
حجة الوداع
يونيو 17, 2025
من عرفات تبدأ النهضة: الحج كمنصة حضارية للأمة
يونيو 17, 2025بقلم: رونالد ف بودلي – كولونيل بريطاني*
فما من رجل لا يستطيع أن يضحك غالباً بقادر على أن يجتاز كل هذه المحن، وما من رجل له التأثير العام بقادر على أن يجتاز كل هذه المحن، وما من رجل ليس له التأثير العام بقادر على أن يلهم مثل الصداقات المخلصة التي ألهمها، أو مثل حب خديجة وعائشة وزوجاته الأخريات، وما كان يجذب إليه الأطفال، فقد كان يُرى في المسجد وبين يديه طفل وهو يحدث الناس، وكان كثيراً ما يرى وهو يسير وقد وضع يده في يد طفل.
قال محمد: على العبد أن يسعى وعلى الله تحقيق المطالب. فما كان يهمل أمر الله أبدًا، وسواء أقرأ الإنسان كتاباً لمناصري محمد، أو كتاباً لأعدائه، فإنه ليجدهم جميعاً قد اتفقوا على أن البساطة والوقار كانا يعمّان حياته.
والبساطة المتناهية إحدى قوى الإسلام الأساسية، وإنها لإحدى أسباب انتشاره الملحوظ.
لو أن القديس بطرس عاد إلى روما، لامتلأ عجباً من الطقوس الفخمة، وملابس الكهنوت المزركشة، والموسيقى الغربية في المعبد المقرون باسمه، ولن يعيد البخور والصور والرقَى في ذهنه أي شيء من تعاليم سيده (المسيح)، ولكن إذا ما عاد محمد إلى أي مسجد من المساجد المنتشرة بين لندن وزنزبار فسيجد نفس الشعائر البسيطة التي كانت تقام في مسجده في المدينة، الذي كان من الآجر وجذوع الشجر.
كان محمد بشرًا، فكان يقدّر ضعف الآخرين، ويفهم عواطفهم، إن للبساطة أثراً أفضل من التعقيد والالتواء، وإن بعثات التبشير الإسلامية تختلف كل الاختلاف في الدعوة للإسلام عن كل إرساليات التبشير للأجناس الأخرى، فإن المسلمين لا يخرجون مجهزين لهذا الغرض بالذات، فليس هناك «أوامر مقدسة» في الإسلام، فالواعظ كالتاجر والإداري، ثم هناك الحلم والشفقة واحترام عادات الوطنيين، والتسامح في بعض المعتقدات التي لا ضرر منها.
وليس هناك أي عائق لَوني للمسلم، فلا يهم أكان المؤمن أبيض أو أسود أو أصفر، فالجميع يعامَلون بالمساواة. وقضى محمد على فروق الطبقات واللون والأجناس.
الحج أعظم شاهد
والحج أعظم شاهد على ديمقراطية الإسلام، فهناك يجتمع المسلمون والأوربيون والآسيويون والأفريقيون، والصعاليك والأمراء، والتجار والمقاتلون، في نفس الإزار البسيط الذي كان محمد وأتباعه يرتدونه في حجة الوداع عام ٦٣٢، إنهم جميعاً يتناولون نفس الطعام، ويتقاسمون نفس الـخِيام، ويعامَلون دون تمييز سواء أجاءوا من مرافئ سيراليون أم من قصر نظام حيدرآباد، إنهم جميعاً مسلمون، إن هذا لهو الميزة الكافية، ولهم في مؤسس هذا الدين أسوة، فقد حكم جزيرة العرب ولكن ما كان يجد ما يضيره في تناوله الطعام مع عبد من العبيد، وفي مشاركته ابن السبيل تمرة من التمرات.
أكان في مقدور رجل، ما لم يكن ملهماً، أن يأتى إلى الوجود بمثل هذه الأخوّة العالمية؟ ألا تنعكس سخرية معادي الإسلام عليهم! وكيف يترك (دجال) عقيدة ازدهرت ونمَت بعد موته؟ إن عدد معتنقي الإسلام يزيد اليوم بمقدار ربع مليون في كل عام! وهذا دون ضغط أو إرهاب لنشر رسالة الإسلام.
ولم يكن محمد بولص1، وكان جنوده هم ناشري الإسلام الأصليين، وإنهم قد تركوا الإسلام ثابت الدعائم حينما ذهبوا، وهذا مما يجعل المرء يسأل: ماذا كان يحدث لو أنه كان هناك إرساليات عربية عظيمة تبشر بالقرآن كإرساليات المسيحية الأولى؟ وما كان هناك دعاة عظام للإسلام بالمعنى المعروف، فقد كان الناس الذين يتعاملون مع هذا الدين يحبونه، فكانوا يقبلونه ويدخلون فيه، وفي الناحية الأخرى، فإن الإسلام لم يبقَ في دولة تختلف عن مكان مولده كل الاختلاف، فقد حكم المسلمون إسبانيا حكماً رائعاً خمسة قرون، ولكن عاد الملوك المسيحيون، وبفضل ديوان التفتيش المقدس خبت عقيدة المسلمين وماتت، وزيادة على ذلك فما كانت أوروبا لتعتنق الإسلام لو أن )شارل مارتل( قد هزم في )تور(، فهذا الدين يوائم أناساً غير معقدين، أناساً أرواحهم قريبة من الطبيعة.
والعرب حقاً غير معقدين، وكان محمد غير معقد، والاعتراض بأنه عقد حياته بتزوجه من زوجات كثيرات اعتراض غير عادل، فإنه كان يتبع عادة فقط، و لا يمكن الحكم على دولة أو منطقة بدولة أخرى أو منطقة أخرى، وهذا الحريم كباقي قصة محمد، يتعلق بعادات الأسرة، التي سادت كل شيء في حياته.
ومن سوء حظ كثير من كُتاب سير محمد أنهم يصدرون أحكامهم دون تردد، ودون تقدير للظروف المشتركة. فأغلبهم لا يعرفون شيئاً عن العرب، وما ساكن الواحة أو البدوي أو شاحن الوسق في بيروت إلا على عربي آخر، عرفى قذر عادة.
إنه لمما يستحق الاهتمام أن نرى سيرة القديس بولص مكتوبة بقلم مسلم، إنها ولا شك ستكون أكثر اتساعاً من أغلبية ما نشره المسيحيون عن محمد.
كان محمد يقول: “اللهم اغفر لنا خطايانا، وكفّر عنا سيئاتنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين”.
كان الله ملاذه الوحيد من خطاياه، ولم يتسامح أبداً في النفاق، فإنه لما كان الرجال يأتون إليه ويقولون في تفاخر: أما أنا فإني أصلي الليل أبداً. و: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. و: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً.. فإنه كان يقول لهم: “أما والله إنى لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغِب عن سُنتي فليس منّي”.
وأجاب في صراحة من سأله عما يحب من الدنيا: “إنما حُبب إليّ من الدنيا النساء والطيب، وجُعلت قرة عيني في الصلاة”.
ولندع ذلك الرجل الأمين الذي كان يحافظ على روح المرح على الرغم مما يعانيه، مستريحاً حتى ذلك اليوم الذي يعرف فيه قدره كل إنسان.
﴿یَوۡمَىِٕذࣲ یَصۡدُرُ ٱلنَّاسُ أَشۡتَاتࣰا لِّیُرَوۡا۟ أَعۡمَـٰلَهُمۡ * فَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَیۡرࣰا یَرَهُۥ * وَمَن یَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةࣲ شَرࣰّا یَرَهُۥ﴾ [الزلزلة: 6-8].
﴿لِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا فِیهِنَّۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرُۢ﴾ [المائدة: ١٢٠].
ـــــــــــــــــ
1 يقصد المؤلف أن المسيح لم يتم رسالته وقد عمل بولص على نشر المسيحية، أما محمد ﷺ فقد أتم رسالته.