السياق فإنَّه لا مناص من إطلاق مصالحة واسعة مع مختلف قوى ومؤسسات الثورة، وترتيب آليات مرضيةٍ للمشاركة السياسية لأبناء الثورة المخلصين الذين خاضوا الكفاح الطويل، وقدموا التضحيات الجسام، فهذا أدعى لتماسك الصف الداخلي، وأحرى لالتحاق الكفاءات والكوادر بركب البناء والتأسيس.
ويعتبرُ مفهومُ الشرعية مفهوماً مركزياً في النظريات السياسية، وهو يشير إلى العلاقة بين السلطة السياسية وطاعة أو انسجام الشعب معها، بما يؤدي إلى القبول الطوعي من قِبَلْ الشعب بقوانين وتشريعات النظام السياسي. والشرعيةَ السياسية ضرورةٌ من ضرورات استمرار السلطة، واستقرار المجتمع، لأن قوة الحاكم وحدها لا يمكن أنْ تكون كافيةً لاستمرار السلطة طويلاً ما لم تتحوَّل القوةُ إلى حقٍ، والطاعةُ إلى واجبٍ، إذ ليس بالخوف وحدَه يحيا النظامُ السياسي، بل لا بدَّ من المواءمة مع رضا الشعب.
- العدالة الانتقالية وضمان السلم الأهلي
الجرائم المديدة التي ارتكبها النظام البائد وأزلامه لا تُمحى بالتقادم، وإنَّ ضمانة السلم الأهلي في مستقبل سوريا الحرة إنما يكمن في تحقيق العدالة المتمثلة بمحاسبة المجرمين وإعادة الحقوق إلى أصحابها. من هنا فإنَّ التأسيس لمسار العدالة الانتقالية يُنصف الضحايا ويمنع تكرار الجريمة، ويمنع من انزلاق البلاد في دوامة الثأر والانتقام، وهو ما يؤثر على السّلم الأهلي، ويعرقل مسارات التنمية والبناء.
ويبدو أنه من المنطقي أن يتم التعامل مع مختلف الملفات في سياق العدالة الانتقالية من خلال أنماط متعددة، فالمحاسبة والعقاب لا يكون جماعياً، كما أن الجرائم ليست على قدر واحد. لذا فإن تنظيم عملية ردّ المظالم تحتاج لرؤية متكاملة تفضي في محصلتها إلى استقرار مجتمعي مستدام. ومن الجيد أنَّ مسار العدالة الانتقالية في سوريا على الرغم من كونه ضخماً إلا أنَّه ليس معقّداً كما هو الحال في دول أخرى، وذلك لاهتمام كوادر الثورة ومؤسساتها بعملية التوثيق وتسجيل الانتهاكات طيلة السنوات الفائتة.
ولهذا فائدة عظيمة أخرى وهي حفظ الذاكرة الثورية للأجيال القادمة والشعوب الأخرى، من خلال الأرشيف الثوري إلى جانب المتاحف والمعارض ومختلف الفنون والصناعة السينمائية، التي توثق الجرائم وتشكّل الوعي الجمعي الذي يأبى الخضوع مجدداً لأي استبداد سياسي.
- بناء مؤسسات الدولة وتعزيز دور المجتمع المدني
لقد سقط النظام وسقطت معه العديد من مؤسسات الدولة التي لا بدَّ من أولوية الالتفات إلى إعادة تشكيلها وتمكينها، فالجيش السوري الذي وُضعت نواته الأولى بمحاصصة طائفية وبإشراف فرنسي في عشرينيات القرن الماضي استمرّ حتى سقط مع النظام الطائفي، وبتنا بحاجة إلى بناء جيش جديد بعقيدة وطنية مخلصة، نواتها الثوار والمجاهدون..
وأجهزة الأمن المجرمة التي سامت السوريين العذاب عقوداً طويلة تفككت ولا ينفعنا منها إلا الأرشيف الذي سيكشف ما بقي مخفياً من جرائمهم البشعة، وصرنا بحاجة إلى مؤسسة أمنية جديدة بعقيدة تسيّج هوية البلد وتحمي شعبه من الاختراق وتحصنه من المخاطر الداخلية والخارجية، وليس لكمِّ الأفواه ومطاردة المصلحين! وهكذا فقد لحق الضرر جملة من مؤسسات الدولة التي تحتاج إلى مباضع الجراحين المختصين في إعادة صياغتها، وقريبٌ من هذا يقال في مؤسسة القضاء ومنظومة التربية والتعليم وغيرها..
إلى جانب ذلك فإنَّ العناية يجب أن تكون منصبةً على ترميم البنى المجتمعية التي مزقها النظام الساقط، وإطلاق مجموعة من المبادرات التي تنشر ثقافة العمل المجتمعي المستقل عن سلطة الدولة، والذي يمارس أدواره في بناء المجتمع، والتكامل مع السلطة السياسية والقطاع الخاص، ليكون الرقيب والضاغط على ممارسات الحكام وأصحاب السلطة. وفي طليعة ذلك لا بدَّ من إعادة دور المساجد، وإعادة تفعيل الأوقاف ومؤسسة الإفتاء، ورعاية دور الإعلام الحسّاس في عملية الوعي والتنمية، وهذا من أولويات المرحلة القادمة دون شك.
- الحكمة السياسية
يشكِّل وصول أي تيار إسلامي إلى السلطة في منطقتنا خطراً إستراتيجياً بالنسبة للغرب وخطراً وجودياً بالنسبة للعدو الإسرائيلي، ولذلك فإنَّهم مهما تصنّعوا الملاطفة وأظهروا إمكانية التعاون، إلا أنّ ذلك مجرد كسبٍ للوقت ريثما تُعدُّ الثعالب خططها البديلة، لتنقضَّ علينا مفترسةً مشروع الشعوب بلا رحمة. ولدينا من التجارب المعاصرة في هذا السياق ما يعزّز هذه التحديات ويبرر تلك التخوفات. لذا فإنَّ دراسة التجارب المختلفة؛ الناجحة منها وغير ذلك -وكلُّ ذلك نسبيٌ- أمرٌ في غاية الضرورة والأولوية، من الجزائر إلى السودان مروراً بمصر وتونس وصولاً إلى أفغانستان.
كما إنَّ من ضمانات استمرار النجاح وتثبيت مكتسبات الثورة، تطبيق معايير الحكمة في الممارسة السياسية، وهي التي ترسِّخ الثوابت وتجتهد في المتغيرات وفق مراتب المصلحة، والتي توائم بين القيم الإسلامية والنظم المعاصرة، وتفقه الواقع وتجيد تكييف المسائل ثم تُحسن تنزيل الأحكام على الوقائع.
إن هذه الحكمة المنشودة تقتضي أول ما تقتضي اختيار بطانة الخير الواعية الأمينة المتخصصة، وإسناد المهام إلى أكفائها الأمناء، ثم التحرّك وفق فقه الموازنات في التعامل مع إكراهات السياسة -وما أكثرها في عصرنا وواقعنا- من خلال ترجيح المصالح ودرء المفاسد، ودفع المفاسد العظيمة بارتكاب المفاسد الصغيرة..
كما تقتضي هذه الحكمة ذكاءً وبراعةً في إدارة الملفات السياسية على مستوى الممارسة؛ من تحييد الخصوم، وتأجيل بعض الملفات، وتوظيف تقاطع العلاقات، وتصفير ما أمكن من المشاكل، وتطمين المتوجسين، والتحالف مع المتضامنين، وتجميد بعض الجبهات حتى تقوى الجبهة الداخلية ويتم تكريس الأمر الواقع.
ويبدو أن القيادة الجديدة -في معظم خطواتها حتى الآن- قد تعلمت الدرس، وهي تقوم بأداء متميز واضح، لكن هذا لا يعني أن العدو سيقتنع أو يطمئن، وهذا ما يقتضي الاستنفار المستمر واليقظة الحاضرة.
ونسأل الله أن يكتب لها سداداً ورشاداً في القول والعمل!