تثبيت المؤمنين وانتكاس المبطلين
نوفمبر 12, 2024هكذا أصبحنا جميعا يتامى (3/3)
نوفمبر 12, 2024بادية شكاط
كاتبة جزائرية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على خير الأنام سيدنا محمد وعلى آله الى يوم الدين وبعد:
فيقول الشيخ العلامة محمد الغزالي رحمه الله: “إن الشعب الجزائري قبل أن يتكلم عن الحرية تحدث عنها بدمه وأثبت استحقاقه لها بجهده”.
فلم تكن هذه الثورة محض ثورة قلبية اتقدت جمراتها بين جنبات أصحابها، بل هي ثورة اشتعلت في شامات الجبال ببنادق على أكتاف رجال، لم ترعبهم أسلحة فرنسا أكبر دول الناتو، ولم تلههم إغراءاتها بأن تكون الجزائر فرنسية، بل كانت قِبلة قلوبهم نحو جزائر إسلامية.
فكان فجر هذه الثورة يوم الواحد من نوفمبر 1954م، امتدادًا لليل طويل من النضال في بناء الإنسان، الذي عرف بأن الأوطان تُبنى بدفع باهظ الأثمان، فكان أن أسس الدولة الجزائرية أحد عظماء الجزائر الذين شخصت لهم الأبصار، وأسمعت سُمعتهم الأمصار، المعروف بالأمير عبد القادر الجزائري، وهو عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى بن محمد، والذي يعود نسبه إلى إدريس الأكبر بن عبد الله المحصن بن حسن المثنى بن حسن السبط بن علي بن أبي طالب، وأمه فاطمة الزهراء بنت سيد الخلق محمد رسول الله ﷺ، المولود يوم 25 سبتمبر 1807م بولاية (معسكر) في الجزائر.
هذا الشريف صاحب المعدن الشريف هو مؤسس الدولة الجزائرية التي نتفيأ ظلال استقلالها اليوم، وهو الرجل الذي اجتمعت فيه أطراف لا حدّ لها من سماوات روحية، وأخرى عقلية، مع جوانب عسكرية وإنسانية، فضرب في الجزائر الدراهم فسماها محمدية، وضرب في الأرض فنشر القيم المحمدية.
فكأنه لوحده مجمع الدولة وليس جامعها، وأساسها وليس مؤسسها، ويكفي أن نذكر أنه بعد البذل العظيم لوالده السيد محيي الدين للتصدي للاحتلال الفرنسي، وقيادة القبائل للجهاد في سبيل الله، واعتذاره لمبايعته لكبر سنه، أشار على الجزائريين للتفكير في مبايعة ابنه عبد القادر، لتتم له البيعة صباح الاثنين الثالث من شهر رجب 1248هـ/ 1832م.
فتقدّم الوالد محي الدين من الأمير عبد القادر مبايعاً لابنه وقد كان في الواحد والعشرين من عمره، وشدّ على يده سائلاً: كيف ستحكم البلاد يا ولدي؟
ليجيب عبد القادر: “بالعدل والحق الذي أمر به رب العالمين، سأحمل القرآن بيد وعصا من حديد بيد أخرى، وسأسير على هدى كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام”.
وليلتفت والده مخاطباً الجموع قائلاً لهم: “إنه ناصر الدين عبد القادر بن محيي الدين لقب ليس سلطاناً ولا ملكاً، وإنما أمير عليكم أيها الإخوة المؤمنون”.
ثم اجتمعت أيادي عائلته تبايعه، لتتبعها أيادي زعماء القبائل وأعيانهم، وكذا العلماء والأشراف.
ليبدأ سجال من الانتصارات على الغزاة الفرنسيين لسبع عشرة سنة دون انقطاع أو هوادة، ويُمنَى الجيش الفرنسي بهزائم تترى لم يُسمع عنها من قبل ولم يُرَ، فالأمير عبد القادر قتل من المتوحشين الفرنسيين في معركة (المقطع) وحدها 1500 فرنسي، أما ما قتل في معاركه مجتمعة فقد كان ضعف ما قتل الجزائريون مجتمعين في ثورة نوفمبر الخالدة.
فهذا الرجل الذي يمسك المسبحة بيمينه والسيف بيساره، علّم العالم أن رسالة الإسلام رسالة سلام، وأن السيف ما رُفع إلا لردّ الظلم عن المستضعفين، وحماية العِرض والأرض، فكان له استحقاق أن يبلغ اسمه الآفاق، حتى أنه في عام 1846 قرر (تيموثي ديفيس) و(جون تومسون) و(سيج تشيستر) الذين أسسوا مدينة صغيرة في مقاطعة (كلايتون) في ولاية (آيوا) الأميركية، تسمية مدينتهم “الكايدر”، نسبة إلى الأمير عبد القادر، الشاب الذي كان يقود شعبه لمقاومة المستعمر الفرنسي.
وتقول (بيتي بوشهولز) مديرة متحف مدينة “الكايدر” أو القادر: “إن الأمير عبد القادر كان محل إعجاب كبير من قبل الأميركيين في الوقت الذي كان يقاوم فيه المستعمر الفرنسي، وكتبت عنه العديد من الصحف الأميركية مثل (نيويورك تايمز) مقالات صورته فيها بطلاً حقيقياً، حتى أن بعض الأميركيين كانوا يلقبونه بـ(جورج واشنطن) الجزائر”.
وتشتهر مدينة القادر بكونها تحمل العديد من المعالم التي ترمز إلى الأمير عبد القادر، منها متحف المدينة “كارتر هاوس ميوزيوم” الذي يحتفظ بتذكارات للأمير عبد القادر، وكذا لوحات فنية وصور. وتقول روبرت غارمز عمدة مدينة “الكايدر”: “رسالتنا للأميركيين هي أنه ليس كل المسلمين متشددين وقتلة، والأهم بالنسبة لنا هو الاعتماد على التعليم وتثقيف الناس لإيصال الرسائل الصحيحة عن الإسلام”.
فلم تكن لأجدادنا كل تلك الانتصارات التي تستحق الفخر والاعتزاز إلا لأن وقودهم الذي كان يقودهم هو الإسلام، فكانت قوتهم بقوة الله، وعزتهم بعزة الله، وحياتهم ومماتهم من الله وإلى الله، فعن أي ضعف للمسلمين يتحدث بعض المنهزمين؟ وبأي هزائم يحلم بعض الحالمين؟
يقول السياسي البريطاني (روبرت بين) في مقدمة كتابه السيف المقدس: “إن لدينا أسبابًا قويةً لدراسة العرب، والتعرف على طريقتهم، فقد غزوا الدنيا كلها من قبل، وقد يفعلونها مرةً ثانيةً، إن النار التي أشعلها محمد لا تزال تشتعل بقوة، وهناك ألف سبب للاعتقاد بأنها شعلة غير قابلة للانطفاء”.
وكذلك قال (البيرشاميدو) في كتابه (حمراء غرناطة) بعد أن تحدث عن عظمة الآثار الإسلامية في غرناطة: “إن هذا العربي الذكي الشجاع الذي استطاع أن يجمع علم العالم في مائة عام، كما استطاع أن يفتح نصف العالم أيضًا في مائة عام، قد ترك لنا في حمراء غرناطة آثار علمه وفنّه..الذي نام نومًا عميقًا مئات السنين، قد استيقظ وأخذ ينادي العالم: ها أنذا أعود إلى الحياة.. فمن يدري قد يعود اليوم الذي تصبح فيه بلاد الفرنج مهددةً بالعرب، فيهبطون من السماء لغزو العالم مرةً ثانيةً”؟
ولسنا بصدد سرد تاريخ لينام الأطفال، بل هو سرد ليستيقظ الرجال!
يقول الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله: “يقول عنا المستعمرون إننا خياليون وإننا -حين نعتز بأسلافنا- نعيش في الخيال، ونعتمد على الماضي، ونتكل على الموتى، يقولون هذا في معرض الاستهزاء بنا، أو في معرض النصح لنا، وأنا لا أدري متى كان إبليس مذكِراً! ما يرمون إليه أنهم يريدون أن ننسى ماضينا فنعيش بلا ماضٍ، حتى إذا استيقظنا من نومنا أو من تنويمهم لنا لم نجد ماضياً نبني عليه حاضرنا فاندمجنا في حاضرهم وهو كل ما يرمون إليه. وسلوهم: هل نسوا ماضيهم؟ إنهم يبنون حاضرهم على ماضيهم، إنهم يعتزون بآبائهم وأجدادهم، إنهم يخلدون عظماءهم في الفكر والأدب والفلسفة والحرب والفن، إنهم لا ينسون الجندي ذا الأثر فضلاً عن القائد الفاتح، وهذه متاحفهم تشهد وهذه متاحفهم تردد الشهادة”.
فليستذكر كل مَن أشرق قلبه بنور الإسلام أن وعد الله حق، فلا تكتبوا للنصر آجالاً، ولا تستعجلوه استعجالاً، ولا تكونوا أقل إيماناً من سفهاء صدقوا بوعد (بلفور)، ولتؤمنوا بوعد الله الذي لا يخلف وعده، قال جل وعز: “﴿حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف: 110].