خضّبوا بالدم شوارع أرض الإسراء
مايو 4, 2024نحن عشاق الشهادة في سبيل الله
مايو 6, 2024بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله..
من الجميل أن تبدأ المقال بقصة، تجذب القارئ وتلخص لك المعاني، وتصيغها، فالقصص شيء عجيب ساحر، يضع لك النظرية وإثباتها في سياق شيق ممتع ومستثير للفضول؛ لذا سأبدأ بهذه القصة شديدة القِصر عن شاب سمعنا عنه، يافع في ريعان الشباب، ولكنه كان شعلة نشاط وبذل، متفوق علمياً ونشيط حركياً وله رؤية، كان قدوة ومحركاً لزملائه، ماضياً بهم في مهام عسيرة..
إلا أنه كان “ابن موت”، و لفظ ابن موت يطلق عندنا في مصر على الشاب كثير الحركة والأثر، قصير العمر، وهو لا يُقصد به ذم، وقد مات الشاب سريعاً بعد أن ترك أثراً جميلاً فيمن حوله لا ينسونه حتى الآن..
ابن الموت هذا ترك قصة مع أنها قصيرة إلا أنها بليغة، فكان هذا الشاب ممن قصر عمره وطال ذكره، وهكذا تُنتَج القصص في الدنيا التي نحياها، أحداث يصنعها بنو البشر بأنفسهم، لها بداية و نهاية، وتُسمى بأسماء أبطالها أو بأسماء أحداثها التي أحدثوها. ولكل ممن كان قبلنا ومَن حولنا ومَن بعدنا قصص كانت تكون وستكون.. يختلفون في نسجها ويتفقون، يتفقون في أنها لا بد أن تكون ذات أثر ويختلفون متى ينسجونها وكيف.
فكأمثلة سريعة: قد نجح أردوغان في تولي رئاسة بلدية إسطنبول وهو بعمر الأربعين، فكانت هذه هي بداية نسجه لقصته، وبدأ ابن حزم الظاهري طلب العلم بعد الخامسة والعشرين، فهكذا بدأ، وبدأ يوسف ابن تاشافين مسيرته الإصلاحية وهو فوق الأربعين، وبدأ حسن البنا مشروعه الكبير وهو ابن الثانية والعشرين، وكان الإمام أحمد يندفع الى طلب العلم وهو ابن الخامسة أو السادسة، وقيل إن ابن عساكر بدأ بعد الأربعين.. كان لكل من هؤلاء ومثلهم الكثير إن صح الوصف: سن للنشاط.
وسن النشاط هذا متفاوت كما رأينا، فهناك أفذاذ برزوا صغاراً حدثاء الأسنان، وهناك أفذاذ برزوا كباراً بعد أن بلغوا الأربعين أو الخمسين، وهذا تراه في الأنبياء أيضاً مع عدم التفرقة بين أقدارهم، إلا أنك ترى مَن كلّم الناس في المهد، وترى مَن أوتي الحكم صبياً، ومنهم مَن بُعث بعد الأربعين، ولله سبحانه في ذلك حِكم وشؤون.
وهناك بعض البيئات يكون النشء فيها سريعي النضج، تجد الفتى منهم لم يكد يبلغ الحلم إلا وتراه واعياً بأمور الحياة، مستوعباً لمدار الأحداث، متفاعلاً معها، والعكس صحيح، فتجد في دولة حديثة متطورة شاباً جاوز الثلاثين لا يستطيع أن يحدد أولويات حياته، أو -ودون مبالغة- لا يستطيع أن يقوم على شؤون نفسه فضلاً عن أن يقوم بشؤون بأسرة!
وللأسف أن النموذج الثاني هو الأعم في زماننا؛ فإنه حتى من ينضج نضجاً حقيقياً يأخذ زمناً طويلاً في النضج، فإن صحّ نضجه ورشد أثر وأثمر، وتدارك من عمره ما فاته، إلا أن هذا التأخر له ثمن تدفعه معه مسئولياته ومجتمعه وأمته.
إن هذه اللحظة أو الفترة التي ينتبه فيها المرء إلى نفسه، ما لها وما عليها، فيبدأ عندها الحركة والبذل.. تلك اللحظة لنا أن نسميها: لحظة الرشد.
﴿وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَاۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ رُشۡدَهُۥ مِن قَبۡلُ وَكُنَّا بِهِۦ عَـٰلِمِینَ * إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ وَقَوۡمِهِۦ مَا هَـٰذِهِ ٱلتَّمَاثِیلُ ٱلَّتِیۤ أَنتُمۡ لَهَا عَـٰكِفُونَ * قَالُوا۟ وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا لَهَا عَـٰبِدِینَ * قَالَ لَقَدۡ كُنتُمۡ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُمۡ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ﴾ [الأنبياء: 51-54].
يقول القرطبي إنه رشد قبل رشد النبوة، استدلالاً بقوله تعالى: “من قبل”. قال: هو الأظهر. وقال إن هناك تفسيرات أخرى. وسواء كان رشد النبوة أو رشد قبله إلا أنه رشد متكامل كما وصفه الله تعالى، و هذا الرشد نبهه إلى الكارثة التي يحيى فيها قومه؛ فدفعه الى استنكارها وتغييرها، فهو رشد وعي وسلوك، علِم فعمل، وعي فمبادرة؛ فقال لقومه مستنكراً: ما هذا؟ ما هذه المنحوتات التي تبنون حياتكم عليها؟ فلما أرادوا الهروب من الجواب المحرج رفعوا العذر إلى أناس يرونهم أعلى منهم وأجدر ألا يُنقضوا ﴿قَالُوا۟ وَجَدۡنَاۤ ءَابَاۤءَنَا لَهَا عَـٰبِدِینَ﴾، فلم يهبْ إبراهيم الأمر بل نقضهم هم ومَن استدعوهم ﴿قَالَ لَقَدۡ كُنتُمۡ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُمۡ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ﴾؛ فهو حازم ومستمر.. عازم على التغيير.
إنه مبلغ الرشد .. هذا الذي يستوجب العمل من صاحبه؛ فهو يدفعه دفعاً ويلحّ عليه.. ويجعله مستوجباً للاستعمال من قِبل الله سبحانه وتعالى، وكم عرفنا من قصص لأناس انتبهو فرشدوا فاستقاموا وأقاموا.
بدأ نجم يوسف بن تاشافين يلمع عند الثامنة والأربعين من عمره، بعد تميزه في المهام التي وليها، فمعرفتنا له لم تكن لتحدث إلا بعد تلك المرحلة التي برزت عند الثامنة والأربعين، ودون تلك اللحظة أو الفترة لم نكن لننتبه ولا أهل زمان ابن تاشافين أن ابن تاشافين موجود! و أن هناك ثمان وأربعون سنة خلفه لم تُعرف إلا عندما اجتهد، فكأن ابن تاشافين تدارك نفسه واشتد عزمه عند هذا العمر.. فبدأ العمر!
أما -وكمثال مقابل- فإن معرفتا لأبي القاسم الشابي قد بدأت عندما بلغ صيته وانتشرت أشعاره وكان ابن ثمانية عشرة.. ففي تلك اللحظة المبكرة نسبياً بدأ عمره يحسب كصاحبنا قصير العمر الذي بدأنا به قصتنا.
وطبعاً هذا التفاوت العجيب بين لحظات بزوغ المؤثرين أو المصلحين لها موازين أخرى واعتبارات أخرى، إلا أننا نستطيع أن نتفق بموازين التاريخ والبشر، أن هذه هي لحظة الوجود الحقيقي في هذه الدنيا، الدنيا المرتبطة بعداد الزمن، المحصور في عدد الأنفاس وعدد دقات القلب، لحظة بداية تتويج هذا العمر المؤطر بإطار محدود.. إن لحظة الوجود الحقيقي هذه هي عنوان ما وُجدنا لأجله كبشر وكمسلمين.. خلفاء وشهداء على الناس، فهل وُجدنا؟ أم ليس بعد؟ فهل سمع العالم شيئاً عنا؟ أم هل كتب الملائكة الكرام عنا شيئاً عظيماً ذا شأن سراً كان أو جهراً؟
لقد عاش ابن تاشافين بعد سن رشده اثنين وخمسين سنة.. فقد أعطى الرجل لأمته اثنتين وخمسين سنة جهاداً وعطاءً، رشد عند سن نراه في زماننا سن عجز وضعف وأفول! إن الراشدين كانوا وسيكونون حجة علينا، فمن رشد منهم يافعاً حاججنا، ومن رشد منهم كهلاً أو شيخاً حاججنا؛ فالقاعدة تقول أسرعوا وابزغوا باكراً فإنكم مخلوقون بيد الله مكرمون مرفوعون، عليها قادرون، وكذلك تقول لا تيأسوا إن تأخرتم فإنكم مخلوقون بيد الله مكرمون مرفوعون، عليها قادرون!
إن أي إنسان لازال يلمس خفقان قلبه بين أضلعه قادر على أن يُحدث شيئاً، وهذه لكل امرئ من بني البشر، فهذه خلقتهم وهذه ملكاتهم، لا ينقصهم إلا عزمهم من نفوسهم؛ ولله في خلقه عجائب وشؤون، وهو سبحانه يقدر الأعمار .. فمن ذا يعلم كم سنعيش!إن الذي رشد باكراً وعاش بعد رشده عشرين سنة ومات باكراً، كمن رشد خمسينياً وعاش راشداً عشرين سنة! فكأنهما سواء.. فلا ييأس من تأخر وليكبس زر العمر الحقيقي ليبدأ!
إن رُشد كل من رَشد وقتما رشد آية وحجة، رشدَ فأرشد، وارتقى سُلم العُلى ورفع عملاً يُعرض على الله ورسوله والمؤمنين.
كنت قد استلهمت في المقال الماضي من (الشهيد الساجد) وكيف أن الوزن الحقيقي هو في البذل لله عز وجل والتسليم له، وكيف كشف الله سبحانه بقدرته سر هذا الفتى الذي كان بينه سبحانه وبين عبده.. هذا السر الذي يخاف كل مخلص أن يطّلع عليه أحد فيفسد له نيته، إلا أنه سبحانه أراد أن يبرز لنا عينة من أولئك الراشدين، وكيف هو حالهم معه.. أولئك الذين يرمون قلوبهم تحت جنازير الدبابات ليفجروها، أولئك الذين رشدوا فاقتدوا بالنبي إبراهيم، فهموا أن هنا خللاً يجب إصلاحه ولو بسحق الجلود وهرس الضلوع تحت الحديد الملتهب، إنها المسئولية التي يلقيها الرشد.. تلك المسئولية التي هي ذروة هذا الدين!
ألم تُجعل الأمة لهذا جَعلاً؟ ألم يُبعث النبي ﷺ لهذه الرسالة؟ ﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَـٰكَ إِلَّا رَحۡمَةࣰ لِّلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]، أو ليست هذه الرحمة من فساد البشر أو من ظلمهم وطغيانهم؟
ما الذي يجعل شاب في مقتبل عمره يقبل على إنهاء عمره؟ ما هذا الأمر الذي يستحق هذا الثمن؟! لا أقول الباهظ بل أقول الثمن الذي هو الكيان.. الذي هو أنت.. الذي هو كُلك؟ مرة أخرى: إنها المسؤولية، هذه الخيرية التي هي عنوان الإسلام: ﴿كُنتُمۡ خَیۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَتَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَتُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِۗ﴾ [آل عمران: ١١٠].
إن الراشدين هم الأبطال المنقذون، الأشاوس.. الذي ينقذون الضعفاء من قبضة الأشرار، فيجلبوا السلام والسعادة للبشرية! هؤلاء الذين منّ الله عز وجل على غزة بهم فرشدت بهم!بل منّ الله على هذه الأمة بهم ليذكّروا كل فرد فيها بما تعنيه كلمة “مسلم” ،هذه الكلمة التي طُمس معناها وحُرف!نسي الأبطال رسالتهم الفدائية.. فخسروا وخسرت الدنيا وكل الأرض معهم، وعادت كما كانت، مليئة بالظلم والجور ، عندما رشد أبناء غزة رشدوها فأرشدت أقواماً لا يعلمهم إلا الله.. وهذه غزة.. شبر في شبر، متر في متر، إن قيست بأمة المسلمين أرضاً وناساً.
فكيف إن رشدت أمة المسلمين!
إن كان لكل إنسان أن يرشد وهو الفاني المستحق للموت، فكيف بأمة كتب الله أنها لن تموت ولم توجد إلا لترشد!
يا أمة لم تمُت.. ارشدي
يا أمة لن تموت.. ارشدي
ارشدي فأنت لا تشيخي، لا سن لرشادك.. لا شرط.. لا قيد.. إلا همة أبنائك.. يرشدون فيرشدوا بك فيرحموا من المعذبين في هذه الأرض ما لا يتسع هذا المقال لذكرهم!
نسأل الله الكريم الودود الرحيم أن يجعلنا جميعاً من الراشدين، ونعوذ به سبحانه المنان ألا نكون ممن يقول ما لا يفعل.. اللهم آمين.