ثلاث عشرة سنة للنبوة في مكة
فبراير 9, 2024نحو انطلاقة جديدة لأمتنا
فبراير 9, 2024
بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله.. والصلاة والسلام على رسول الله.. وبعد..
صحيحٌ أنّه لم يَعُدْ بعد الفتح هجرة، لكنّ الهجرة التي انقطعت بالفتح هي – تحديدًا – الهجرة الحسّية من مكة إلى المدينة، أمّا الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، فهي باقية على الدوام، ما دارت الأيام والأعوام، هاتان حقيقتان ثابتتان؛ لذلك لا تعارض بين الحديثين، حديث: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ»، وحديث: «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ»، وأمّا الهجرة العكسية أو الإقامة في دار الكفر أو التجنس بجنسيتها؛ فتلك مسائل أخرى، لها مأخذ آخر، ولها تفاصيل تجعل الحكم يختلف من حالة لأخرى، ومن مكان لآخر، ومن زمان لآخر، وغالباً ما تكون خاضعة لقواعد السياسة الشرعية، ومندرجة تحت قاعدة: (لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان)، وليس ها هنا مكانها.
ها هنا الحديث – تحديداً – عن الهجرة التي وقعت في العهد النبويّ بفعل النبيّ ﷺ وصحابته الكرام، والتي انقطعت في جانبها الحسيّ من مكة إلى المدينة، واتصلت بعد ذلك من دار الكفر إلى دار الإسلام، هذه الهجرة – سواء ما انقطع منها أو اتصل – لها جانب معنويّ سرمديّ وأبديّ، لذلك جاء في الحديثين ذِكْرُ أمورٍ عظيمةٍ باقيةٍ، لا تتأثر بانقطاع هذه أو اتصال تلك، ففي الحديث الأول ذُكِرَ الجهادُ والنفير، وفي الثاني ذُكِرَتْ التوبةُ المتجددة، وهاكم النصيّن: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»(1)، «لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا»(2).
إنّ معنى الهجرة ومغزاها لكبير جليل، وإنّنا لفي مسيس الحاجة إلى استحضار هذا المعنى وهذا المغزى، إنّ الهجرة الدائمة الدائبة؛ من الضعف إلى القوة، ومن التبعية إلى الاستقلال، ومن العبودية إلى الحرية، ومن الخنوع إلى النضال، ومن أغوار الجهل إلى أنوار العلم، ومن العَيِّ إلى الموَاثَبة والمغالبة، ومن الفُرقة والاختلاف إلى الوحدة والائتلاف، ومن اتباع كل نَاعِقٍ إلى اتباع الهدى بوسطيته وربانيته وحنيفيته السمحة؛ إن هذه الهجرة هي المعنى والمغزى، هي الجوهر الذي لا تمثل الهجرة الحسية إلا غلافه الخارجي؛ لذلك كانت التوبة المتجددة هجرة متجددة، وفي الحديث: « وَالـمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ»(3).
لم تكن هجرة النبيّ ﷺ وصحابته إلى المدينة ومِنْ قَبْلُ إلى الحبشة مُجَرَّدَ فرارٍ – ولو بالدِّين من فتنة الكفار والمشركين، بل كانت قبل ذلك هجرة الاستقلال والتمكين، كانت الهجرة من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، من حالٍ حَتَّمَتْ فيه الظروفُ العملَ تحت سقف النظام إلى حال لابد فيه من خرق السقف وتقويض أعمدة النظام.
والذي يراجع سيرة النبيّ ﷺ قبل الهجرة، وكيف كان يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج من كل عام، يعرف كَمْ كانت إرادتُه متوجهةً بإصرارٍ صوبَ التغيير، بل إنَّ من تأمّل السُّوَرَ القرآنية التي كانت تنزل قُبَيْل الهجرة – كَسُوَرِ القصص ويوسف ويونس وهود والإسراء والكهف وغيرها – لوجدها تهيئ الأمة المسلمة للانتقال والتحول من حال الاستضعاف إلى حال التمكين، هكذا يجب أن تُولَدَ فِينَا الإرادةُ، إرادةُ الخلاص، إرادةُ التحول، إرادةُ التغيير.
ليس معقولاً أن نظل هكذا أبد الدهر: ندعو ونربي ونبني الجيل، ثم لا يلبث هذا الجيل بعد أن اشتد عودُه واستوى على سوقِهِ أن يعدو عليه السبع فيلتهمه من بين أيدينا، ويبدده في المتاهات المهلكة، إمّا في السجون والمنافي، وإمّا في أزقة الشهوات والشبهات، ثم نعاود الكَرة ونبدأ من أول السطر؛ ليعاود السبع الكرة هو الآخر فيلتهم ويزدرد وهو مُنْتَشٍ بما يصنع، لابد أنّ هناك خللاً كبيراً، آن لنا أن نعرف أين الخلل، وأن نرتب لهجرة بذلك المعنى وذلك المغزى، هجرة إلى العزّ والمنعة وإلى الفعل لا رد الفعل.
لقد كانت سورة القصص من السور التي نزلت لتهيئ المسلمين للتمكين، واستهلت بهذه البشرى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: 5]، وما إن انقضت البشرى حتى جاء بعدها الخبر بالرحيل المبكر من المواراة والمداراة، إلى المواجهة والوقوف على الخط الساخن، فها هو الرضيع الذي سيناط به التغيير تزج به العناية الإلهية في وقت مبكر؛ ليدخل القصر وهو لا يزال في المهد، وليكون للطغيان عدواً وحزناً: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ﴾ [القصص: 8]، بينما كانت أحلام أمّه متعلقة بما وراء القصر من السلامة والدعة والسكون.
وتحكي لنا سورة يوسف كيف مكنت العناية الإلهية ليوسف في الأرض، وكيف خطت له طريق العلو والرفعة بالاستعلاء على الفتنة بكل صنوفها وكافّة أشكالها، لتقع بهذا الاستعلاء الإيماني معجزة ثورية يكفي لإدراك مداها بالمقارنة بين حال يوسف وآل يعقوب قبل الهجرة إلى مصر وبعده، والمقارنة أيضاً بين حال أهل مصر قبل أن يفد عليهم يوسف عليه السلام وحالهم بعد أن مكّن الله تعالى له، بينما استعرضت هود مصائر الغابرين استعراضاً يشي بقرب هلاك كل طاغية وتصرم بنيان كل طغيان.
أمّا الإسراء والكهف فتتجاوزان بالفئة المؤمنة المستضعفة في مكة حدود ذلك القبو الضيق الذي لا يُرَى فيه أبعدَ من تلك الجبال الراسية التي تحيط بأمّ القرى إحاطة الأسوار بالسجون المغلقة، تتجاوزان بالفئة المؤمنة حدود الحاضر المغلق إلى آفاق المستقبل الرحيب، حيث الهجرة في طلب العلم ولو مضى المهاجر في سبيله حُقُباً، وحيث التمكين شرقاً وغرباً لمن سيؤتيهم الله عز وجل من كل شيء سَبَباً، وحيث لا يلبث الطغيان بعد أن يستفز أهل الإيمان من أرضهم وأوطانهم إلا قليلاً.
إِذَن؛ فنحن بحاجة إلى هذا النوع من الهجرة قبل كل شيء، ولكي يتحقق لنا هذا لابد من توافر الإرادة والعزيمة، فإنّ الإرادة سابقةٌ لكل أمرٍ ذِي بالٍ يكون فيه صلاحُ الحال، لقد كانت الهجرةُ النبويةُ الحدثَ الأبرزَ، والأكثرَ أثراً في مسيرة الأمّة الإسلامية في صدرها الأول؛ إذ كانت الجسرَ الذي عبر عليه الجيل الأول من حال الذل والاقتهار إلى حال العزِّ والاقتدار، ولا يزال الحدث إلى اليوم والغد ملهماً وباعثاً.
فكيف يمكن أن نوظف هذا الإلهام من أجل إحياء الأمة وبعثها من جديد؟ لتنتقل في زماننا هذا من حال التبعية والاستبداد، إلى حال الاستقلال والرشاد؟
هذا هو السؤال الأجدى من بين الأسئلة التي تطرح نفسها على بساط الذكرى السنوية التي نحييها في رأس السنة الهجرية.
([1]) متفق عليه، البخاري برقم (2783) ومسلم برقم (1353)
([2]) رواه أحمد برقم (16906) وأبو داود برقم (2479) والدارمي برقم (2555) وصححه الألبانيّ راجع صحيح الجامع برقم (7469)
([3]) رواه البخاري برقم (6484)