
نحو منهج حركي في دراسة السيرة النبوية 2
مارس 17, 2025
مقال في تأبين محدث الديار المصرية الشيخ أبي إسحاق الحويني
مارس 19, 2025صالح أبو يصير – رحمه الله*
تُرى ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يثُر العرب على الأتراك؟
إن الثورة العربية أسهمت بقوة وعمق في انتصار الإنجليز وحلفائهم، لقد تحول الموقف في سيناء بعد الثورة العربية، فإن قسماً من الجند المعدّ للهجوم على قناة السويس كان يتكون من متطوعة الحجاز والقبائل العربية، وقد تصرم حبل هؤلاء، فأصبحوا في صفوف أعداء الأتراك، وإن عدداً كبيراً من ضباط العرب الذين أسرهم الإنجليز من الجيش التركي في حملة القناة الأولى، سرعان ما أعلن رغبته في المقاتلة إلى جانب قوات العرب الثائرة.
ويقول جمال باشا حاكم الشام، وقائد الجيش التركي في تلك المنطقة، والسفاح الذي أضرم نار الحقد في نفوس العرب بسفكه الدماء وتشريده الأسر.. يقول: “كان جل همي في ذلك الوقت (فبراير/شباط 1916م) أن أعمل لحمل (الشريف) على إرسال كتيبة بقيادة أحد أبنائه، وأصبحت يوم (2 یونیو/حزیران 1916م) أمام ثورة الشريف التي كانت ضربة قاضية على حملة القناة. واتضح بعد ذلك من تاريخ آخر خطاب أرسله الشريف إلى الإنجليز ومن إنشائهم الاستحكامات عند الضفة الشرقية، أن الإنجليز لم يقرروا العبور أو بدء الهجوم على فلسطين إلا بعد أن استوثقوا من الشريف، وتأكدوا أن ثورته ستضطرنا إلى اتخاذ تدابير خاصة لحماية الحجاز وأن تسحب من فلسطين بعض قواتها”.
بل إن الحلفاء أنفسهم يقررون أن تلك الثورة أسرعت بالنصر لهم، وفي (28 يوليو /تموز 1918م) قال القائد البريطاني العام اللورد (اللنبي) في تقريره لوزارة الحربية :
“أشكر لجلالة الحسين بن علي ملك الحجاز إخلاصه العظيم لقضية الحلفاء، ولا أملك نفسي عن توجيه عاطر الثناء إلى سمو الأمير فيصل لما أظهره من براعة في القيادة، وعلى إخلاصه القلبي وعلى ما أبداه من بسالة ومهارة في الأعمال العسكرية التي قام بها الجيش العربي، وقد ساعدتْ الحلفاء مساعدة كبيرة في الحصول على نتائج فاصلة في الحرب”.
وقال اللنبي في تقرير آخر :”لقد ساعدنا الجيش العربي مساعدة عظيمة القيمة، بقطع مواصلات العدو قبل القتال، وبمنعه فرار جانب من الجيش العثماني الرابع، وأنزل بالعدو خسارة كبيرة أثناء الزحف على دمشق”.
وتلك براءة الوسام الفرنسي إلى فيصل الممنوحة له من المسيو (كليمنصو) تقرر :
“لقد ساعد الحلفاء، ولازم جنوده، ونظم الهجمات الحربية، وأدار جبهة كبيرة، وأسر عدداً كبيراً من الأسرى، واشترك في تمزيق شمل الجيش الرابع والجيش السابع والجيش الثامن من العثمانيين، ودخل مع الحلفاء دمشق وحلب في منتهى الجراءة والإقدام”.
وذلك أن (لورنس) البريطاني الذي عُرف في التاريخ بمرافقته للجيش العربي الثائر يقرر :
“كلنا يعرف أن فيصل بذل جهداً كبيراً في نشر ألوية الثورة التي أعلنت في مكة، وبفضل بسالته وحكمته أسدت هذه الثورة أعظم خدمة للحلفاء في ميدان فلسطين، وقد تم للجيش العربي أسر 35 ألف جندي تركي، وأخرج عدداً لا يقل عن هذا العدد من خطوط القتال، واستولي على ما مساحته مائة ألف ميل مربع من الأراضي، ولقد أدى العرب هذه الخدمة في زمن كنا في أشد الحاجة إليها، فنحن مدينون لهم”.
ويتحدث مدير المخابرات التركية في الجيش الرابع عن إحدى المعارك، فيقول :”ومشى مشاة الترك إلى الجبل تحت حماية المدفعية، ويتقدمهم كمال بك ممتشقاً حسامه، يضرم في صدورهم نيران الحماسة، فصمد العرب لهم ونازلوهم منازلة الأبطال، وقد أظهر الفريقان من البسالة والبطولة ما يحير العقول، وبدأت المجزرة الكبرى حينما بلغ الترك خنادق العرب، ودار قتال بالسلاح الأبيض، وجرح كمال بك للمرة الرابعة عشرة، وسقط من الترك 200 قتيل وجريح، واستولى العرب على مستشفى الجرحى الترك لأننا عجزنا عن إنقاذه أثناء انسحابنا”.
ويقول المارشال (ليمان فون ساندرس) القائد العام للجيوش التركية في بلاد العرب وهو يشرح أسباب انهزام تركيا في مذكراته بعد الحرب :
“لقد أدت الثورة العربية خدمات عظيمة للجيش البريطاني خلال تقدمه في شبه جزيرة سيناء، فكان الإنجليز آمنين مطمئنين يفعلون ما يشاؤون، كأنهم في داخل بلادهم، بعكس الترك الذين حاربهم أهل البلاد وملوهم، فكانوا يسوقون جيوشهم كأنهم في بلاد معادية لهم”.
وقال كاتب تركي استشهد به صاحب کتاب “الثورة العربية الكبرى”:
“ولولا وجود جيش عربي وقف موقف العداء من الترك في جزيرة العرب في ساحة حربية طولها ألف كيلومتر، لما تم للجيش البريطاني إحراز ما أحرزه من النصر بهذه السرعة العظيمة، وإلى الجيش العربي يعود الفضل في بلوغ الإنجليز قلب البلاد العربية واحتلال القدس، والمرابطة أمام السلط وجناحهم الأيسر مكشوف، ولولا جيش العرب لالتف الترك على الجيش البريطاني، وأجبروه على التراجع”.
هذه بيانات عديدة تحوي بعضها الإشادة بحركة العرب الثورية، وأثرها في نصر الحلفاء، وهي بيانات جاءت من مصادر مختلفة، بعضها من الحلفاء الذين ناصرناهم، وبعضها من المسلمين الأتراك الذين حاربناهم .
وهكذا نصل إلى أنه لو لم يثُر العرب على الأتراك لأسهموا بقوة في هزيمة الحلفاء، ولعله من المنطق أيضاً أن تكون النتيجة ساعتئذ أن ينتصر الأتراك وسط ميدان ترافقوا فيه مع العرب، فيكون النصر نصراً مشتركاً، لا تبعد ثمراته المقتطفة عن شعبنا العربي .
والأمر المؤكد في هذا المجال أن أرجل اليهود عن فلسطين ستظل بعيدة، وسوف تبقى هذه البقعة المقدسة لأهلها، ولن يحرم سكانها من أراضيهم ومزارعهم وبيوتهم، ولن تتحول حياتهم إلى هجرة ولجوء وتشرد، ولن تحدث تلك المذابح الجماعية التي أجرتها الصهيونية في قراهم ومدنهم بعد أن مكنت لها بريطانيا التي أدخلتها وأقامتها، وقوتها، وحمتها .
وعلى فرض أن الحلفاء كانوا سينتصرون، حتى في حالة اشتراك العرب مع الأتراك، فهل كان العرب يأسفون على عدم تحركهم الثوري؟ إن الجواب بالنفي، والنفي السريع القاطع دون ريب، وإننا لنأتي بهذا النفي من النتائج التي حصل عليها العرب بعد انتصار الحلفاء، وتضحيات العرب المغرر بهم.
فهل يمكن أن تكون النتائج حينئذ أسوأ مما حدث فعلاً؟ هل تكون أسوأ من تلك المآسي… من تقسيم بلادهم، وحكمها حكماً استعمارياً غاشماً، بواسطة الانتداب الأجنبي، ورزوحها عشرات السنين تجاهد في جميع بقاعها مستهدفة الاستقلال وطرد الغزاة الأجانب.
والتاريخ يحفظ الأعداد الهائلة من شهداء العرب في العراق والشام الذين ذهبوا في معارك غير متكافئة مع الإنجليز والفرنسيين، والتاريخ أيضاً يتحدث كثيراً عن خيرات العرب التي امتصها هؤلاء المستعمرون من بلادنا العربية، فلقد تمتعت فرنسا طويلاً بخيرات الشام ومقدراته، كما أثرت بريطانيا شركاتها من بترول العراق ومنتجاته، ومكنت لشركاتها في هذه الثروة الهائلة تمكيناً ما زال ينهب ثروات العرب حتى الآن .
إنها لسنوات الثورات الطويلة تلك التي تسببوا خلالها في حرمان الأمة العربية من العلم والمعرفة، حتى باعدوا بينها وبين ركب الحضارة والمجد البناء.
إذن فالنتيجة التي حصل عليها العرب بعد الحرب العالمية الأولى، هي أنهم أصبحوا وجهاً لوجه أمام الاستعمار الأجنبي، يلتف برداء الصليبية الاستعمارية، ويعمل على زرع الصهيونية العالمية في ديارهم تسومهم العذاب والإرهاق .
لم يجمع العرب على حرب الأتراك:
لقد كان بين العرب عام 1916م من ينادي بمحاربة الإنجليز وعدم الثورة على دولة الخلافة، وكان الليبيون بقيادة الإمام أحمد الشريف السنوسي يهاجمون الإنجليز في السلوم والصحراء الغربية، وكانت مصر المجاهدة ضد الإنجليز ترنو إلى هزيمتهم، ولا تؤيد الثورة ضد الأتراك، وهكذا كان عديد من العرب بينهم الأمير شكيب أرسلان والشيخ عبد العزيز جاويش، وعديد من زعماء الشام ورجالات العروبة يرون مساندة الأتراك والتعاون معهم .
بل لقد بكى الرصافي يوم سقوط بغداد بيد الإنجليز، وهو الثائر المندد بحكم الأتراك والمطالب بالإصلاح، بكى هزيمتهم وتمنى نصرهم وأشاد بودهم :
أنا أدري بأنهم بعد هجري لم يذوقوا طعماً ولم يرتاحوا
إن تأنوا فربضة الليث تأتي بعدها وثبـــة لــه وكفــــــاحُ
كيف يغضون عن إغاثة واد زانه من ودادهم أوضـــاحُ
أنا بــاقٍ على الوفاء وإن کــا نت بقلبي ممن أحب جراحُ
ولقد كان الكثيرون يصرحون لقومهم في كل مناسبة، بأن دول الصليبية الاستعمارية إنما تحاول تحطيم الإسلام في أمتيه: العرب والأتراك على السواء.
لقد أقيم حفل بالأستانة قبيل قيام الحرب بسنة واحدة، وشارك فيه أمير البيان المجاهد شكيب أرسلان وهو من يعرف كل الأحرار العرب، إنه العربي الذي حمل أمانة الدفاع عن أمته طيلة حياته، ولم يستطع الأجنبي أن يجعله عميلاً ولا من الخاضعين، فأنشد في ذلك الحفل قصيدة طويلة يحذر فيها أمته من الدسائس الدولية ويقول :
فيا وطني، لا تترك الحزم لحظة بعصر أحيطت بالزحام مناهله
وكن يقظاً، لا تستنم لمكيـــــــدة ولا لكلام يشبه الحـــق باطلــه
وكيد على الأتراك قيـل مصوب ولكن لصيد الأمتــين حبائلــــه
إذا غالت الجلى أخــــاك فإنـــه لقد غالك الأمر الذي هو غائلــه
فليست بغير الاتحـاد وسيلـــــة لمن عاف أن تغشى عليه منازلــه
وليس لنــــا غير الهلال مظلـــة ينال لديها العز من هو آملــــــه
ولو لم يفدنا عبرة خطب غيرنا لهــان ولكـن عندنا من نسائلـــه
سيعلم قومـي أننـي لا أغشهــم ومهما استطال الليل فالصبح واصله
لقد كانت آخر معارك العرب مع الأتراك في تلك الثورة هي تلك التي خاضها الجيش العربي بقيادة الأمير فيصل في سهول حلب في 25 سبتمبر (أيلول) 1918، واشتعلت هناك نار حامية عنيدة بين فريقين تخاصما بعد ود متين، وكان يقود الجيش العثماني في تلك الموقعة التاريخية مصطفی کمال باشا (أتاتورك)، الذي اضطر إلى الانسحاب أمام الجيش العربي، وبقيت ندوب تلك الهزيمة التي مني بها من العرب مقرحة في قلبه، ولا شك أنها جروح عميقة لازمته محزنة محيرة كلما تذكر أن ذلك الاندحار كان بسبب العرب ولصالح الإنجليز، ولقد تركز في ذهنه ذلك العمل تركيزاً حاد به عن جادة التفكير الطبيعي، وحين تمت له الغلبة في انقلابه المعروف وأصبح رئيساً لجمهورية تركيا، كان أبرز أعماله أن ظهرت أعماق آلامه من العرب في قراراته التي حاول أن يقطع بها كل صلة معهم، فحارب اللغة العربية، وحرم الحروف العربية، وباعد بين الدولة وبين الإسلام الذي يعتبره دين العرب وقرآنه لسانهم، وأبعد كل الضباط العرب من تركيا، وأقام حواجز سميكة فاصلة بين الشعبين الخالدين، وحاول في سبيل ذلك محاولة بعيدة عن النظرة الصائبة فلقن التاريخ لتلاميذ المدارس وفيه شرح عميق لما أسماه خيانة العرب وتمردهم!
ولم يستثن (أتاتورك) من هذه الإجراءات العنيفة إلا عرب ليبيا، فلقد حارب معهم الطليان في عامي 1911، 1912 في سفوح الجبل الأخضر وهضاب بنغازي، وإنه ليشعر لهم بالود والمنة، ويذكر لهم محاولتهم لحرب الإنجليز عام 1916 في صحراء مصر، كما يذكر لهم شهداءهم في معركة الدردنيل، وفي ضواحي إزمير، ولهذا أقام على ودادهم، ومكّن لمن بقي منهم في تركيا، ووصلوا في جيشه ودوائره لأعلى المناصب .
وبعد.. لماذا لا يكون السؤال: هل كان العرب يثورون على الأتراك لولا عسف جمعية الاتحاد والترقي التي تسرب في ثناياها عديد من اليهود المستترين بالإسلام؟ ولولا الإرهاب والقتل والتشريد الذي عمد إليه جمال باشا سفاح ديار الشام؟
وكيفما كانت الأسئلة والأجوبة، فإن الإنجليز كانوا قديرين على اهتبال الفرصة لإضرام نار العداء بين الفريقين، بل أنهم لوحوا في أول إشارة لهم عام 1913 لعبد الله بأنهم لا يمانعون في إرجاع الخلافة للعرب، وكان هذا التلويح طُعماً جذاباً لسمك جوعان، وكان التعبير الصحيح الذي يختفي وراء هذا هو أنهم لا يمانعون في تحريك الأطماع حتى تُدفع إلى حمل السلاح والثورة، فيخرج منها الترك والعرب مغلوبين أمام غالب واحد، هو التحالف القوي المبيت بين الصليبية الاستعمارية والصهيونية العالمية، حيث كانت تلك السطور السبعة الموجزة من وعد (بلفور) أقوى وأنفذ من رسائل (ماكماهون) الطويلة المسهبة إلى الشريف حسين، ورحم الله شوقي في قوله وهو يخاطب الشريف :
كلنا وارد الســـــراب وكـــل حمل في وليمـــــــة الذئب طاعم
قد رجونا من المغانم حظـــاً ووردنـــا الوغـــى فكنا الغنـائــم